لا نبالغ إذا اشرنا إلى أن شعائرنا الدينية، التي من المفترض أن تحتل مكانة خاصة بين أفراد المجتمع بطقوسها وعاداتها وعباداتها المتوارثة، قد تحولت في السنين الأخيرة إلى عبءٍ اقتصادي كبير يثقل كاهل شرائح واسعة من الأسر والأفراد, ويكفي أن ننظر إلى حجم الاستهلاك والزيادة في شراء مختلف السلع المعروضة في الأسواق، خاصة في حال نظرنا إلى الارتفاع المستمر في أسعار مستلزمات العيد, كنتيجة لتطور الأنماط الاستهلاكية في الأعياد على وجه الخصوص، وظهور مهن تسوق لهذا الاستهلاك حول المجتمع البسيط إلى مجتمع يتباهى بما ينفقه لهكذا مناسبة دون أن يشعر فعلا بقيمته المعنوية والذي تراجع نكهته وحضوره نتيجة لتصاعد الثقافة الاستهلاكية وتحوله إلى مظهر اجتماعي بدلا من أن يكون مشاركة اجتماعية لان هذا التوجه له مخاطره الاجتماعية الكبيرة فهو يعمق الهوة بين الناس في المجتمع وربما نشهد أن الكثير من أفراد المجتمع لا يستطيعون أن يحتفلوا بالعيد بكل مستلزماته التي فرضت عبر السنين مثل الذين لديهم المقدرة المالية على الإنفاق، وهذا هو المؤسف أن صار العيد يأتي بالجديد وغير المتوقع كل عام، لكنه الجديد السلبي الذي يضغط على أفراد المجتمع ويحوله إلى مجتمع مستهلك دون ضوابط، بينما يفترض أن يأتي بتجديد وبشكل إيجابي أكثر وأكثر، فالغلاء والأنانية والجشع من البائعين التي صارت تأتي بها الأعياد ماهي إلا الرماد الذي يظهر على السطح في المناسبات، ليتراجع فيه مفهوم الترشيد وتنمو فيه الثقافة الاستهلاكية لتسيطر على كل عمل وفعل.
وبالتالي يمكن النظر في مظاهر العيد الحديثة وكيفية تحولاته من طقس ديني واجتماعي إلى جزءٍ لا يتجزأ من السلوك الاستهلاكي الذي قد يبالغ فيه بعض الأفراد ويتأثر به بقية أفراد المجتمع والتي تفتك بالأفراد وتشوه جوهر أعيادهم وشعائرهم، وهنا يطرح أمامنا العديد من الأسئلة عن علاقة المناسبة بظاهرة الاستهلاك المتزايد خلال الأعياد أو شهر رمضان أو غيرها من الأوقات ، إضافةً لدور البعد الديني بتفعيل أو تنشيط السلوك الاستهلاكي لأنها جعلت شريحة من أفراد المجتمع يغيرون من سلوكياتهم في الإنفاق بالزيادة على اقتناء حاجيات ومتطلبات مختلف السلع ذات الطابع الاستهلاكي وهم في الأساس تحت ضغط ضعف المقدرة حتى في اقتناء الحاجات والسلع الأساسية والضرورية.
فلا يكاد يبدأ موسم عيد الأضحى كل عامٍ، حتى يبدأ الأفراد بالشكوى حيال ارتفاع الأسعار بشكل عام تماشيا مع الموسم ، وارتفاع سعر الأضحية بشكل خاص يمكن اعتباره استغلالا للدافع الديني والاجتماعي فعندما تصبح الأضحية كسلعة باهظة الثمن بدلًا من رؤيتها كسلوك ديني يهدف للتكافل والترابط الاجتماعي، تصبح مجرد علامة تجارية أخرى تستهلك مع غيرها من السلع ولا تختلف عنهم، لكنها تكون بغطاء المناسبة، الأمر الذي يدفع الكثير من أفراد المجتمع إلى العزوف عن الشراء والتضحية، فيما يضطر آخرون إلى الشراء بالتقسيط أو اللجوء لمشاركة عددٍ من الأقارب والأصدقاء من غير القادرين على شراء أضحية كاملة وهم الغالب، وخاصة في ظل تراجع وتدني وتراجع الدخول وانقطاعها لدى شريحة ليست بالقليل الأمر الذي قد يضعهم في مأزقٍ كبير بين الرغبة بممارسة هذا الطقس الديني والاجتماعي وبين الواقع الاقتصادي والمادي الصعب وفي ظروف استثنائية تمر بها البلاد أشدها الفقر.
العلاقة بين قوة نسق الالتزام الديني والسلوك الاستهلاكي في عيد الأضحى، هو تفاعل بين مؤشرات أفكار البعد الديني وروح الاستهلاك كنسق اقتصادي من مفهومي الاستعداد للاحتفال ، ونوع الممارسات الخاصة به، والإيمان بمفهوم البركة والاعتقاد بالقناعة، والقيم الخاصة بالحفاظ على العبادات والأخلاق الدينية لمعرفة المعنى الحقيقي لمقاصد العبادات والشعائر الدينية كأفعال يتقرب بها الفرد إلى الله، كل هذه المؤشرات هي قيم وأفكار دينية لا بد أن تؤثر طردياَ في نسق الاستهلاك بالاعتدال والمنفعة، كسلوك استهلاكي في عيد الأضحى وغيره, والتي تعكس واقع المسافة بين مبدأ القيم والأخلاق والأفكار الدينية، والفعل الاجتماعي ككل, وأنه كلما كان الالتزام الديني قوياً، كلما قلت نسبة السلوك الاستهلاكي في الأعياد والعكس صحيح, أما كثرة الاستهلاك والإنفاق في الأسواق لكل ما يعرض فيها بما في ذلك ما يعرض في الإعلانات لمختلف السلع والخاصة بالأعياد والمواسم الدينية على انه نوع من الزيادة في الاستهلاك دون مراعاة مستويات الدخول من خلال اقتناء السلع حسب الرغبة فقط وليس الحاجة وهي حجر الزاوية للتعامل بإيجابية وعقلانية كفرصة لممارسة الاحتفال بهذا العيد بإعادة صياغة نمط الاستهلاك باقتدار وطريقة حكيمة بحيث لا تتجاوز المقدرة المادية وبحسب الحال حتى لا تتحول إلى ظاهرة تنبئ بالمزيد من الاستغلال والمتاجرة بالعيد في الحاضر و المستقبل لأن العيد يمكن أن يعلمنا كيف نعيد تشكيل قوتنا الاجتماعية والمادية وكيف نستثمرها ونستخدمها في الوقت المناسب يمكن أن يعلمنا كيف نبتعد عن تراكم الديون ويعلمنا الترشيد ويعلمنا كيف نقاوم الاستهلاك المفرط ونبتعد عما لا نحتاج له، لأن كثيراً ما يغيب الترشيد في أمور قصد بها الإحسان، ولا نزاع في حسن الإنفاق فيها إذا لم يتجاوز ذلك حد الاعتدال والقدرة، فيكون غياب الرشد فيها راجعاً إلى المبالغة في الشكليات التي لا تشكل المبالغة فيها فرقاً، لأن من المفترض أن العيد يقود الجميع إلى مشاركة بعضهم البعض ويدفعهم إلى الاحتفال لأنه فرصة للمراجعة والتجديد .
*باحث في وزارة المالية