منذ احتلال إسرائيل الجزء الشرقي من مدينة القدس عام 1967م وهي تقوم بسلسلة إجراءات متتابعة ومتصاعدة تهدف للسيطرة التامة على المسجد الأقصى، وتهويده، وتحويله إلى بناء تلمودي صهيوني خالص، وهي الإجراءات التي بدأتها بمجرد فرض سيطرتها على المدينة، حيث خاضت محاولة فاشلة لفرض السيادة الحكومية على المسجد الأقصى، من خلال تدخلها في إجراءات موظفي الأوقاف الذين ظلوا تابعين للأردن، ومن تلك الإجراءات مثلاً: محاولة التدخل في مضمون خطبة الجمعة، وهو الأمر الذي قوبل بمواجهة ورفض، ما اضطر الاحتلال للتراجع.
وبدأ الإسرائيليون في الدخول إلى المسجد الأقصى عقب الاحتلال مباشرة، ولكن كسياح أجانب، وليس كإسرائيليين، حيث أن غالبيتهم يحملون أكثر من جواز سفر، وهو الأمر الذي تواصل لمدة ثلاثة عقود تالية، وفي عام 1969م أقدم يهودي أسترالي يدعى مايكل دينيس روهان على إشعال حريق المسجد الأقصى، الذي أدى إلى خراب كبير في معالم مهمة في المسجد القبلي ومسجد عمر شملت السجاد والزخارف والأقواس والنوافذ، ومنبر صلاح الدين، ومحراب زكريا، ودمر الخراب مساحة تزيد عن 1500 متر من المسجد القبلي -أي حوالي ثلث مساحته- وساهم الاحتلال في تأجيج الحريق من خلال قطع المياه، ومنع سيارات الإطفاء التابعة له من الوصول إلى المسجد.
في الوقت ذاته بدأت الحفريات أسفل المسجد الأقصى وفي محيطه على أمل اكتشاف آثار يهودية، يتم البناء عليها كإثباتات تؤكد ملكية الإسرائيليين له، أو على أمل أن تؤدي الحفريات الضخمة إلى انهيار المسجد، ما سيجعل إمكانية تقسيمه أسهل من خلال السيطرة على عملية إعادة ترميمه، وقد كُشفت أول هذه الحفريات عام 1974م، والتي تصاعدت لاحقاً، فكان من آثارها انفجار هبة النفق عام 1996م، والتي استمرت لثلاثة أيام كفعل جماهيري فلسطيني ثوري مثّل خطوة انتقالية مهمة في مسار الصدام حول الأقصى.
ومع بدايات الاحتلال حاولت شرطة إسرائيل ضمان هيمنتها على المسجد الأقصى بشكل تدريجي، بدءاً من السيطرة على مبنى المدرسة التنكزية عند باب السلسلة الملاصق للجدار الغربي للمسجد الأقصى، وتحويله إلى مقر للشرطة، وقوات حرس الحدود، وهو الإجراء الذي تكرر لاحقاً وصولاً إلى تمكين جنود الاحتلال من اقتحام الأقصى بشكل دائم، بل والاستقرار داخله، واعتقال المصلين أو الاعتداء عليهم، كما رأينا في منتصف رمضان الفائت، حيث تم تقييد عشرات الشبان في المسجد القبلي بعد ضربهم، وهي الصورة التي اعتبرتها حماس تجاوزاً كبيراً، مُطالبةً على لسان رئيسها في قطاع غزة يحيى السنوار في خطابه الأخير بعدم السماح بتكرارها.
في الثمانينيات بدأت الاعتداءات الصهيونية المسلحة على المسجد الأقصى بالتصاعد، ففي عام 1982م حدثت ما عرفت بمجزرة الأحد، حيث أطلق الإسرائيليون النار على المسلمين في المسجد الأقصى، ما أدى إلى استشهاد فلسطينيين اثنين وإصابة 60 آخرين، وفي عام 1983م حاولت مجموعة إسرائيلية متطرفة تدمير المسجد الأقصى من خلال إدخال كميات كبيرة من المتفجرات إليه، وكادت تحدث كارثة كبيرة لولا اكتشافها، وفي عام 1988م أطلق الإسرائيليون النار في باحات الأقصى ما أدى إلى إصابة ومقتل 100 فلسطيني، وفي عام 1990م حدثت مجزرة الأقصى التي استُشهد فيها 22 وأصيب 200.
وخلال هذه الفترة تصاعدت الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، والتي كانت أول محاولاتها العلنية عام 1970م حينما اقتحمت مجموعة من أمناء الهيكل المسجد الأقصى، وقد أتبعت ما تسمى بمحكمة العدل الإسرائيلية ذلك الفعل بقرار يسمح لليهود في الصلاة في باحات الأقصى، حيث بدأت سياسة الاقتحام تتصاعد رويداً رويداً، وكان للحكومة الصهيونية بقيادة إيهود باراك في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000م مطالبات تتعلق بحرية السماح باقتحام الإسرائيليين للمسجد الأقصى، وعندما انتهت تلك المفاوضات بالفشل، أقدم ارئيل شارون على اقتحام المسجد الأقصى، مشعلاً الانتفاضة الثانية، وفاتحاً في الوقت ذاته أبواب الاقتحام العلني الفج للمسجد الأقصى أمام جموع المستوطنين، والذي دخل مرحلة جديدة تصاعدت فيها أعداد المقتحمين، وفي عام 2001م قررت محكمة الاحتلال فتح أبواب “زيارة” المسجد الأقصى أمام جميع اليهود.
ومن القضايا اللافتة فيما يتعلق بالعدوان على المسجد الأقصى خلال الفترات سابقة الذكر، أن صورة العدوان على المسجد الأقصى لم تكن قادرة على الوصول إلى جموع الفلسطينيين، مثلما حدث لاحقا مع انتشار الهواتف الذكية وثورة التواصل الاجتماعي، التي عززت إحساس الفلسطينيين بما يجري في رحاب الأقصى، فقد بدأت محاولة التقسيم الزماني للمسجد الأقصى مبكراً، لكنها لم تتضح لكثيرين إلا في عام 2015م مع إعلان الحكومة الصهيونية تبني هذه السياسة رسمياً، والتي جاءت تعويضا عن عجزها فرض التقسيم المكاني، حيث خصصت أوقاتا يكون فيها المسجد للإسرائيليين، وباقي اليوم للفلسطينيين، وهو الأمر الذي فجّر دائماً صراعاً واسعاً.
وقد تصاعدت أعداد المقتحمين الإسرائيليين من بضع عشرات قبل عقود، إلى 30 ألفاً منذ بداية العام، ومن حوادث متباعدة إلى سلوك شبه يومي، بل إن صحيفة يسرائيل هيوم ذكرت أن أعداد المقتحمين الإسرائيليين زادت بنسبة 1000% خلال عقد واحد فقط، وقد أدى ذلك إلى تنامي ظاهرة المرابطين والمرابطات الفلسطينيين في باحات الأقصى، وهي الظاهرة التي لعبت دوراً أساسيا في حمايته، وقد سعى الاحتلال لتحجيمها من خلال قرار حظر ما أسماه تنظيم المرابطين والمرابطات عام 2015م.
وقد تعزز الفعل الفلسطيني الساعي لحماية الأقصى والتمسك به خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير جداً مقارنة بما سبق، ويمكن فهم ذلك بمقارنة سريعة بين ردة الفعل الفلسطينية على إحراق المسجد الأقصى عام 1969م وبين محاولة الاحتلال منع الدخول إلى المسجد إلا عبر البوابات الإلكترونية عام 2017م، وهو ما رفضه الفلسطينيون، حيث اعتصموا على الأبواب لمدة أسبوعين، ما صنع حالة توتر كبيرة، أجبرت رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو على التراجع، ورفع البوابات الإلكترونية، والسماح للمصلين بالدخول دون قيود.
وفي عام 2019م اندلعت “هبة باب الرحمة”، حيث اعتصم المقدسيون على الباب الذي حاول الاحتلال فرض إغلاقه بالقوة، وتواصلت الفعاليات الاحتجاجية حتى نجح الفلسطينيون في الدخول من الباب، ثم تقدموا خطوة إلى الأمام بالعودة إلى الصلاة في مصلى باب الرحمة الذي كان الاحتلال قد أغلقه قبل ذلك لمدة 16 عاما.
وقد بلغ الفعل الفلسطيني المدافع عن المسجد الأقصى ذروته عام 2021م، حيث اندلعت في مايو معركة سيف القدس، والتي بدأت بالمطالبة بمنع إخلاء الفلسطينيين من الشيخ جراح، لكن شرارتها الفعلية انطلقت بالهجوم الشرس لقوات الاحتلال على المرابطين والمرابطات في الأقصى، والذين هتفوا لمحمد الضيف، ورفعوا الأعلام الفلسطينية ورايات فصائل المقاومة، وهو الأمر الذي تواصل لاحقاً، ومثّل رابطاً حيويا مباشرا بين المسجد الأقصى والمقاومة في قطاع غزة، والتي حاولت أكثر من مرة فرض حمايتها عليه، وهو ما يعزز حالة التوتر في كافة أرجاء فلسطين، خشية اندلاع مواجهة جديدة يكون عنوانها المسجد الأقصى، خاصة مع خاصية البث المباشر التي جعلت كل العالم على تماس مباشر مع كل حدث في الأقصى بمجرد حدوثه.
باحث في الشأن الفلسطيني