تصعيد بالسلاح والعزلة لمواجهة رهانات حرب الشتاء:

تنامي الضغوط الغربية.. هل يجر موسكو إلى حرب مع الجوار؟

 

 

مقابل عمليات عسكرية للجيش الأوكراني فاجأت الروس والمجتمع الدولي باستهدافه قواعد عسكرية في جنوب روسيا، تصاعدت التحركات التي تقودها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لاستثمار زخم الانتصارات الأوكرانية الصغيرة بزيادة الضغط على روسيا، في ملفات طالما سعت موسكو إلى تأخيرها، تتصدرها محاولات واشنطن إقحام دول أوروبا الشرقية في الحرب ومساعي القارة العجوز لفرض المزيد من العزلة الدولية على روسيا.

الثورة  / أبو بكر عبدالله

بعد 10 أشهر من الحرب التي تقودها روسيا في أوكرانيا، بدت ملامح الترنح الروسي في معادلة الحرب، بعدما أخفقت في الحفاظ على المناطق الأوكرانية التي ضمتها للأراضي الروسية وتحولها من نسق الهجوم إلى الدفاع واستمرار الهجمات الأوكرانية على الجمهوريات التي ضمتها روسيا إلى أراضيها، وسط مفاجآت غير متوقعة بصمود الجيش الأوكراني في العديد من الجبهات، وشنه عمليات عسكرية نوعية استطاعت لوصول إلى العمق الروسي.
والهجمات الأوكرانية الأخيرة التي استهدفت المطارين الاستراتيجيين في جنوب روسيا “دياغيليفو” و”انغليز” باستخدام طائرات مسيرة سوفيتية من طراز TU141، وأسفرت عن مقتل 3، بقدر ما عززت الثقة لدى الجيش الأوكراني الذي يتكبد خسائر كبيرة منذ فبراير الماضي، فقد كانت عاملا مشجعا للغرب الداعم لكييف، إذ اعتبره مسؤولون غربيون تحولا ميدانيا مهما سيكون له تأثيره على الداخل الروسي والجيش الروسي في آن.
ذلك أن العملية كسرت قانون التفوق الكامل الذي فرضته موسكو منذ بدء عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وصار بإمكان السلاح الأوكراني الوصول إلى الأراضي الروسية، بعد أن كانت موسكو قد أعلنت تدمير القدرات العسكرية الأوكرانية خلال الأيام الأولى للحرب، الأمر الذي عززت الثقة لدى الحلفاء الغربيين، بعد أن كانت نذر وقف الدعم الغربي لكييف قد ظهرت في العديد من العواصم الغربية نتيجة اهدار الدول الأوروبية كميات هائلة من سلاحها وذخيرتها في الحرب الأوكرانية دون أن يتمكن الجيش الأوكراني من أحراز أي تقدم، ناهيك عن المشاكل الاقتصادية التي تواجهها معظم بلدان القارة الأوروبية.
وعلى أن الحرب بالمفاهيم العسكرية كر وفر، فهناك من يرى أن الجيش الأوكراني حاول بهذه العمليات تحقيق معادلة توازن الردع بحدها الأدنى، عندما استهدف بطائرات مسيَّرة قاعدة كورسك الجوية الروسية في جنوب روسيا، حيث شوهد الدخان يتصاعد منها في صور التقطها الأقمار الصناعية في حدث بدا كبيرا للغاية تتعرض له دولة عظمى بحجم روسيا.
غير أن موسكو كانت لديها قراءة مختلفة إذ اعتبرته واحدا من تداعيات الدعم الأمريكي الغربي لأوكرانيا، كما اتهمت حلف الناتو” بالضلوع بهذه الهجمات، ناهيك عن تأكيد مندوب روسيا في الأمم المتحدة أن مشاركة الولايات المتحدة ودول أخرى في توجيه الضربات الأوكرانية ستكون لها عواقب قانونية.
حيثيات هذا الاتهام تشير إلى أن الهجمات الأوكرانية الأخيرة على المطارات الروسية كانت عمليات استخباراتية غربية في إطار الدعم الذي يقدمه الغرب للجيش الأوكراني، والذي تحول من دعم بالأسلحة الدفاعية إلى الأسلحة الهجومية، سعيا إلى استفزاز روسيا ودفعها لعمليات واسعة تحدث المزيد من الخراب الذي يقلل فرص التسويات السياسية للأزمة وإنهاء الحرب.
غير أن هذه الفرضية تبقى في دائرة الاحتمالات غير المؤكدة، فعمليات كهذه تبدو من زاوية أخرى خيار الضرورة للجيش الأوكراني الذي يدرك أن استمراره بتجرع الخسائر في الحرب لمدة طويلة دون تهديد العمق الروسي سيساهم في تعزيز سيطرة القوات الروسية على الأراضي التي ضمتها موسكو لسيادتها وسيجعل من المستحيل على كييف استعادتها، كما أن ذلك سيقود في النهاية إلى تناقص الدعم الغربي وربما فقدانه بصورة كاملة.
رهانات حرب الشتاء
من الواضح أن العمليات العسكرية الأوكرانية في العميق الروسي لم تكن سوى جانب من الضغوط التي تحاول الولايات المتحدة وحفائها الغربيين حشدها ضد روسيا، بالتزامن مع القرارات الأوروبية الأخيرة التي حددت سقفا لسعر النفط الروسي عند 60 دولارا، بهدف تقليل تدفق الأموال التي تحصل عليها روسيا من مبيعات النفط والغاز، في خطوة قد تتلوها خطوات لتخفيض السعر إلى ما دون سعر الكلفة، بالتزامن مع تصعيد الحرب في الجبهات وكبح أي محاولات روسية لتجميد الجبهة خلال فصل الشتاء، وكلها عوامل تستهدف إضعاف روسيا وجرها إلى مفاوضات قد تقوض الاتحاد الروسي من الداخل.
هذا الأمر كشفت عنه التصريحات الأوروبية في أعقاب قرارها تحديد سقف لسعر النفط الروسي، كما كشفت عنه التصريحات الأخيرة للأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، الذي أكد أن روسيا تحاول تجميد الحرب، لفترة قصيرة على الأقل، حتى تتمكن من إعادة تجميع صفوفها لشن هجوم كبير أوسع في الربيع المقبل، معتبرا أن أعضاء “الناتو” قرروا لذلك مواصلة الإمداد “غير المسبوق” لأوكرانيا بالأسلحة ودعمها، رغم المخاوف من احتمال نفاد المخزونات الغربية.
هذه التصريحات بدت واقعية تماما، فروسيا تراهن على تجميد الجبهة في فصل الشتاء لتحقيق مكاسب عسكرية سهلة، بالاستفادة من الطقس البارد والثلوج التي قد تمنح موسكو الفرصة لتجنب إجهاد قواتها واستخدام سلاح الطاقة بدلا عن ذلك في ظل التقديرات التي تتحدث عن اضطرابات قد تشهدها أوكرانيا ودول أوروبا بسبب أزمة الطاقة يتوقع أن تصل إلى أوجها بحلول فبراير القادم، مما قد ينتج افقا جديدا للسلام وفق الشروط الروسية أو الحرب في ظل قدرات روسية متفوقة.
هذا الأمر يتفق معه العديد من الخبراء الروس الذين رأوا أن أي تصعيد في العمليات العسكرية حاليا لن يكون في صالح الجيش الروسي وأن الخيار الأفضل بالنسبة لموسكو الآن هو أن تجمّد خط المواجهة حتى فبراير على الأقل، أملا في أن تصل آثار مشكلة نقص الطاقة في أوكرانيا وأوروبا إلى حدودها القصوى.
تحركات أمريكية
قياسا برهانات حرب الشتاء بين روسيا والغرب، فإن الضغوط الغربية على روسيا قد تزايدت بشكل كبير، مع بدء الولايات المتحدة الأمريكية نقل عتاد عسكري ثقيل بكميات كبيرة إلى دول أوروبا الشرقية في إطار حرب الاستقطابات المشتعلة بينها وروسيا.
وقد تنبهت واشنطن مبكرا إلى أن رسالة الأمن المتبادل التي قدمتها موسكو أواخر العام الماضي تتطلب منع وجود أي أسلحة أو قواعد عسكرية لـ “الناتو” في أوروبا الشرقية، ما زاد من مساعيها لكبح الطموحات الروسية، والعمل من أجل إقحام دول أوروبا الشرقية في معادلة الحرب الدائرة في أوكرانيا بما يزيد من حدة العداء بينها والدولة الروسية.
وأمام الصمود الروسي في وجه العقوبات الدولية وتلافيها دوامة الخسائر الكبيرة في عمليتها العسكرية في أوكرانيا، ربما رأت واشنطن أن توسع دائرة الصراع في تلك المنطقة خطوة مهمة كونها ستحقق هدفا استراتيجيا متعدد الأوجه في إقحام دول أخرى بمعادلة الحرب لإلحاق هزيمة سريعة بالروس في أوكرانيا، وفي الوقت ذاته دمج أوروبا الشرقية في سياستها الجديدة تجاه الصين من خلال التعاون العسكري مع هذه الدول.
ووفقا لذلك يبدو تصعيد الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لحدة الصراع في أوكرانيا خيارا مقدما في الفترة القادمة لأنه سيؤدي إلى استهلاك متسارع للموارد الروسية قياسا بالموارد العسكرية التي يمتلكها الغرب بصورة قد تغيِّر المعادلات العسكرية على الأرض لصالح أوكرانيا والغرب، وأقل من ذلك أن إطالة أمد الحرب ستقود السلطات الروسية إلى إعلان تعبئة جديدة قد تؤثر على الدعم الشعبي لبوتين بالنظر إلى الاضطرابات الداخلية التي أحدثتها خطة التعبئة الجزئية في روسيا خلال الشهور الماضية.
ولم يعد الأمر بهذه الخطوة تخمينات، فمؤشراته كانت واضحة في الأسابيع الماضية مع التحركات العملية لواشنطن في إشراك أعضاء “الناتو” من دول أوروبا الشرقية في الصراع، من خلال تزويد بعضها بعتاد عسكري كبير، كما حصل مع بولندا التي نقلت اليها أكثر من 800 قطعة من المعدات العسكرية الأمريكية، بما فيها الدبابات، فيما تجري ترتيبات مشابهة مع دول أخرى مثل ليتوانيا ورومانيا ودول البلطيق بما في ذلك الدول التي لم تنظم إلى حلف “الناتو” في خطوة اُعتبرت تشجيعا أمريكيا لأوروبا الشرقية للدخول في صراع مباشر مع روسيا.
هذا الاستنتاج عبَّرت عنه بوضوح تصريحات الخارجية الروسية التي أكدت أن الولايات المتحدة استنادا إلى وثائق تسليم الأسلحة تخطط لتصعيد الأعمال القتالية في أوكرانيا على الأقل حتى نهاية عام 2025م، وهي التصريحات التي تطابقت مع تصريحات الرئيس الروسي الأخيرة التي توقع فيها أن الحرب في أوكرانيا قد تطول.
يشار في ذلك إلى التحركات التي شرعت فيها واشنطن لنشر قوات إضافية في استونيا بمبرر تعزيز الدفاعات على الجناح الشرقي لحلف “الناتو” تتضمن فرقة مشاة أمريكية، وهي وحدة عادة ما تتكون من 80 إلى 250 جنديا، حسب بيان وزارة الدفاع الإستونية، ترافقها منظومة “هيمارس” وهي منظومة صواريخ مدفعية عالية الحركة فضلا عن معدات قيادة وأنظمة تحكم خاصة بها.
وأعلنت إستونيا، التي تشترك بحدود مع روسيا، أنها ستحصل على منظومة “هيمارس” المتطورة لتعزيز قدراتها الدفاعية في أكبر مشروع حيازة أسلحة تشهده دولة البلطيق على الإطلاق، بقيمة أكثر من 200 مليار دولار.
أبعاد هذا التحرك كشفتها تصريحات وزير الدفاع الإستوني هانو بيفكور الذي اعتبر أن هذه الخطوة تمثل تعزيزا كبيرا للتواجد العسكري الدوري الأمريكي في إستونيا ودول البلطيق، وتعكس التزام الولايات المتحدة العتيد بأمن منطقتنا ويطور بشكل هائل مكانة حلف الناتو”.
وثمة توقعات كبيرة بأن تمضي الولايات المتحدة في هذا المشروع خلال الشهور القادمة، في دول أخرى بعد أن تأكدت من استحالة استخدام روسيا السلاح النووي الذي لوحت به خلال الفترة الماضية، كون أي استخدام له سيكون ضربة قاضية لروسيا، وهو الأمر الذي عبرت عنه التصريحات الأخيرة للرئيس بوتين والتي استبعد فيها كليا استخدام موسكو السلاح النووي وتأكيده أنه أداة للرد فقط في حال تعرضها للهجوم.
ضغوط أوروبية
بالتوازي مع التحركات الأمريكية يشارك الحلفاء الغربيون في أوروبا بذات الجهود حيث شرع التكتل الأوروبي بتحركات جديدة لعزل روسيا عن محيطها الأوروبي، من خلال الوعود التي أعلنها لدعم دول البلقان وتوسيع دائرة الشراكة معها من خلال قمة تيرانا المقرر أن تجمع أعضاء في الاتحاد الأوروبي مع قادة دول غرب البلقان والتي جعل التكتل الأوروبي جدول أعمالها مكرسا لتعزيز الشراكة معها في إطار المساعي الغربية لعزل روسيا داخل أوروبا.
ويتوقع أن تخطو قمة تيرانا خطوة كبيرة في هذا الجانب، بعد الوعود التي أفصح عنها التكتل الأوروبي بمنح دول البلقان فرصا للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي ناهيك عن امتيازات الشراكة من أجل جلبها إلى مربعها، في الوقت الذي تحاول فيه موسكو تثبيت نفوذها في هذه المنطقة.
وفي حين تحاول موسكو الاستفادة من حالة انعدام الثقة وخيبة الأمل لدى دول البلقان المنتظرة منذ سنوات على أبواب الاتحاد الأوروبي، تراهن واشنطن أن يقوم حلفاؤها الغربيون بدور أكثر فعالية في قمة أوروبا البلقان المنتظرة، لفتح مرحلة علاقات جديدة مع دول غرب البلقان على خطى الخطوات التي قامت بها بمنح أوكرانيا ومولدوفا العضوية المرشحة للاتحاد.
يأتي هذا في وقت تحدثت فيه تقارير غربية عن احتمالات بانسلاخ أرمينيا عن الفلك الروسي في ظل الموقف الأرمني الذي يرى أن موسكو تخلت عن ارمينيا في الحرب الأخيرة مع أذربيجان التي لقيت دعما تركيا واضحا مقابل غياب كامل للدعم الروسي لحليفه الأرمني.
ومن المرجح كثيرا أن تكون هذه القضايا محور التحركات الأمريكية الغربية القادمة في جنوب شرق أوروبا خصوصا وأنها تستهدف في المحصلة ليس فقط النفوذ الروسي هناك، بل تستهدف أيضا نفوذ الصين التي استثمرت في البنية التحتية لهذه الدول في إطار مساعيها الرامية لفرض نفوذها في دول البلقان.

قد يعجبك ايضا