الثورة / حمزة الشاخوري*
يستحضر ملوك وأمراء آل سعود بشكل مستمر ودائم مخزون ذاكرتهم الاحتلالية ولا تغب عن بالهم مشاهد معاركهم الدموية ضد المجتمعات والقبائل في شبه الجزيرة العربية والحجاز إبان غزواتهم في القرن السابع عشر ثم التاسع عشر التي انتهت إلى إنشاء كيان حكمهم الأول ثم نسخته الانجليزية المحدثة أمريكيا والمستمرة حتى اليوم. ولا يستنكف الأمراء السعوديون من تذكير نخب الشعب والقوى الطامحة إلى إحداث تغييرات جوهرية تفضي إلى تكوين دولة تتوفر على المقومات والمتطلبات الضرورية واللازمة لبناء دولة شرعية تمثل مجموع المكونات الشعبية المنضوية تحتها وفي ظلها.. بأنهم انتزعوا حكمهم بالسيف ولن يشاركوه أحدا أو ينتزعه منهم أحد بغير السيف، ففي العام 2003 قدمت ثلة من النخب السياسية الإصلاحية من مختلف مناطق البلاد عريضة «رؤية لحاضر الوطن ومستقبله» للملك عبدالله بن عبدالعزيز، فاستشاط غضب نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية الأسبق واستدعى أبرز الموقعين عليها وكانت العبارة الأبرز في تهديده لهم «هذا الحكم أخذناه بالسيف واللي عنده سيف خله يواجهنا»!!
بهذه العقلية خطط آل سعود وعملوا مبكراً على اجتثاث كل عناصر ومظاهر وملامح التكوين الهُوياتي للمجتمعات المحلية في المناطق التي احتلوها وأرادوا فرض نمط هوياتي واحد عناصره محصورة في: العقيدة الوهابية، والمورث النجدي، وتاريخ آل سعود، ذلك التاريخ الذي كُتب بناء على روايتهم وتلبية لرغباتهم، وكانت عينهم ترنو إلى محو وطمس الهُويات المحلية لتلك المناطق برغم غناها العقدي والثقافي والتاريخي والاجتماعي، حتى تسود هُوية نجد وعقيدتها الوهابية ويصبح الحكم السعودي مبدأ التاريخ ومنتهاه ومحور الحياة اليومية لدى المجتمعات في الجزيرة والحجاز.
لقد عمل الأمراء السعوديون مدعومين بحلفائهم الوهابيين النجديين عبر مختلف الوسائل وفي كافة الحقول والأمكنة كالمدارس والمساجد والأندية والجمعيات على مصادرة كل شيء لا ينتمي إلى نجد وآل سعود والدفع به إلى رفوف النسيان والزوايا المعتمة، مقابل استحضار رموز الهوية «السعونجدية» المراد إحلالها وإبرازها هوية سائدة ووحيدة. فالمناهج التعليمية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية وتغطيات الصحف لا تعرف لشعب الجزيرة العربية والحجاز سوى اللباس والعرضة والثقافة والشعر والقصيدة واللهجة النجدية، هكذا يغيب الحجاز بكل ثقله الديني المقدس وجذوره التاريخية ونخبه العلمية العظيمة ودوره الحضاري البارز، كما يغيب تاريخ إقليم الأحساء والقطيف وثقافته وفلكلوره وأدبه وحضوره الحضاري البارز في التاريخ العربي والإسلامي، كما يغيب تاريخ مناطق الجنوب في عسير وجيزان بمورثه الكبير المتصل بتاريخ وثقافة اليمن العظيم، ولم يكن حظ تاريخ وفلكلور مناطق الشمال المتداخل تاريخيا وثقافيا مع الشام والعراق أفضل حالاً، كل ذلك يقابله اصطناع تاريخ مزوّر لنجد «قرن الشيطان» وترويج ثقافة التكفير واستباحة الدماء والأعراض الوهابية المتوحشة، وإبراز أمراء القتل والأجرام من آل سعود على أنهم المنقذين والمُخلِّصين الذين اصطفاهم الله تعالى!
ومنذ العام 2017 شهدت الحرب على هُويات المناطق والمجتمعات الواقعة تحت الاحتلال الاحتلال السعودي تصاعداً ملحوظاً كماً وكيفاً وهي أشد خطراً من ممارسات السلطة السعودية في العقود السابقة، ما يفرض على المتضررين مواجهة مختلفة وأكثر صلابة وذكاء لحماية هوياتهم وضمان توريثها للأجيال القادمة أصيلة نقية.
كانت البداية في 25 أبريل2016 بالإعلان عن ما سمي «رؤية 2030» التي اكتنفت بين سطورها في البعدين الاجتماعي والثقافي قرار استئصال الهوية الإسلامية وإعلان الحرب على أخلاق المجتمعات المحلية وثقافتها وسلوكها وتقاليدها وأعرافها، وفتح البلاد أمام موج التغريب الحضاري بكل حمولته النيوليبرالية الحداثية وما تعنيه من رفع الحواجز والقيود أمام الانحلال والانحطاط والتفسخ والفساد تحت عناوين الانفتاح والحريات الشخصية والتلاقح الثقافي والحضاري مع المجتمعات الأخرى!
كما شكل حصار مدينة العوامية شمال محافظة القطيف وهدم مسوّرتها التاريخية وتجريف مساحات شاسعة من أحيائها السكنية والتجارية بكل ما حوته من آثار وموروث، وما ترافق معه من قتل وجرح العشرات وتهجير المئات من مساكنهم التي تمت مساواتها بالأرض، عنوان البدء بمخطط «إعادة الهندسة الاجتماعية» وتغيير التركيبة الديموغرافية وخلخلة الروابط المجتمعية للسكان المحلي، وتهيئة المناخ العام لاستقبال موج التغيير الثقافي العارم، وسرعان ما وجدنا الآلية نفسها وإن على نحو أقل وحشية وعنفاً تتكرر في الحويطات بمنطقة تبوك ثم في جدة وصولاً إلى مكة والمدينة وعودة مرة أخرى إلى منطقة القطيف بالتركيز على أحيائها المكتظة بالسكان لتشتيتهم وانهاء الروابط المجتمعية القائمة، وفي جميع هذه المناطق لم يتم توفير وصيانة قدسية أماكن العبادة من مساجد وحسينيات، ففي القطيف وحدها ومنذ لحظة الهجوم على مسوّرة العوامية العام 2017 وحتى اليوم تم هدم وإزالة 31 مسجدًا وحسينية.
وتنكشف الأهداف المختبئة وراء مخططات التدمير التي تمررها السلطة السعودية تحت عناوين إزالة العشوائيات والتنمية والتطوير والتوسعة والإعمار حين نتأمل ما يرافقها وما يتبعها من إجراءات منها:
• تغيير واستبدال أسماء المناطق والشوارع والأمثلة على ذلك بالعشرات حيث تم استبدال مسمّى «وسط العوامية» بـ»مسّورة العوامية» و»جزيرة دارين وتاروت» بـ»جزيرة تاروت» سعياً لمحو ذاكرة تاريخية ممتدة آلاف السنوات في عمق التاريخ وبناء ذاكرة حديثة مشوّهة تستتبع تزوير وعي الأجيال الناشئة واللاحقة بجذورها ومكونات هويتها التاريخية.
• إفراغ المناطق المأهولة، من السكان الذين نشأوا وعاشوا وتقاسموا تجارب الحياة بحلوها ومرّها معاً وقطع الصلات والوشائج الاجتماعية التي تربطهم ببعضهم وترسّخ بينهم قيم التكافل والتعاضد والتعاون، وهو اجراء ينطوي على استهدافات متعددة سياسية واجتماعية وثقافية وحتى نفسية. آل سعود يعتبروا تلك المناطق التي شكلت خزانا لرفد الاحتجاجات بؤرا مرشحة للانفجار في أية لحظة تاريخية مؤاتية، لذلك يعملون على تشتيت قاطنيها وإلجائهم مضطرين للتوزع على عدة مخططات ومناطق سكنية متباعدة لا يعرف قاطنوها بعضهم البعض ولا تربط بينهم وحدة المعاناة والأهداف والتطلعات المشتركة، مما يُضعف أو يعدم فرص ولادة أية مشاريع اجتماعية أو سياسية مشتركة بينهم.
• استيراد وتعميم هوية وتراث المحتل «السعونجدي» وترويج عناصرها ورموزها وإشاراتها كاللباس والعرضة والأكلات والحِرف، وإعادة بناء المِعمَار وفق الهندسة التراثية للمحتل النجدي المختلفة كلياً عن المعمار المحلي سواء في الأحساء والقطيف أو الحجاز أو باقي المناطق المحتلة.
• منع الاحتفاء بالرموز المحلية كالمناسبات الدينية والثقافية ومحاربة كل ما يرمز إلى الفلكلور المحلي يقابله تنشيط رموز المحتل النجدي وابتداع مناسبات للاحتفاء بمآثره ورجالاته الذين عاثوا في الجزيرة والحجاز قتلاً وتدميراً وفسادا ونهباً للثروات العامة والممتلكات الخاصة منذ شنوا غزواتهم تحت شعار «الفتح» في القرنين السابع عشر والتاسع عشر. هكذا يصبح في عرف آل سعود وقوانينهم الاحتفال بمولد الإمام الحسن المجتبى سبط النبي محمد «ص» جريمة ويستعاض عنه بحفلات الرقص الماجنة وسط الساحة التي أقيمت على أنقاض مسوّرة العوامية، للتغني بالأمجاد السعودية التي أراقت دماء أبناء المنطقة نفسها، في سلوك اعتاده المحتلون بحق ضحاياهم إمعانًا في الإيذاء والإذلال واستعراضًا لنزوة ونشوة الغلبة والقهر!!
• إخضاع النشاط الديني والثقافي للرقابة الصارمة، وتجريم كل ما يخالف ويتجاوز الخطوط الحمراء التي تحددها السلطة «السعونجدية» في الرياض، تلك الخطوط التي تقلب المعروف منكرًا والمنكر معروفًا وتريد من علماء الدين والمصلحين والتربويين والكتاب أن يروجوا لكل منتجات رؤية محمد بن سلمان بحمولتها الثقافية والسلوكية الماجنة والمنحطة، وأن يلتزموا الصمت أمام ممارسة كل الموبقات والفواحش على مقربة من بيت الله الحرام والمسجد النبوي الشريف!
• وهناك هدف أمني تستبطنه السلطة السعودية ولا تعلن عنه، وهو كشف مناطق الاكتظاظ السكاني ذات المعابر والطرق والممرات الضيقة التي يصعب على عناصر السلطة الأمنية والعسكرية اقتحامها لعدم معرفتهم بمداخلها ومخارجها بقدر ما يعرفه ساكنوها، لذلك يلجأ النظام السعودي إلى هدم وتدمير كل الأحياء القديمة دون اعتبار لتاريخيتها وما تشكله من إرث ثقافي ومعماري بغرض حرمان المجتمع المحلي من قدراته على التحصن والاختباء من هجمات ومطاردات أجهزة «الأمن السعونجدية».
هذا المخطط الذي ينفذه النظام السعودي بشكل متسارع وفي استهتار فج بكافة القيم والمبادئ الدينية غير عابئ بثقاقة وأعراف وتقاليد المجتمعات المحلية ولا بمواقف علماء الدين ومشايخ القبائل والنخب والقوى السياسية والمجتمعية المختلفة، ودون أي اعتبار أو مراعاة لمصالح وحاجات المجتمعات المحلية.. هذا المشروع «السعونجدي» يشكل خطراً داهمًا يتهدد هوية وثقافة شعب الجزيرة والحجاز ويهدد هوية وثقافة الأجيال القادمة، ما يستدعي استنفاراً فوريا من كافة القوى الواعية للبدء بتفعيل برامج التحصين والحماية انطلاقًا من الأسرة والمنزل وصولاً إلى جميع بؤر وميادين التثقيف والتربية، وكما نجح جيل الأجداد والأباء في مواجهة وإفشال مخططات الملوك السعوديين الأوائل فإننا على ثقة تامة بأن مجتمعاتنا لا تزال بخير وتحتضن قوى طليعية واعية بدينها وتاريخها وثقافتها وحريصة على توريث إرثها النقي الطاهر إلى أبنائها وأحفادها وصيانة هويتهم.. وستنجح في تحقيق ذلك!
*عضو الهيئة القيادية في لقاء المعارضة في الجزيرة العربية