اليمن العظيم تُودّع أديبها وشاعرها الكبير البروفيسور عبدالعزيز المقالح

 أ. د. عبدالعزيز صالح بن حبتور

 

ودّعت اليمن العظيم شاعرها وأديبها الكبير عبدالعزيز المقالح يوم الإثنين الموافق 28 / نوفمبر 2022م، في أجواء حزينة وعابسة، وقد تجلّت أحزان اليمانيين على اختلاف مواقفهم السياسية والفكرية والثقافية، وعلى تنوعهم الإنساني، وتواجدهم الجسدي والروحي في داخل الوطن وخارجه، تنوّعت تلك التعبيرات والمواقف من خلال السيل المتدفق من البرقيات والرسائل والمقالات الطويلة والقصيرة عبر جميع وسائل التواصل الإعلامي والاجتماعي على فقيدهم العزيز  الذي غادرهم جسداً وبقي فيهم روحاً حية خالدة في زمن يماني صعب ومعقد تكالب عليه الأعداء التاريخيون من (الأشقاء الأعْرَاب)، ومن الخونة من أبنائها من داخل الوطن وخارجه.
حظيت بشرف زيارة الفقيد العزيز/ المقالح لعدد من المرات، وقد كانت زيارات متكررة إلى مكتبه الواقع في مركز البحوث التاريخية في شارع بغداد في العاصمة صنعاء لمراتٍ عِدّة، وزرته كذلك إلى منزله العامر، وفي كل زيارة كنت أقوم بها مع زملائي وأصدقائي اكتسبت ما يساوي القيمة المضافة في الفكر والثقافة وترصين الوعي كانعكاس لحالة رهبة المكان ووقار الزمان، وهيبة الإنسان الذي تتم حوله جدل الحوارات والمناقشات وكل حالةٍ على حدة:
فرهبة المكان مستوحاة من البيئة التي تتم وبشكل يومي مناقشة احتياجات هذا الشاعر أو ذاك، هذا العالم الجليل أو تلك العالمة، مدى حاجة هذا الفيلسوف أو المؤرخ لطباعة كتبهم أو تقويم مخطوطاتهم، أو تصحيح حواشي مؤلفاتهم وخلافه.
ووقار الزمان مستوحى من وقار أزمان وعصور هؤلاء الفطاحل وما قدموه للإنسانية من نتاجات فكرية واجتهادية جديلة تخدم علومهم ونظرياتهم والمجتمعات البشرية التي تحاكي علومهم وفلسفاتهم.
وهيبة الإنسان الذي كرّمه الله بأن تلتقي فيه وحوله كل تلك الاجتهادات الفكرية الإنسانية في مسار التطور التاريخي وتطوره وازدهاره ونمائه.
والزمان، أي زمان الذي حامت فيه أرواح المثقفين الثوريين وأفكار الفلاسفة العظام الحالمين الطوباويين ونقيضها من الثوريين، بالاستناد إلى الجدل الصاخب وعكسه في تحليل تلك النظريات واصولها وفروعها، هُنا علينا أن لا ننسى أن مفكرنا الكبير وشاعرنا الفذ الدكتور/ عبدالعزيز صالح المقالح، قد اختار طواعية البقاء والسكن في مدينة صنعاء التي حوت كل فن من فنون العلم والثقافة، هذه المدينة الساحرة التي كانت ولازالت بيئة سكنى وورع وعطاء فكري وثقافي وحتى فلسفي لا حدود له، هُنا نتذكر أن صنعاء وضواحيها أنجبت أعظم علماء اليمن ومفكريها ومؤرخيها وقادتها أمثال:
المؤرخ العلامة أبو الحسن الهمداني.
العلامة الهادي مؤسس المدرسة الهادوية في الحكم.
المؤرخ العلامة عبدالرزاق الحميري الصنعاني.
العلامة ابن الوزير.
العلامة ابن الأمير.
العلامة ابن المزجاجي.
العلامة بدرالدين بن أمير الدين الحوثي.
العلامة الشوكاني.
المؤرخ العظيم نشوان بن سعيد الحميري.
لقد حدثني في آخر زيارة لي لمنزله العامر بالفكر والخير والرهبة، وهو طريح الفراش، أنه لازال مغرماً بالكتابة، ويكتب يومياً شيئاً من مخزون فكره ومما تجود به ملفات أرشيف ذاكرته المتوهجة، برغم أنه قد ولج إلى الرابعة والثمانين من العمر، أي فكر هذا؟، وأية ذاكرة متوهجة امتلكها شاعرنا العظيم المقالح؟، وأي تنوع خصب ذاك الذي حباه الله في كل سنوات حياته؟، نعم إنه ثروة اليمن الفكرية العظيمة، والتراث الذي سيبقى خالداً للأجيال القادمة، جيلاً بعد جيل.
في هذه اللحظات الحزينة من لحظات وداعه الخالد، ونحن جميعاً نودعه ونرثيه، والبعض مِنّا قد بكى عليه بحرقةٍ إنسانية مؤلمة وهم في عداد الكثرة من زملائه وطلابه ومحبيه ومريديه، علينا أن نقف برهةً للتأمل والتفكر ببصيرةٍ ثاقبة في الأمور المتعلقة بدوره الثقافي، الأكاديمي، الوطني، الأدبي بأنواعه، الثوري وغيره من عطاءاته المتنوعة في الآتي:
أولاً: أنجز البروفيسور/ المقالح العديد من الدراسات والحوارات واللقاءات الموثقة مُنذ أن بقي لأكثر من عقد من الزمان رئيساً لجامعة صنعاء، وبعدها رئيساً لمركز الدراسات اليمنية التاريخية، خلال هذه العقود جمع كماً هائلاً من الدراسات العلمية والثقافية، “المطلوب جمعها وتنقيحها وإخراجها للقراء من طلاب الدراسات الأكاديمية العليا”.
ثانياً: في عقوده السبعين التي عاش مرحلة الإنتاج الثرية، وفي مرحلة عطائه الأدبي الكثيف، كتب العديد من المسرحيات والقصص الأدبية والنصوص الهامة في حقولٍ شتى، علينا الاهتمام بها وجمعها باعتبارها ذخيرة فكرية للقادم من الزمان لمستقبل الأجيال اليمنية الفتية.
ثالثاً: أنتج المبدع المقالح سيلاً هائلاً من قصائده الشعرية، البعض منها وثقها في دواوينه الشعرية والبعض الآخر قد تتوه وهي متناثرة في المجلات والصحف اليومية والأسبوعية والشهرية، ولكي لا تضيع علينا أن نشمر السواعد للبحث عنها وجمعها وتوثيقها وتدوينها كي تبقى مخزوناً فكرياً وفلسفياً للأجيال المتعاقبة.
رابعاً: قدّم البروفيسور/ المقالح العديد من الدراسات السياسية والفكرية والثقافية، عددٌ منها طُبع في كتيبات، والآخر لازال تائهاً يبحث عن من ينقذه من التوهان بين الأرفف وأدراج المكاتب المتناثرة، ولهذا علينا أن نجتهد ونشكل فريقاً من المختصين وحتى من الهواة المحبين له.
خامساً: على الجهات الرسمية في الدولة أن تقوم بإصدار قرار بتسمية مركز البحوث والدراسات اليمنية باسمه والتي رأسها وقادها لعقودٍ من الزمان، كما وأنه يستحق أن تسمى جامعة حكومية باسمه للأثر الفكري الخالد الذي خلفه.
سادساً: تكليف جهة حكومية ما بعد انتهاء العدوان على اليمن بأن تجمع تراثه الفكري والشعري والثقافي وتصدره في مجلدات محفوظة باسم مركز البحوث والدراسات التاريخية.
سابعاً: لا يبقى للأمم الحية في هذا العالم سوى الإرث والتراث الفكري والفلسفي والسياسي بأنواعه وتشعباته ومناهجه الرصينة.
الخلاصة:
من خلال استعراضٍ سريع للتراث البشري العالمي، ومقومات مرتكزات قيام الحضارات الإنسانية على مستوى العالم، لم يبق منه سوى الإرث الموثق المكتوب أو المنقوش في اللقي والجلود الحيوانية وعلى أوجه الأحجار، وعلى صفائح المعادن والحديد والتربة الطينية، وفي عصرنا الحالي تبقى الأوراق والأقراص الممغنطة، والهارديسك والفلاشات، جميعها حوافظ مكنونة لحضارتنا اليوم، وحضارة من سبقونا من الأجيال.
وأثبتت العصور والأزمنة كلها بأن الثروات الحقيقية هي ثروة الإنسان المبدع ونتاجه الفكري، والمقالح ومن سبقوه من المفكرين هم ثروة الأمة الحقيقية.
(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)

*رئيس وزراء حكومة الإنقاذ الوطني

قد يعجبك ايضا