البردوني وشجون الشؤون الثقافية

محمد القعود

1
ككلِّ كتاباته النثرية المطوّلة والقصيرة، في مجال الفكر والأدب والنقد والسياسة والتاريخ والاجتماع, يجد القارئ دائماً فيها فائدة جمّة ومتعة كبيرة, وينهل منها ما يروي الظمأ, ويشبع نهمه إلى المعرفة المثمرة, ويطوف ويرحل من خلالها وعبرها في عوالم جديدة بديعة, ويتغوّر في أعماق وجوانب وآفاقٍ مذهلة من المعرفة والثقافة, كانت غائبة ومحجوبة ومجهولة وقصية أمام تلهفه لمعرفتها والاطلاع عليها , وإلى ما تشير إليه من دلالات وإحالات وإضاءات مشرقة ولامعة، تومض لتكشف وتوضح وتنير وتشرق بما هو أجمل وأبهى.
والقارئ لهذه المقالات والخواطر والرؤى, والتأملات والوقفات, والمقاربات والتناولات- مثل هذه النماذج المختارة والمنشورة هنا – يجد فيها ما يبهج ويسرّ العقل والقلب والخاطر والوجدان, من متعة , ولذة معرفية، وفنية, من حيث الأسلوب, والمضمون, والتناول والالتقاط الذكي, واللغة الندية والمشرقة والجملة المعبرة والبليغة, أو من حيث المعالجة البارعة والطرح والتناول والإلمام البديع والتحليل والتفسير الشافي والكافي والإضاءة النافذة والكاشفة عن جماليات المحتوى ودلالاته.
وفيها ومعها سيجد القارئ ذلك التجليّ الذي لا شبيه له في أسلوب كاتبها المتميز والمميز, كما يجد ويلامس فيها الرؤى التنويرية والأفكار العالية والنبيلة, المهمومة بالأجمل والأروع, النابعة والمتدفقة من تراكم ثقافي ومعرفي كبير, وفيها سيجد تبرّج اللغة الراقية والصافية, المتوهجة بالجمال والفتنة والبهاء والإبداع المنسوج بحرير الكلام وضوء الفكر.. لغة تشفّ وتكشف مكامن الدر الثمين والسحر والدهشة والانبهار.. لغة لها تعابيرها اللافتة وتراكيبها ومعمارها الباذخ ونبضها المموسق واشراقاتها وإطلالتها النديّة والبهيّة, وربيعها الدائم الاخضرار والحضور الغدق والخلّاب ..
إنها مقالات وكتابات منسوجة بماء القلب وضوء الفكر, ومترعة الرؤى, تدعو القارئ – بكرم حاتمي لا حدود له – إلى وليمة دسمة وباذخة, ووجبة عامرة بطيب الغذاء ولذة المشتهى والمذاق وعذوبة المنهل والرواء, وزاد الدهشة والشغف وتوق اللهفة إلى مثل هذه المائدة الحافلة بالجديد والمتجدّد والأجد من مجاني وقطوف وبساتين المعرفة والإبداع والفكر.
وسيجد القارئ في هذه المقالات والكتابات مالا يجده في معظم كتابات ومقالات الآخرين , المحشوة والمكتظة بالفراغ والخواء والهذيان والتعتعة والادعاء والحشو باللاشيء..!!
2
وأديبنا الكبير الراحل عبدالله البردّوني في مقالاته هو القارئ الفطن لمحيطه، وما يصدر وينتج عنه وما يمور فيه، من تحولات وقضايا, وهو الناقد الحصيف, والمثقف الفاعل والمتفاعل مع واقعه وعالمه, وليس ذلك المثقف الهّش والرخو ,حامل المباخر، ومروّج للزيف والأباطيل، والمهجّن الرعديد والمرتجف من الأشباح والكيانات والقوى الغاشمة الطارئة والراحلة إلى عهدة النسيان, وهو منتج أفكار وفكر ورؤى ومتأمل برؤية نقدية هادفة, ومحرّض على اجتراح الأجمل والأفضل والمنشود..
إن الأديب الكبير البردّوني الرائي هو ذلك المتمرد على السائد من الفكر الراكد والآسن والخامل , والرافض لكل إرثٍ وطرحٍ جامد وبليد ومتحجرٍ يتنافى مع العقل والمعرفة والعلم والتطور واليقين, ويتناقض مع إرادة وحرية الإنسان وطموحاته وتطلعاته وصيرورة الحياة ,وضد كل موانع وحواجز ولاءات تحدّ من كل تلك التطلعات والطموحات المشروعة التي لم تدجّنها وتكبّلها وتشقيها قيود وأغلال وسياط الطغاة وجلاوذة وأعداء الحرية والإبداع التطور والكرامة وإرادة الإنسان السوّي والشعوب الحرة في صناعة وبناء الغد والعالم المزدهر والمشرق البهي.
إنه البردّوني, ضمير الأرض والإنسانية, والضمير الجمعي لمجتمعه وشعبه, في كل مرحلة وحقبة ومحطة, عاشها وواكبها ومرّ بها, غير عابئ بكل سدنة ودهاقنة الأوهام والظلام وأشباح الخرافات والخزعبلات التي بددتها وجرفتها رياح وعواصف الحقائق والوقائع.
3
بينما كان أصحاب البصر,لا البصيرة,- ممن تضجّ بهم الساحة الثقافية اليمنية – وحتى العربية – يدبّجون مقالاتهم الإنشائية, بشقّ الأنفس, وبقلة محدودة الإنتاج, وفي مدارٍ ومسارٍ واحدٍ, وبأفكار معادة ومكرورة, وبإعادة إنتاج للمطروق من القضايا والأفكار والمواضيع, وبرتابة مملة وتناولات عبثية , وبلهاء، وبرؤية ورؤى قاصرة، وحسيرة, وبضبابية معتمة وعاتمة, وبمفردات لغوية وجُمل وأساليب مهلهلة ومرقّعة, ومجمّعة، لا روح فيها ولا ملامح ولا نكهة لها..!!
كان مبدعنا وشاعرنا وأديبنا الكبير عبدالله البردوني – وهو الفاقد للبصر، والمالك لبصيرة فذّة – يواصل عطاءاته وكتاباته الأدبية والفكرية والثقافية بكل إبهار وتميز وثراء, مثلما هو في مجال الشعر, ذلك الشاعر المتفرّد بإبداعه الشعري المبهر.
ويتمثل ذلك من خلال وعبر مقالاته وكتاباته الثقافية المتعددة, والتي كان يكتبها وينشرها بصورة شبه منتظمة منذ ستينيات القرن العشرين وحتى رحيله في عام 1999م.
وحقيقة لا جدال فيها, يعدّ البردّوني العظيم من أساطين كتّاب “المقالة” الاستثنائيين, في اليمن والوطن العربي, ومن فرسانها الكبار , وممن كتبها ببراعة وجدارة واقتدار, وأمتلك زمامها, وقيادها, وأتقن فنونها بحرفنة عالية ومهارة مذهلة وفائقة الإجادة- وهو ما يدعو للتوقف إزاء ذلك والكتابة عن فن المقالة عند البردّوني, وهو ما ارجوه في القريب-.
إن معظم كتب البردّوني النثرية التي نشرها طوال حياته, كانت فصولها ومحتوياتها في الأصل عبارة عن مقالات ومقاربات سبق وأن كتبها ونشرها في العديد من الصحف والمجلات ,وجمع – فيما بعد –الكثير منها في كتبٍ, ضمن سياقات نقدية وفكرية وأدبية وسياسية, ومدارات محددة ومعينة, كما أراد لها أن تكون وتخرج إلى القارئ صورتها تلك.
4
قد يتساءل القارئ الكريم وهو يطوف بين عوالم هذا الكتاب كيف كان يتسنى للأديب الكبير البردوّني أن يتابع ويكتب عن الكثير من الأحداث والفعاليات والمناشط والإصدارات الثقافية والفكرية والأدبية وهو ذلك الشخص الأعمى القابع في منزله بصنعاء, بعيدا-جغرافياً وزمنيّاً- عن أماكن حدوثها وقلب وقائعها.!؟
والجواب ببساطة ان ذلك يعود إلى عقله الجبار, الذي كان بمثابة مكتبة متنقلة ,وضخمة ,عمرها من عمر البردّوني , منذ أول حرف تهجّاه, ومنذ أول درس تلقّاه ووعاه, وإلى تلك الذاكرة المتوهجة التي اختزنت واعتصرت وهضمت وحفظت الكثير من المعارف والعلوم والتجارب والثقافات والآداب المختلفة طوال مشواره مع الحياة الحافلة بالعطاء، والاستزادة من كل منابع ومناهل ومصادر الثقافة والمعرفة، وكذلك إلى الذكاء والموهبة التي وهبها الله له.. وإلى رصيده وتحصيله العلمي والمعرفي والفكري والثقافي , و إلى اتكائه على رصيد التراث الذي درسه واطلع عليه وغاص في أعماقه وتغوّر وترحّل ورحل معه وفيه, في مختلف عصوره ومدارسه ومذاهبه المختلفة.. وكذلك حرصه على تتبع المسارات الثقافية والفكرية والفنية وتجاربها وإبداعاتها الجديدة والحديثة في مختلف الأقطار والبلدان.. وبالطبع كان رصيده ومخزونه الكبير، الذي امتلكه من القراءات والمطالعات والمتابعات الجادة والواعية للشأن الثقافي والشأن العام والمعرفي داخل وخارج اليمن, هو معينه الذي لا ينضب، الثراء المعرفي وفي الإحاطة والإضاءة والإضافة والتحليل والتفسير لأي مادة يكتبها ..
والى جانب أصدقائه الخُلّص ممن كانوا يقرؤون للبردّوني كل جديد من الكتب والإصدارات ومراجعه, كان جهاز “الراديو” هو صديقه القريب والمقرب والرفيق الدائم والوفي, والذي من خلاله كان البردّوني يرى العالم, ويسمع ويتابع ويطّلع ويتلقّى عبر برامج الإذاعات كل ما يتعلق بالثقافة وشئونها, وكل مايمور في العالم من أحداث ووقائع, ويحرص كل الحرص على مواعيدها والإصغاء لبرامج ثقافية وأدبية وفكرية معينة, تبث طوال أيام الأسبوع من إذاعات عربية وعالمية ناطقة باللغة العربية.
5
في هذا الكتاب الذي يحمل عنوان “شئون ثقافية” وهو الجزء الأول, نقدم للقارئ العزيز مجموعة من المقاربات والمقالات والإضاءات الثقافية المتعددة، للشاعر والأديب المفكر اليمني الكبير الراحل عبدالله البردُّوني, والتي تنوعت موضوعاتها ما بين النقد والمقاربة والمقال الأدبي، والرأي والرؤية الثقافية والفكرية, واستعراض وقراءة المشهد والمناخ الثقافي العربي.. والتي نشرت جميعها في الصفحة الثقافية والملحق الثقافي بصحيفة الثورة, حيث كنت المشرف الثقافي على الصفحة والملحق, وكنت أتلقى مادة البردّوني وانشرها تحت عنوانها الرئيس “شؤون ثقافية”..
وهذه المقالات والمقاربات كتب- شاعرنا وأديبنا الكبير الراحل- معظمها في الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته ,في أواخر تسعينيات القرن العشرين, وذلك منذ أواسط عام 1996م وحتى يوم وفاته في 30-8-1999م, حيث كانت آخر مقالة نشرت له صباح يوم وفاته, وكانت بعنوان” الثقافة تحت القنابل والنجوم” ومازالت احتفظ بمخطوطتها ومسودتها حتى اليوم.
هذه المقاربات والمقالات ترصد وتضيء ذلك المناخ الثقافي والأدبي الذي كان يعيشه ويتابعه ويرصده الراحل الكبير.. وتعكس مدى متابعته لإنتاج ذلك الواقع ولرموزه ومواسم العطاء الثقافي الخلاق, كما تعكس الذائقة الثقافية العالية لشاعرنا وأديبنا الراحل وروعة وقفاته ومقارباته وتناولاته لتلك الثمار والاشراقات التي تذوقها والتقطها بحس فنان وقلب عاشق وتفاعل معها بعقل مستنير, وبروح تواقة لكل فكر مشرق، ولكل إبداعٍ مدهشٍ وفاتنٍ.

مقدمة كتاب شؤون ثقافية.. والذي سيصدر قريباٍ
*مشرف عام منتدى البردّوني الثقافي

قد يعجبك ايضا