كيف نصنع واقعاً مزدهراً ؟

يكتبها اليوم / عبدالرحمن مراد

 

نعيش اليوم جدلا غير مبرر في مفهوم وظائف الدولة، ونقول غير مبرر لأن العقل الإسلامي قد قال فصل الخطاب فيه بما لا يدع مجالا للجدل، وقد ترك العقل الإسلامي ظلاله على جل الأطروحات والفلسفات المعاصرة.
فالدولة معنية بتوفير أسس وأوليات الحياة الكريمة للرعايا، فالسكن من الضرورات الحياتية والبيولوجية للأفراد، ولذلك نجد الدولة المعاصرة تبذل جهدا مكثفا ومضاعفا في بناء الوحدات السكنية، وتوفير سبل العيش الكريم، فالاستقرار يبدأ من شعور الفرد بتوفر حاجاته البيولوجية، والحاجات البيولوجية شملتها عبارة موجزة في القرآن الكريم، وهي تتركز في الأمن من الخوف، والأمن من الجوع، أما أن يظل الفرد في المجتمع باحثا عن الأمن بمفهومه الشامل، فإن ذلك نذير بالاضطراب، ولا ضير أن ننظر إلى تجارب الآخرين في هذا المجال، فالأنسان في المفهوم الإسلامي مكرم، ومن حقوقه أن يعيش حياة مكرمة وكريمة، وحين نقول أننا لا نملك سكنا فمعنى ذلك أن خللا قائما في وظائف الدولة، ولا يدل ذلك على صفاء السريرة ونزاهة اليد، فالدولة معنية ضمن المحددات التي وضعها الفكر السياسي الإسلامي بحفظ النفس، وحفظ النفس مفهوم متشعب اتسعت دائرته في الفكر الإنساني، ويحسب للعقل المسلم أنه أول من خاض غماره، ويحسب علينا أننا أول من تركه خاليا من كل معنى في حياتنا المعاصرة .
من حق كل فرد مسلم أن يحصل على سكن مناسب وملائم، سواء كان رئيسا أو مرؤوسا، وليس من حق الرئيس أو الوزير أو المسؤول – إن كان دخله محدودا – أن يستأثر لنفسه بشيء يمتاز به عن شعبه، فالعدل أن يناله من الحقوق ما ينال شعبه من الحقوق، والتمايز والتفاضل مشروع لمن كان رزقه من عمل مباح ومشروع أكثر من سواه، ومن المعيب على المسلمين أن يمتاز رؤساؤهم عن بقية أفراد شعبهم، في ظل وجود نماذج تعيش على الكرة الأرضية – وهي غير مسلمة -لكنها تمثلت قيم الإسلام في أجلى صورها، فتجده يقف مع شعبه في طوابير العيش، ويذهب إلى محطات البترول وحيدا كي يزود سيارته بالبترول، ويفصل بين وظيفته الاجتماعية ووظيفته السياسية، فهو في مكتبه رئيس يمارس سلطته وفق الدستور والقانون، وهو في بيته مواطن له ما لهم، وعليه ما على بقية الناس من حقوق وواجبات، لا يستخدم مقدرات الدولة وإمكاناتها إلا في إطار وظيفته الرسمية، ثم يمارس حياته الخاصة مستخدما مقدراته الخاصة به، هذه النماذج التي نجدها في حاضرنا قرأنا في تأريخنا الإسلامي ما يماثلها، ولم نقرأ في تاريخ الغرب ما يماثلها، فقد كانت الكنيسة تستأثر لنفسها بمقدرات الشعوب وتمارس طغيانا واستبدادا يشبه الحال الذي عليه واقعنا العربي المسلم من شرق الجغرافيا المسلمة إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.
فالمسلم الحق اليوم يقرأ هذه القيم والمبادئ في التاريخ، فإذا ذهب إلى الغرب وجدها، وإذا عاد إلى ديار المسلمين لم يجدها، ولذلك قال أحد المفكرين المسلمين: “لقد ذهبت إلى الغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، وجئت إلى الشرق فوجدت مسلمين ولم أجد إسلاما “.. وهنا تكمن الإشكالية الحقيقية، في مستوى فهمنا للكليات التي قال بها الفكر السياسي الإسلامي، وقد حصرها في محددات خمس وهي : حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ المال، حفظ النسل، هذه المحددات هي ذاتها وظائف الدولة القديمة، وهي نفسها وظيفة الدولة المعاصرة، وقد تتكامل تلك الكليات وتتقاطع مع الأصول الخمسة عند المعتزلة، إلا أن جوهر القضية ومجاله هو مقاصد الله في الأرض، وما قاله السلف كان اجتهادا يؤخذ منه ويرد، فقد اجتهدوا ووضعوا الأسس الأولى، ولنا مثل عقولهم وربما قد نفوقهم فقد توفرت لنا من الإمكانات، ومن العلوم، ما لم يتوفر لهم، ولا بد لنا أن نجتهد مثلهم حتى نصنع الحيوات، ونحقق العدل، ونشيع الخيرية في الأرض، وبالتالي نحقق مقاصد الله، ونصل إلى مفهوم خير أمة، التي نص عليها القرآن الكريم في محكم آياته .
الكليات الخمس التي قال بها الفكر السياسي الإسلامي ذات تعاضد وتواشج، لا يمكن الاشتغال على واحدة دون سواها، لأننا سوف نصنع واقعا مبتورا وغير متكامل، فحفظ الدين يجب أن يصحبه حفظ العقل، وحفظ العقل مرتبط بحفظ النفس، وحفظ النفس متواشج مع حفظ المال، وحفظ المال مرتبط ارتباطا متسقا مع حفظ النسب وتنظيم الحياة الاجتماعية، ولدينا في تراثنا ما يغني عن سواه إذا اشتغلت العقول وآمنت النفوس، وتكامل التصور الذهني في الدين والحياة، وذلك كله لا يعني عدم الاستفادة من تجارب الأمم من حولنا، فقد تمثلوا قيم الدين وتخلينا عنها، وكل فكرة فلسفها الغرب منذ الثورة الفرنسية إلى يومنا المشهود نجد بذرتها الأولى في تراثنا الثقافي الإسلامي، فهم امتداد متطور للحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها في كل مجالات الحياة العلمية، والحضارية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، حتى فكرة الاشتراكية العلمية، والعدالة الاجتماعية، التي قال بها الفكر الاشتراكي، نجد بذرتها الأولى عند سلمان الفارسي، وهو يقف لعمر ابن الخطاب، وعند أبي ذر وهو يقارع الطغيان وغلبة الدنيا، والهوى، على الولاة من المسلمين، وعند الصعاليك الذين كانوا يرون الحياة حقا مشاعا يتشارك فيه الناس كلهم، وفكرة المساواة نجد بذرتها عند الإمام علي عليه السلام وهو يقف بين يدي القاضي في حال من المساواة مع رجل يهودي، متجردا من صفته الرسمية كأمير للمؤمنين – أي كرئيس دولة – وغير ذلك كثير مما أخذه الغرب وتركناه هملا دون الاشتغال عليه، لتحقيق الخيرية، والعدل، والمساواة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والسياسية، وتحقيق قيم المساءلة، وهي قيم يستنكف العقل الأخلاقي العربي المسلم اليوم من الانصياع لها أو تحقيقها .
لذلك نقول أن فكرة الإصلاح الثقافي والأخلاقي من ضرورات المرحلة حتى نصنع واقعا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا مزدهرا .

قد يعجبك ايضا