خلال خمسة أشهر من الولاية الثانية للرئيس الصومالي حسن شيخ محمود تغيرت الخارطة الأمنية الصومالية إلى حد كبير بعد عمليات عسكرية شنها الجيش الصومالي بمعاونة العشائر ساهمت في انحسار كبير لنفوذ تنظيم “الشباب المجاهدين” الذراع الصومالية الضاربة لتنظيم القاعدة والذي كان قد تمكن من توسيع نطاق سيطرته على خُمس مساحة الصومال، مقدما نفسه كحركة جهادية عالمية في منطقة القرن الأفريقي تتبنى فكرة الخلافة.
الثورة / أبو بكر عبدالله
يتطلع أكثر الطيف السياسي والعشائري في الصومال لأن يحرز الرئيس حسن شيخ محمود نجاحا جديدا في حربه التي يقودها على تنظيم “الشباب المجاهدين” الذراع الضاربة لتنظيم “القاعدة” في القرن الأفريقي بعدما تحول إلى خطر وجودي يهدد بناء الدولة الصومالية الحديثة، جعل اجتثاث التنظيم المتطرف أولوية لدى الشارع الصومالي الذي أفاق مؤخرا على هجمات انتحارية نفذها التنظيم المتطرف في العاصمة مقديشو أوقعت عشرات الضحايا المدنيين.
والعمليات الإرهابية الأخيرة بدا أنها زادت من إصرار الصوماليين الذين تمكنوا من طي صفحة ثلاثة عقود من الحروب والفوضى وغياب الدولة، إلى طي نهائي لصفحة تنظيم “الشباب المجاهدين” الذي ظهر في العام 2004م كأحد تجليات الفوضى التي عاشها الصومال خلال عقود الحرب الأهلية، وينظر اليه اليوم كواحد من أكبر التهديدات الأمنية التي تواجه مشروع بناء الصومال الفيدرالي الحديث.
تكبد الصومال خلال السنوات العشر الماضية فاتورة خسائر ثقيلة في الأرواح والمنشآت وغياب الحالة الأمنية من جراء سيطرة التنظيم الأصولي على عشرات البلدات والاقاليم ولا سيما في وسط وجنوب الصومال، إلا أن التنظيم تحول في العامين الآخرين إلى خطر وجودي بعدما تمكن من توسيع نفوذه في الداخل الصومالي بصورة كبيرة، ناهيك عن توجهاته لتأسيس منظومة عسكرية لها امتدادات إقليمية عبر نشر تشكيلات مسلحة وبؤر إرهابية عابرة للحدود نحو كينيا وأوغندا وإثيوبيا واريتريا وصولا إلى جنوب السودان.
هذا الأمر كان الأول في قائمة التحديات التي وضعها الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود منذ انتخابه رئيسا للصومال منتصف العام الماضي، كأولويات، حيث أعلن عزمه تحرير الصومال من سطوة الإرهاب الذي ظل يسيطر على العديد من المدن والمناطق الصومالية خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى وكذلك خلال فترة ولاية سلفه الرئيس السابق محمد فرماجو.
دفعت المخاوف لدى الشارع الصومالي من خطر التنظيم المتطرف، الرئيس محمود إلى تبني استراتيجية شاملة متعددة المحاور للقضاء على تنظيم “الشباب المجاهدين” الذي يُصنّف حاليا بكونه الذراع الأقوى لتنظيم “القاعدة” في القارة الأفريقية، لتتمكن الجهود الحكومية خلال شهرين فقط من دحر مسلحي التنظيم من نحو 40 مدينة وبلدة وقرية جنوبي ووسط الصومال.
استراتيجية شاملة
ظل تنظيم “الشباب المجاهدين” الكابوس الذي يؤرق الحكومات الصومالية خلال العشر السنوات الماضية، في ظل التقديرات التي كانت تشير إلى أنه صار الفرع الأقوى لتنظيم “القاعدة” في افريقيا من نواحي التمويل والتسليح والمجندين، غير أن الاستراتيجية التي انتهجها الرئيس حسن شيخ محمود تحت شعار “صومال متصالح مع نفسه” انتجت تحالفا قويا بين الجيش وزعماء العشائر، تمكن من قلب المعادلة العسكرية كليا، كما عزز الثقة بقدرة الحكومة على التصدي لخطر التنظيم وهزيمته داخل الأراضي الصومالية وخارجها.
دشن الرئيس محمود هذه الاستراتيجية، بعد فشل مساعيه للحوار مع قادة التنظيم الأصولي الذين أعلنوا في يونيو الماضي رفض التفاوض مع الحكومة وسعيهم للإطاحة بالنظام الحاكم استنساخ تجربة حركة طالبان في أفغانستان، في مقابل تعهدات أطلقها الرئيس محمود بتحرير مناطق الجنوب والوسط من سيطرة التنظيم المتطرف.
أكثر ما كان يحتاجه الرئيس الصومالي هو تفكيك البنية القيادية للتنظيم المتطرف وتاليا إسناد العشائر الصومالية التي طالما وفرت الحاضنة لمسلحي التنظيم الإرهابي، وذلك دفعه لتبني استراتيجية شاملة، تضمنت إلى جانب التحالف مع العشائر، اعلان المصالحة مع المنشقين من التنظيم وتطبيق برامج لإعادة تأهيلهم وادماجهم في المجتمع والدولة الصومالية.
هذه الخطوة افقدت التنظيم جزءاً كبيراً من قواته، كما افقدته الحاضنة الشعبية في مناطق كان يصعب النفاذ اليها، وتعزز ذلك بتسليح الحكومة عدد كبير من العشائر التي استجابت لدعوة الرئيس محمود بتنحية خلافاتها جانبا والتفرغ لمواجهة الخطر المشترك المتمثل بتنظيم “الشباب المجاهدين”.
وبالتوازي مع انتصارات كبيرة حققها الجيش الصومالي مسنودا بجبهة شعبية بدت متماسكة في مناطق الوسط والجنوب حيث الأوكار الرئيسية للتنظيم، تمكن الجيش الصومالي الفيدرالي من توجيه ضربات قوية لأوكار التنظيم في المناطق الحدودية بالتعاون مع إثيوبيا وكينيا، ما أفقد مسلحي التنظيم العديد من الملاذات الآمنة التي طالما مكنت مقاتليه من التحرك بحرية وشن الهجمات الدامية بداخل العاصمة الصومالية.
زاد من ذلك حملات التوعية الدينية التي قادتها الحكومة الصومالية واستهدفت كشف مناهج وأفكار التنظيم المتطرف في جميع انحاء الصومال فضلا عن شروعها بتنفيذ الجانب الفكري المتمثل ببرامج إعادة التأهيل والذي أتاح فرصا للحكومة الصومالية في تشجيع أعضاء التنظيم على الانشقاق واحتوائهم وتأهيلهم والتي أدت في النتيجة إلى إضعاف التنظيم بصورة كبيرة.
وهذه التحركات لم تكن الوحيدة التي ساعدت الحكومة الصومالية في تطويق كتائب وبؤر مسلحي “الشباب المجاهدين” فحالة الغضب الشعبي من الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها مسلحو التنظيم في القرى والبلدات التي سيطر عليها لسنوات لعبت دورا كبيرا في تعزيز الإرادة الشعبية للمشاركة في جهود اجتثاث التنظيم من مناطقهم، ما ساعد في تحرير أهم وأخطر الأوكار الرئيسية للتنظيم.
انتصارات كبيرة
ببراعة استثمر الرئيس محمود مشاعر الرضا التي اكتنفت الأطياف السياسية والعشائر الصومالية بعد انتخابه رئيسا للبلاد خلفا للرئيس محمد فرماجو الذي أقحم نفسه في معارك سياسية وعسكرية خاسرة قبيل مغادرته القصر الرئاسي، في خطوة تكللت باستجابة أكثر العشائر الصومالية في أقاليم الوسط والجنوب لدعواته التخلي عن دعم حركة الشباب والاصطفاف إلى جانب الحكومة في حربها على التنظيم الإرهابي.
وتبرز أهمية الانتصارات الأخيرة التي حققتها الجيش الصومالي بمعاونة زعماء العشائر والاسناد الجوي الأمريكي التركي على مسلحي التنظيم المتطرف، عند النظر إلى سجل الفشل الحافل الذي مني به الرئيس السابق فرماجو وحكومته التي وقفت عاجزة أمام التوسع الكبير للتنظيم في مناطق عدة بإقليمي الوسط والجنوب، ساعدته في زيادة مصادر تمويله لتبلغ وفقا لبيانات دولية نحو 100 مليون دولار كانت تجمع من الضرائب وابتزاز الشركات والتجار المحليين.
والعنصر الأهم في هذه الانتصارات، أنها لم تقف فقط عند تحرير عشرات القرى والبلدات التي كانت خاضعة لسيطرة التنظيم المتطرف، بل في كبحها للزخم الذي حصل عليه التنظيم الإرهابي الذي شرع بمخطط انتشار يتجاوز الحدود الصومالية مقابل انحسار نفوذ الجيش الصومالي على العاصمة مقديشو التي ظلت عرضة لهجمات إرهابية أوقعت مئات الضحايا.
يشار في ذلك تمكن الجيش الصومالي والعشائر من طرد مسلحي التنظيم من مناطق استراتيجية حصينة في اقاليم شبيلي الوسطى وشبيلي السفلى وهيران وجلدود بما فيها بلدة بصرة الاستراتيجية الواقعة على بعد 40 كيلومتراً جنوب العاصمة مقديشو ليصل العدد الإجمالي للبلدات التي خسرها التنظيم خلال شهرين فقط إلى نحو 40 بلدة، اكثرها كانت تمثل معسكرات استقطاب وتدريب لعناصر التنظيم المتطرف وقواعد عسكرية ومراكز تحكم.
انقسامات وهزائم
يصف الكثير من المراقبين الانتصارات التي حققها الجيش الصومالي وزعماء العشائر في أهم مناطق تمركز تنظيم “الشباب المجاهدين” في وسط وجنوب الصومال بأنها تاريخية، بعد أن افلحت في تفكيك بنية تحتية كبيرة شيدتها حركة الشباب خلال عشر سنوات، في الوقت الذي كانت فيه الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب في القارة الإفريقية تتراجع بصورة كبيرة.
والمؤكد أن تحالف الحكومة الصومالية مع العشائر كانت العامل الحاسم في تغيير المعادلة العسكرية لصالح الحكومة الفيدرالية وجيشها الذي تمكن من النفاذ إلى أكثر مناطق التنظيم الحصينة مسنودا بمقاتلي العشائر أصحاب المعرفة بجغرافية هذه المناطق وقبائلها.
بالمقابل ظهر التنظيم المتطرف في حالة تخبط ويأس بمحاولاته توجيه رسائل بقدرته على الصمود وإعادة لملمة قواته، من خلال شن هجمات انتحارية وسط المدن بما في ذلك محاولات هجوم فاشلة على منشآت بالقرب من القصر الرئاسي في العاصمة مقديشو.
وفي الوقت الذي كان قادة التنظيم ينتظرون أن تؤدي هجماتهم الانتحارية في العاصمة مقديشو إلى إعادة لملمة صفوفهم المشتتة، كانت النتائج معاكسة أيضا، حيث اثارت موجة انقسامات في صفوف قيادات الحركة وصفت بأنها الأكبر منذ انشقاق القيادي في التنظيم مختار روبو عام 2013، الذي عُين لاحقا وزيرا للشؤون الدينية في الحكومة الحالية، بعد أن شغل منصب نائب قائد الحركة والمتحدث باسمها، ما شجع الكثيرين على الانشقاق عن التنظيم المسلح.
ماذا بعد؟
في حال سارت الأمور وفق توقعات الحكومة الصومالية، فهناك احتمالات قوية بأن يتوج الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود بوسام آخر بوصفه الرئيس الذي استطاع تطهير الصومال من أكبر تهديد إرهابي ممثلا بتنظيم “الشباب المجاهدين” الذراع الضاربة لتنظيم “القاعدة” في القرن الأفريقي، ما قد يمنحه فرصا كبيرة لقيادة دور إقليمي بالتنسيق مع الدول المجاورة للصومال في إطار دعوته إلى استراتيجية شاملة للحرب على الإرهاب تشمل كل دول القرن الأفريقي.
هذا الأمر لا يبدو أنه طموح سياسي للرئيس محمود بل برنامج عمل أكده مؤخرا في تصريحاته التي أعلن فيها حتمية الاستمرار في التعاون مع المحيط الإقليمي بشكل أوثق وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والجهود المشتركة لمواجهة التطرف، وهي التصريحات التي انطوت على رسالة بضرورة إنشاء تحالف اقليمي جديد من شأنه أن يردع أي محاولات لعودة نشاط التنظيم من خلال العمل بشكل أوثق مع الشركاء الاقليميين لتعزيز امن الصومال وأمن الدول المجاورة وخصوصا تلك التي افصحت تحركات التنظيم الأخيرة أنها تقع ضمن دائرة أهدافه وفي المقدمة كينيا واريتريا واثيوبيا وجنوب السودان.
والمتوقع أن الانتصارات المحققة في الأراضي الصومالية من شأنها أن تشجع دول القرن الإفريقي أو بعضها على الأقل للمشاركة في تحالف استراتيجي يستثمر النجاحات المحققة في الصومال لدحر فروع تنظيم “الشباب المجاهدين” العابرة للحدود وغيره من التنظيمات المتطرفة التي تؤكد التقارير الدولية أنها لا تزال ناشطة في العديد من دول القرن الأفريقي.
ولعل ذلك يساهم أيضا في إنتاج أرضية جديدة يمكن من خلالها إعادة الحياة لمشروع التحالف الثلاثي بين إريتريا والصومال وأثيوبيا الهادف إلى تعزيز الأمن في الدول الثلاث، كقاعدة أساسية لمشاريعها في تحقيق طفرة اقتصادية وتجارية مثالية تواجه شبح المجاعة الذي خلفته ظاهرة الجفاف.
احتياجات ملحة
تبقى أمام الرئيس الصومالي تحديات كبيرة، للحفاظ على الانتصارات المحققة وتوسيع التنسيق الإقليمي للحرب على الإرهاب، يتصدرها البحث عن مصادر تمويل دائمة لبعثة الاتحاد الإفريقي “أتميس” بما يمكنها من تفعيل نشاطها في تأهيل وتدريب القوات الصومالية الوطنية.
كما سيحتاج إلى حشد جهود إقليمية ودولية متناسقة لمحاصرة التنظيم على شاكلة فرض عقوبات أممية على الدول والأشخاص والجهات المتهمة بدعم حركة الشباب المجاهدين بالسلاح أو تمويلها ماليا ناهيك عن حاجته إلى تأمين حدود بلاده لمنع أي نشاط جديد للتنظيم عابر للحدود.
أكثر من ذلك سيكون بحاجة إلى تعزيز الالتفاف الشعبي لمشروعه في تحرير البلاد من الإرهابيين، والعمل على اعادة تأهيل الجيش وتعزيز قدراته، والمضي بخطة المصالحة الداخلية اجتماعيا وسياسيا من أجل نشر الحكم الرشيد وحل جميع العقد التي قد تشكل تهديدا لنظام الدولة.
وهذه الخطوات تُعد أساسية ليتمكن الرئيس محمود من المضي في خطته للنهوض الاقتصادي والتي أعلن سابقا أنها ستتضمن إعادة تشكيل البنية الاقتصادية في البلاد من أجل الانتقال من مرحلة الاقتصاد غير المنظم إلى الاقتصاد المنظم، وإنجاز الخطوات الأخيرة في برامج الإعفاء من الديون والشروع بإجراءات لمواجهة آثار أزمة الجفاف التي تضرب الصومال للعام الثالث على التوالي.