منذ قرون من الزمن و (حديث الغدير) يُحارب حرباً لاهوادة فيها، وكان لـ (ابن تيمية) النصيب الأكبر في محاربته، ثم من بعده (الوهابية).. فقد شككوا في صحته، وحرّفوا معناه، وقلَّلَّوا من شأنه، وبدَّعوا وفسَّقوا كل من يحتفل به ويحتفي بذكراه، أي الإحتفاء بالمناسبة التي قيلت فيه، وهو يوم الثامن عشر من ذي الحجة.. والعجيب أن عدداً من العلماء والمتعلمين، من أتباع المذاهب الدينية والفرق الإسلامية، تراهم جميعاً قد انتهجوا النهج الوهابي نفسه في محاربتهم لحديث الغدير، فبرغم أنهم ضد الوهابية في كثير من الأمور، إلاّ أنهم، في حديث الغدير، قد اتفقوا جميعاً في محاربته..
وكم قد سمعنا، في العقود الماضية، من تبديع وتفسيق وتكفير، لكل من يحتفلون بمناسبة (عيد الغدير)، وكم رأينا المَكَنَةَ الإعلامية للسلطات -آنذاك- كيف كان لها الدور الأكبر في تشويه “مناسبة عيد الغدير”، لدرجة أن وصل الحال ببعض خطباء المساجد إلى أن قال: إن في ليلة الغدير يجتمع الرجال مع النساء، وكل رجل يأخذ امرأة الآخر، إلى غيره من الكلام السخيف، الذي يخجل الإنسان العاقل من ذكره، فضلاً عن تصديقه!!
لقد كان الكثير من الناس، في العقود الماضية، يعتقدون أن مناسبة (عيد الغدير) مناسبة شركية، تتنافى مع الإسلام، وهذا الاعتقاد ناتج عن التعبئة الخاطئة، التي ظلت لعقود من الزمن تتبنّاها السلطات الحاكمة، وينفذها خليط من (العلماء، والمرشدين، والخطباء، والكتّاب، والصحفيّين، والأكاديميّين الموالين لتلك السلطات)!!..
والأغرب من ذلك، أن كثيراً من المنكرين والمحاربين لهذه المناسبة، خصوصاً العوام وطلاب العلم، لا يعلمون شيئاً عن هذه المناسبة، ولا عن الأحاديث النبوية، التي ذكرت (حديث الغدير) وأبرزت أهميته، ولا عن الآيات التي أكدته..
بل هكذا تراهم، ينعقون مع كل ناعق، ولكن بعد قيام ثورة الواحد والعشرين من سبتمبر، بدأ بعض الناس يفهمون حديث يوم الغدير ومعناه وأبعاده ودلالاته، وهذا بفضل (الثقافة القرآنية)، والتوعية عبر كل وسائلها، وبالمقابل مازال بعض الناس -علماء ومتعلمون- على قلوبهم أكنّة عن حديث (غدير خم)، والبعض الآخر ينظرون إليه نظرة طائفية، وكأن حديث الغدير يخص (الشيعة) وحدهم، ولا يخص الأمة بأكملها !!..
ونحن في هذا المقال، وكذلك في المقالات القادمة، سوف نناقش شبهاتهم، وندحض مزاعمهم، بأدلة دامغة، وبراهين ساطعة..
وإليكم الشيء اليسير من أدلة إثبات حديث الغدير.. فأقول :
إن تشكيكهم بحديث الغدير، إنما هو ناتج عن حقد مبطن تجاه آل البيت -عليهم السلام-.. فلا تجدهم يسمعون عن أية فضيلة لآل البيت، إلاّ ويحاولون التشكيك بها، بكل ما أوتوا من خداع وتزوير وتكذيب، بل وإذا ما ذكرتَ (علياً، والحسن، والحسين، والزهراء) بين أيديهم، وقمت بتعداد فضائلهم، إذا بهم تضيق صدورهم، وتتكشر أنيابهم، وتعبس وجوههم، ويَنْبِزونَكَ بالرفض، فيصبح كلامك غيرَ مقبولٍ لديهم؛ لأنك (رافضي) تسب الصحابة!!
وهكذا يكيلون لك كيلاً من الاتهامات…، فإذا أردت أن تسلم منهم وتكون مقرباً لديهم فاذكر غيرهم، وتَفَانَ في حبهم، وبالغ في عشقهم، فأنت حينئذٍ من الصادقين، المتبعين لسنة الرسول الكريم، عليه وآله أزكى الصلاة وأتم التسليم..
هذا مالمسناه في واقعنا، ووجدناه في الكثير من أبناء أمتنا .. ولانطيل في الكلام، فالحليم تكفيه الإشارة.
أما بالنسبة إلى تشكيكهم في صحة (حديث الغدير)، فَمَثَلُهُمْ عندي كَمَثَلِ ذبابةٍ أرادت أن تَحجُبَ نورَ الشمس..
وهؤلاء أرادوا أن يحجبوا الأمة، من خلال تشكيكهم في صحة (حديث الغدير)، ويسعون إلى تضعيفه، لكنهم عجزوا عن ذلك؛ لأن (حديث الغدير) غدا كالشمس في رائعة النهار، في كثرة طرق أسانيده، ورواياته المتواترة.. ناهيك عن أن جهابذة الأمة، من الأئمة والحفاظ والعلماء، قد أطبقوا على صحته، وتَواتُرِ رواياتِه، التي لايَجحَدُها إلا مكابر!!..
وإليك نص الحديث :
رُوي عن زيد بن أرقم، قال : “لما رجع رسول الله _صلى الله عليه وآله وسلم_ من (حجة الوداع)، ونزل “غدير خم”، أمر بدوحات فقممن(1)، فقال :(كأني دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله تعالى وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)، ثم قال :(إن الله عز وجل مولاي، وأنا مولى كل مؤمن)، ثم أخذ بيد علي -عليه السلام- فقال :(من كنت مولاه، فهذا وليه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه . . .)..(2)
[وفي رواية النسائي : “فقلت لزيد : سمعتَه من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ قال : نعم، وإنه ماكان في الدوحات أحد إلا ورآه بعينه، وسمعه بأذنيه(3)].
قال الحاكم -عقب حديثه الآنف-: “هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه”(4) ،
وفي روايةٍ أن عمر بن الخطاب قال لعلي بن أبي طالب : “هنيئاً لك يا بن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة”(5).
وأخرج الإمام الحافظ ابن المغازلي الشافعي (حديث الغدير) بطرق كثيرة، فتارة عن زيد بن أرقم، وأخرى عن أبي هريرة، وثالثة عن أبي سعيد الخدري، وتارة عن علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وبريدة، وجابر بن عبدالله، وغير هؤلاء..
فعن زيد بن أرقم: ” أقبل نبي الله من مكة في (حجة الوداع) حتى نزل _صلى الله عليه وآله وسلم_ بغدير الجحفة، بين مكة والمدينة، فأمر بالدوحات، فَقُمَّ ما تحتهن من شوك، ثم نادى : الصلاة جامعة، فخرجنا إلى رسول الله _صلى الله عليه وآله وسلم_ في يوم شديد الحر، وإنّ منا لمن يضع رداءه على رأسه، وبعضه على قدميه، من شدة الرمضاء … -إلى قوله – : ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فرفعها، ثم قال :(من كنت مولاه، فهذا مولاه، ومن كنت وليه، فهذا وليه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه …) قالها ثلاثاً ” (6)..
قلت:(حديث الغدير) يُعَدُّ من أصح الأحاديث، حتى قال فيه ابن حجر الهيثمي ما نَصُّه : ” إن حديث الغدير صحيح لا مرية فيه، وقد أخرجه جماعة، كالترمذي والنسائي وأحمد، وطُرُقُهُ كثيرةٌ جداً، ومن ثم رواه ستة عشر صحابياً، وشهدوا به لـ (علي) عليه السلام، لمَّا نوزع أيام خلافته . . .ولا التفات لمن قدح في صحته، ولا لمن رده ” (7).
وقد أجمعت الأمة على صحته، كما قال الإمام الغزالي(8)، وقال أبو القاسم الفضل بن محمد : “وقد روى حديث غدير خم عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- نحو مائة نفس، منهم العشرة، وهو حديث ثابت “(9).
_________________
*الهامش:
– (1) وفي رواية : ” فقم ماتحتهن من شوك ..” كما في المناقب لابن المغازلي ص29 ،
*ومعنى فقممن: أي تم تكنيس ماتحتهن من شوك.
– (2) أخرجه الحاكم في” المستدرك على الصحيحين ” [ 109/3 (4576)، ورواه مسلم في ” صحيحه ” [4(1873)] كتاب ” فضائل الصحابة ” باب 4 فضائل علي بن أبي،طالب ” روى هذا الحديث بأسانيد متعددة ولكنه لم يستكمله بل ذكر خبر الثقلين وأسقط الجزء الأخير من الحديث..
ورواه النسائي في الكبرى (8148)، والترمذي في “سننه” [621/5] والطبراني في “المعجم الكبير” [63/3] ح(2679)والطحاوي في شرح مشكل الآثار (1765)، ونقل ابن كثير عن الذهبي تصحيحه، كما في البداية والنهاية[229/5]. واعترف الألباني – محدث الوهابية- بصحته حيث قال : وهو حديث صحيح ، جاء من طرق جماعة من الصحابة خرّجت أحاديث سبعة منهم، ولبعضهم أكثر من طريق واحد، وقد خرجتها كلها وتكلمت على أسانيدها في سلسلة الأحاديث الصحيحة. “ظلال الجنة في تخريج أحاديث السنة”[ 2/338] ، وانظر التخريج الموسع للحديث في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” [4/330].
*قلت : ذكرنا هنا الألباني في تصحيحه للحديث كي نسقيهم بكأسهم، مع أننا لانعوِّل عليه..
وسيأتي بقية تخريج الحديث لاحقاً.
– (3)أخرجه النسائي في “الخصائص ” ص 39 – 40 .
– (4) وقد أخرجه الحافظ الذهبي في تلخيصه على المستدرك .
– (5) أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه في المناقب من حديث عمر، وزاد بعد قوله (وعادِ من عاداه) :”وانصر من نصره وأحب من أحبه” . قال شعبة أو قال وأبغض من بغضه “.
انظر ” ذخائر العقبى ” للمحب الطبري ص 67 ط
– (6)” مناقب الإمام علي بن أبي طالب ” للحافظ ابن المغازلي ص29 – 36 .
– (7) ” الصواعق المحرقة ” لابن حجر الهيثمي ص 42 – 44 .
– (8) ” سر العالمين ” للإمام الغزالي- ص 21 .
– (9)”مناقب الإمام علي بن أبي طالب ” للحافظ ابن المغازلي ص29 – 36 .