من البديهي أن وضع السياسات التعليمية والتربوية في الدول الحرة قضية وطنية بل إنها من أكثر القضايا الوطنية حساسية لتعلقها ببناء المستقبل ، وهو بناء لا يحق لأي سلطة حاكمة أن تنفرد بوضع أسسه أو تحديد معالمه وقواعده ، وفلسفة التعليم التي تتأسس عليها هذه السياسات تضع على رأس أولوياتها أهمية الإبداع واكتشاف المواهب والمهارات وتنميتها والعمل على تشجيعها وصقلها وتهيئة الظروف والمناخات المناسبة لذلك ، وتعمل على دراسة التاريخ وما أبدعه الأولون لا لتحويله إلى أصنام وعقائد جامدة تُعبد من دون الله والتوقف عندها ، وإنما لاستيعاب التاريخ وأخذ المفيد منه والإضافة إليه ، أو تجاوزه وترك الخلافات التي جعلت بعض المحسوبين على الأمة رهن سجونها التاريخية التي لا يعلم حقيقتها بسبب اختلاف الروايات سوى الله.
إن ما يوجه العقلاء في التعامل مع التراث هو الحاجة والضرورة التي تتغير وتتبدل بتغير وتبدل الزمان والمكان واستمرارية تجدد الحياة وأنماطها فلكل زمان كما يقال دولة ورجال أو بالأصح لكل حياة أحياء رجالاً ونساء وغيرهم من الكائنات الحية.
هذا هو الحال في الدول والمجتمعات الحية الحرة التي تؤمن بأن الحياة ابتكار مستمر، وخلق يحاكي فلسفة الوجود والغرض والهدف الجوهري الذي تبنى عليه سياسة وفلسفة التعليم، أما الدول والمجتمعات التي تتحول فيها السلطة العامة إلى ملك خاص لمن يستولي عليها فإن التعليم يتحول إلى تعليب للعقول، لأن من يستولي على السلطة يصبح شغله الشاغل كيفية المحافظة على بقائه فيها، وقتل تطلعات المبدعين نحو الابتكار والخلق وإقصاء كل من له اهتمام بالبحث عن حلول للمشكلات التي تواجه الفرد والمجتمع المعاصر.
إن وظيفة الدولة العادلة المبصرة هي العمل على مغادرة أسباب الصراعات التاريخية وتجاوزها والاستفادة من كل طاقات المجتمع الفكرية والمهارات العملية باعتماد المعايير العلمية والبحث عن العقول المبدعة الحرة الأبية لا الموالية الطائعة الخانعة المنافقة المقدِّسة للحاكم المصاب بمرض الاستبداد والمسبحة بحمده وهدف هذا المستبد مستحيل التحقق على المستوى البعيد وإن بدا لبعض الوقت أنه ممكن والتاريخ مليء بالعبر لمن يريد أن يعتبر ، والاعتبار إرادة بل عبادة أو جزء أساس من أجزائها ، وقد شكلت مقولة : (الناس على دين ملوكهم) وما تزال تشكل معضلة في فهم الدين والسياسة معاً والعلاقة بينهما على مدى قرون فكانت نواة لصراعات الأديان والمذاهب خلقت مآسي لا نزال نعاني منها ، وفقه الروايات في الإسلام مثلاً مسؤول إلى جانب السلطة التي تعتمد عليه عن صناعة العقول المدجَّنة وما نتج عن هذا التدجين من موجات الإرهاب التي وظفت باتجاه انتقاء واجتزاء نصوص قرآنية وأحاديث تدعم المفهوم الأهوج عن الجهاد الذي تولَّد عنه ما شهدناه في كثير من البلدان العربية والإسلامية بل والأوروبية من تفجيرات همجيه في الأسواق والمساجد ودور العبادة والأماكن العامة نتج عنها توتر واضح بعلاقة المسلمين بشكل عام ويتضرر منها المسالمون غالبا أما من ينفذها فهم شباب وظفتهم أجهزة مخابرات أمريكية وغربية لهذا الغرض وتحافظ عليهم إلى حين حسب خططها وغسلت أدمغتهم وعُلبت عقولهم وفق هذا الاجتزاء وتوظيف الروايات التاريخية والفقهية الحاملة لفيروسات التخلف وأسباب الصراع وهذا ما أكدته وتؤكده تقارير بعض المنظمات وبعض تصريحات المفكرين والمسؤولين منهم الرئيس ترامب وكونداليزا رايس وهيلاري كلينتون وكيسنجر وغيرهم بعضها موثق ومنشور ربما كنوع من ذر الرماد في العيون تتعلق ببعض أدوار لهذه الأجهزة في خلق ودعم حركة طالبان وتنظيم القاعدة وداعش وجبهة النصرة وإدارة توزيع وتنقل والتحكم في أماكن تواجدها في كل من اليمن وسوريا والعراق وأفغانستان وغيرها واستحداث قواعد عسكرية خلال وبعد العدوان على كل من هذه البلدان في أماكن هامة استراتيجياً واقتصادياً (مناطق الثروة) ليتم عزلها عن مناطق الكثافة السكانية أصحاب الحق الأصلي في هذه الثروة والعمل على حرمانهم منها بشتى الوسائل !، وأنا هنا كما أكرر دائما لا أقصد بالإشارة إلى هذه الحقائق رمي عيوب نقصنا وجهلنا وممارسة سياسيينا الخاطئة على الآخرين ، ولكني أشير إلى بعض حقائق أصحاب المصالح المتوحشة الذين بإمكانهم بدلا من ذلك أن يبحثوا مع مجتمعات وحكومات هذه الدول عن لغة مشتركة للمصالح المشروعة.
ومعلوم أن بعض الدول كبريطانيا وأمريكا وفرنسا التي وصلت إلى مرحلة من التقدم لا تنكر دور كثير من أجهزة مخابراتها في الإشراف على غسل الأدمغة واعتماد مناهج الإرهاب ومذاهبه بعضها بدراية المنتمين إليها والبعض الآخر باستغلال بعض المفاهيم الخاطئة التي تراكمت عبر عقود بل قرون من الخلط بين ما هو دين لله وبين حقوق الناس وآمالهم وأحلامهم في الحياة والتي لا تدار إلا بالعلم والعمل.
إن الواجب الوطني والإنساني يقتضي الوقوف في وجه السياسات التربوية والتعليمية المعتلة ورفض الإيديولوجيات الناقلة لها سياسية كانت أو دينية أو مذهبية لأنها سبب رئيس من أسباب تغذية الصراعات التي نعاني منها واستمرارها في زرع بذور الفتنة في عقول الشباب من خلال هذه المناهج التي تحمل فيروس التخلف.
إن من أولويات بناء الدولة الاتفاق الوطني الشامل على وضع سياسة تعليمية وتربوية وطنية تشكل القواسم المشتركة كبذور قوية للمحافظة على عوامل الوحدة ونبذ التفرقة والسباق على السلطة باستخدام العنف والإرهاب باعتبار ذلك هو السبب الرئيس لكل هذا الخراب الذي يعاني منه الوطن، إن ثقافة السلام الحقيقي واحترام العلم هو المدخل الواضح لبناء دولة قوية ومجتمع سوي قوي متماسك، وليس التعليب الذي لا يخدم سوى سياسة انعزالية ضيقة نتائجها كارثية على الجميع.
الله نور السماوات والأرض بالعلم بانت حقيقته للعقول.
Prev Post