حربٌ إسرائيليةٌ مفتوحةٌ على القدس والضفة الغربية

د. مصطفى يوسف اللداوي

 

 

ما تتعرض له مدن وأحياء القدس والضفة الغربية يومياً وعلى مدى الساعة، هي حربٌ مفتوحةٌ سافرةٌ، وعدوانٌ مقيتٌ حاقدٌ، ومعارك قاسيةٌ مؤلمةٌ، متنقلة ومستمرة، وعميقة وشاملة، يستخدم فيها العدو الإسرائيلي مختلف الوسائل والسبل في عدوانه عليها أرضاً وسكاناً، وقدساً ومقدساتٍ، وخيراتٍ ومياه، ومعامل ومزارع، ومساكن ومبان، وحياة وحريات، ومدارس وجامعاتٍ، ومقابر ومستشفياتٍ وغيرها.
فلا يكاد يمر يومٌ دون أن يمارس الاحتلال الإسرائيلي ضد أهلنا في القدس والضفة الغربية، أعمال القمع والبطش والإرهاب، والقتل والاعتقال والتجويع والحصار، والمداهمة والتغلغل والاجتياح، وقد لا يكون مضطراً للقيام بكل هذه الأعمال المشينة، إذ لا تكون الظروف الأمنية تستدعي حملاته المسعورة، ورغم ذلك فإنه يقوم بها ويبالغ فيها، ويصر عليها ويكررها، ويصنف ما يقوم به من أعمالٍ قمعية وممارساتٍ وحشية، بأنها أنشطة اعتيادية لجيشه، ومهام يومية ينبغي عليه القيام بها، صوناً للأمن، وحمايةً للمستوطنين، ومداهمةً «للمخربين»، وإحباطاً لعملياتٍ «عدوانية» محتملة.
باتت العربات العسكرية الإسرائيلية، والوحدات الأمنية الخاصة، وفرق المستعربين الكثيرة، والكلاب الضارية المدربة، تشاهد يومياً في مختلف أرجاء الضفة الغربية، تجتاح مدنها، وتداهم بلداتها، وتقتحم مخيماتها، وتعتقل أبناءها، وتشتبك مع أهلها، وتحدث خراباً كبيراً أثناء دخولها وخلال انسحابها، وتطلق النار عشوائياً بذريعة حماية عناصرها والدفاع عن قواتها، ولا تتردد في إطلاق النار على عناصر الشرطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، في حال الاشتباه بها أو عرقلتها مهمتها، رغم التنسيق الأمني المسبق معها.
وفي الأثناء لا تتوقف الجرافات الإسرائيلية عن تجريف الأراضي الفلسطينية وخلع أشجارها وإتلاف محاصيلها، وطرد أهلها وسكانها منها ومصادرتها منهم، تنفيذاً لقراراتٍ حكومية ببناء مستوطناتٍ جديدةٍ أو توسيع القديم منها، أو استجابةً ومساندةً لمحاولات غلاة المستوطنين وقادة اليمين المتشددين، بحماية بؤرهم الاستيطانية وتشريعها، ومساعدتهم في تثبيتها وتحصينها، كتلك التي يقوم بها فتية التلال ومجموعات المتطرفين من الشبان، الذين يخرجون كل ليلةٍ للاعتداء على الفلسطينيين وممتلكاتهم، وكأنهم يخرجون في عمليات صيدٍ مشروعة، وأعمال مدنية مسموحة، علماً أن جيش الاحتلال يراقبهم من بعيد، ويتابع أعمالهم عن كثب، ولا يتدخل لمنعهم أو إخراجهم من أراضي الفلسطينيين بالقوة، بل يتدخل فقط لحمايتهم والدفاع عنهم، عندما يرى أنهم يتعرضون للخطر، وأن السكان الفلسطينيين يحاولون الدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم، وحماية أرضهم وأشجارهم.
يشعر أهلنا في القدس والضفة الغربية أنهم مستهدفون عمداً، وأن الاحتلال يريد اقتلاعهم من أرضهم وإخراجهم منها بالقوة، ويتطلع إلى تشتيتهم وتفريقهم، وتمزيق أرضهم وبعثرة سكانهم، تحقيقاً لأحلامهم القديمة وأهدافهم الكثيرة، بالسيطرة الكاملة، والسيادة الكلية على «يهودا والسامرة» الضفة الغربية، إلى جانب كامل مدينة القدس وأحيائها العربية، وتحقيق مبدأ «أرضٌ أكثر وشعبٌ أقل»، وهو ما بات يخشاه حقاً نتيجة التزايد السكاني الفلسطيني، وتغير العقيدة الوطنية الفلسطينية، التي ترفض سياسات التهجير والترحيل، وتصر على التمسك بالأرض والعيش في الوطن، ولو في العراء تحت ظل السماء، أو في خيام تدق أوتادها في عمق أرض الوطن.
يبدو أن أهلنا في الضفة الغربية الذين باتوا يدركون المخططات الصهيونية، ومشاريع الاحتلال التوسعية، قد قرروا المواجهة، وأصروا على التحدي، فلا يفل الحديد إلا الحديد، ولا تُحَدُ السلطة إلا بالسلطة، ولا سلطة أقوى وأجدى وأعلى من المقاومة، ولذا فقد نشط المقاومون، وتعددت عملياتهم وتنقلت من مكانٍ إلى آخر داخل القدس ومدن الضفة الغربية، في رسالةٍ واضحةٍ وصريحةٍ، أن هذا الشعب لا يتخلى عن وطنه، ولا يتنازل عن حقه، ولا يستسلم للقوة، ولا يخضع للبطش، وأنه مصرٌ على التمسك بأرضه والدفاع عنها والاستشهاد في سبيلها، وقد رأى العدو من أهلنا ما يسيئه ويغيظه، وما يقلقه ويزعجه، ولعل عمليات المقاومة تتعاظم وتتزايد، وتتنافس فصائلها ويبدع أبناؤها، وتتعدد أشكالها.
أما الجانب الأهم والأكثر تطوراً في الوعي الجمعي الفلسطيني، فهو ما عمدت إليه المقاومة الفلسطينية، والتي سعت إلى إرسائه بالقوة، وفرضه بالسلاح، والتضحية من أجل تثبيته بالدم، والتمسك به مهما كانت الصعاب والعقبات، وهو «وحدة الساحات»، و»تضامن الجبهات»، وهو الاسم الذي اختارته حركة الجهاد الإسلامي اسماً لمعركتها الأخيرة مع العدو الصهيوني خلال عدوانه على قطاع غزة، ولعلها نجحت في التلويح به والإصرار عليه، وهو يلقى القبول والاستحسان لدى الشعب الفلسطيني كله في الوطن والشتات، وقد تمنوه قديماً وعابوا كثيراً غيابه.
ربما قد آن الأوان لفرض هذه المعادلة بقوة، وإرغام العدو على احترامها وعدم خرقها، فلا استفراد بأي منطقة فلسطينية، ولا استهداف لأي فريقٍ فلسطيني، ولا خذلان عن النصر، ولا تأخر عن المساندة، ولا سماح للعدو أبداً بالاعتداء على القدس أو المسجد الأقصى دون رد، ولا صمت عن اجتياحاته المتكررة لمخيماتنا ومدننا، وعدوانه على مقاماتنا ومقابرنا، وأرضنا وممتلكاتنا، دون ردٍ موجعٍ، وتضامنٍ عملي، وتهديدٍ فعلي.
وحدة الساحات، وتضامن الجبهات، عنوان عريضٌ ومعنى شامل، فلا يقتصر على فلسطين المحتلة وحدها، وإنما بعد أن تضامن الفلسطينيون مع بعضهم، واتحدت جبهاتهم في القدس وغزة والضفة والأرض المحتلة عام 1948، فقد بات لزاماً على كل أهل أرضٍ عربيةٍ محتلةٍ، وعلى كل مقاومةٍ نشأت لمقاومة الاحتلال والتصدي له، أن تحقق التضامن فعلاً، وأن توحد الجبهات عملاً، وأن تهدد الكيان الصهيوني حقيقة، ولعلنا أصبحنا من القوة والانتشار، ومن العمق والامتداد، والسلاح والقدرة، ما يمكننا من تحقيق أهدافنا، والانتصار على عدونا، وأقله لجمه ومنعه، وردعه وزجره، « قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ?لَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِمَا ?دْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ?لْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَ?لِبُونَ وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».
moustafa.leddawi@gmail.com

تركيا تدعو المعارضة في سوريا للتصالح مع النظام

علي الريمي

ما سرّ الاستدارة (الطارئة ) في السياسة التركية التي عبَّر عنها مؤخرا وزير الخارجية التركي مولود أوغلو، بدعوته ما تسمى بـ»المعارضة السورية» إلى المسارعة للمصالحة مع النظام السوري (أي مع القيادة الشرعية للجمهورية العربية السورية ممثلة في الرئيس بشار حافظ الأسد)؟.
من المؤكد أن القيادة التركية استدركت ولو متأخرة مواقفها تجاه الدولة السورية بعد أكثر من عقد من الغطرسة والتدخل في الشؤون الداخلية لجارتها (سوريا).
ما من شك في أن هناك العديد من الأسباب والمبررات التي طرأت في موقف أنقرة المشار اليه إزاء ما يحدث في القطر السوري منذ عام 2011م، حيث تعرض هذا البلد العربي الشقيق لمؤامرة شبه كونية نتج عنها اندلاع صراع مسلح بين السوريين أسفر عن سقوط الآلاف من أبناء هذا البلد الواحد.
على أن هذا الوضع شهد (وللأسف الشديد) تدخل أطراف خارجية إقليمية ودولية عملت على تغذية النزاع، عبر قيام تلك الأطراف بضخ مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة إلى مجموعات منشقة وأخرى إرهابية، جاءت من شتى أصقاع المعمورة لكي تنفذ أعمالاً تدميرية وتخريبية وتحت مسميات براقة، مثل دعوات الديمقراطية والحرية، وكلها عناوين خادمة تخفي وراءها أهدافاً استعمارية وتمزيقية كانت كلها تسعى إلى تجرئة الدولة السورية التي تقف في مقدمة دول الممانعة والمقاومة للكيان الصهيوني، الذي احتل ولا يزال يحتل الأراضي العربية في فلسطين ولبنان والجولان السوري حتى اليوم.
لكن هذه المؤامرة الكونية فشلت في تحقيق ما كان مخطط لها تنفيذه واستطاع السوريون قيادة وشعبا وجيشا الصمود بل والتصدي بكل اقتدار لكل أهداف ذلك المخطط المنحط والممول من بعض الأنظمة العربية المنفذة للأجندات الأمريكية الغربية، ولعل النظام التركي كان رأس الأفعى الذي فتح حدود بلاده المتاخمة لسوريا لدخول الكثير من المجاميع الإرهابية من أكثر من ثمانين دولة، كانت ولا زالت تمارس القتل بمختلف الطرق والوسائل الوحشية البشعة بحق أبناء سوريا، فحل الدمار والخراب في عدة مدن ومحافظات سورية.
وأخيرا بدأت العديد من الدول والأنظمة التي أوغلت في عدوانها وجبروتها وذبحها وسحلها لسوريا والسوريين وهجَّرت الملايين منهم من بيوتهم ومدنهم.
يمكن القول إن التحول الراهن في الموقف التركي تجاه الأزمة السورية هو تطوُّر متقدِّم في سلسلة المواقف التي تمارسها دول عظمى وغيرها بحق سوريا والعرب عموما.
وما صدر مؤخرا عن انقرة من تحوِّل ملحوظ إزاء ما يجري على الأرض السورية، هو موقف براغماتي واقعي يمثل تحولا لافتا، ناتج عن المتغيرات في موازين القوى التي يشهدها العالم حاليا، يأتي في مقدمتها قرب انتهاء زمن القطب الواحد المسيطر والمتحكم بزمام الأمور والملفات، وهو ما يؤكد أن قادم الأيام ستشهد الكثير من التغييرات والتغيرات على الساحة الدولية ومنها أفول عالم القطبية الواحدة وبروز عالم متعدِّد الأقطاب، إيذانا بانتهاء الهيمنة الإمبريالية الرأسمالية الغربية.
وما نأمله في خضم هذه المتغيرات الجارية راهنا، أن تغيِّر بعض الأنظمة العربية سياساتها ومواقفها حول الملف السوري بكل تعقيداته بشكل خاص وكذلك بعض المواقف المتعلقة بالعديد من بؤر الصراع المنتشرة والمستعرة في أنحاء مختلفة من دول العالم، ولعل الحرب الدائرة حاليا في أوكرانيا، ربما يسفر عنها بزوغ أقطاب متعددة وأقول أخرى، ظلت مهيمنة عالميا لعقود طويلة من الزمن.

قد يعجبك ايضا