الملحمة اليمانية (معركة الدريهمي نموذجاً)
الكاتب والباحث / د. محمد البحيصي
في واحدة من تجلّيات الإمداد الإلهي واللّطف الربّاني تأتي (ملحمة الدريهمي).. تلك المدينة الوادعة على الساحل الغربي.. بوّابة حاضرة تهامة الكبرى (الحديدة) ونقطة ارتكازها في وجه المرتزقة وحثالات الأرض المعتدين، في الوقت الذي هي فيه ثغر المشروع والمسيرة القرآنية وامتحانه الصعب في معركة الحق مع الباطل.. معركة المستضعفين مع المستكبرين وأذناب المستكبرين، وكل معارك المسيرة كانت في سياق الحجّة الإلهية البالغة { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}.. وفي كل معركة كانت المعطيات تعلن أنّ المسيرة وأبناءها هم:
•الممكن النموذج الفريد الذي أريد له أن لا يرى الدنيا ولا تراه بتهمة الامتناع.
•وأنّهم الأمر الواقع الذي دوّى ضدّه الضجيج -منذ أول يوم- بأنّه المستحيل.
•وأنهم أسمى وسيلة لتحقيق أسمى هدف.
•وأنّ نظامها -المشاغب عليه من الحاقدين والجاهلين والمغفّلين- هو نظام الحياة في كل أعصارها وأمصارها.
•وإنّه الكنز الذي كانت تحنّ إليه نفوس الطامحين الصادقين كأعظم منشود، وتبحث عنه في الخيالات بعد أياسها من الواقع المشهود..
الذين أرادوا والذين فهموا الإسلام ديناً قابعاً معزولاً في زوايا المساجد والبيوت، لا يعرف منه إلّا لقلقة الألسنة بأذكار خاوية، وحركات الأجساد بعبادات ضاوية لربّما أتى بها الطغاة والمجرمون وأعوانهم -خداعاً وتضليلاً وتغريرا- وقرآناً مزخرفاً تزيّن به أرفف المكتبات والمنازل يعلوه الغبار، وفي أحسن الأحوال يتغنّى به في المناسبات رياءً ومكاءً وتصدية، ويعلّق لرفع البلايا وأعين الحاسدين، واستجلاباً للرغائب، ويخط على جدران مؤسسات تشريع الباطل، يحدّث عن العدل والشورى والقسطاس المستقيم، بينما سيوف القوم تحصد رقاب المظلومين المطحونين وتقطّع أوصالهم وتسرق رغيفهم، ومن قال عن القرآن غير ذلك وأنّه دستور لقيادة الحياة، ونور لهداية البشر فهو في ضلال بعيد…
ظلمات بعضها فوق بعض، نشأت عليها الأجيال خبطاً في شقوقها وعماياتها، ونهلاص من مائها الآسن، وطعماً من مرعاها الوبيل، لا تعرف غيرها، ولا ترى في الواقع سواها…
في كل هذا ومن بين كل هذا الرّكام طلعت المسيرة القرآنية بصرختها الشعار فأسقطت أوثان العصر وهزّت عروش الظلم، وخلعت أفئدة المتجبّرين، وهوت إليها قلوب المستضعفين المشتاقين، تسعى بأرواحها فتملأ الساحات والآفاق تعبيراً عن صادق الولاء، على طريق حبّها، لا تحور ولا تخور، بلا تحويل ولا تبديل، تنهل من صحائف وعيها وبصيرتها وثباتها فكراً وتبياناً، ما يغنيها عن أن تقتات من فتات موائد الجاهليات، وجعجعة المرجفين العاكفين على أعتاب الطغاة..
وكم وكم سعى الحاقدون والشانئون بشتّى السبل الملتوية أن يحطّوا من شأن المسيرة، ويحدّوا من انتشارها قبل حرب السلاح وبعدها.. من خلال حرب الشبهات والافتراءات، والأراجيف بما لا يقل عن حروب الطائرات والدبّابات والمدفعيات، حيث تغم الأمة بالشبهات ليالي الحيرة في أمرها، وظلمات تصرفها بعيداً عن سواء السبيل {.. وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}…
ولقد رأى الظالمون المستكبرون كم كان لهم بحرب الشبهات ومكرها في كلّ دار صريع، وفي كلّ أرضٍ فجيع، وكم قلبوا بزخرفها أوضاع الدول، وهدموا البشر والحجر والشجر..
ولكن… كانت الحقائق الرفيقة لخط المسيرة أقوى الروادع وأنجع الدوافع لتلك الشبهات القوارع، وكان وعي الأمة بنهجها، ومعرفتها بقائدها، وبيّنتها من مسيرتها وخطها، وبصيرتها بثورتها ومكائد أعدائها، حيث القرآن مرجعها في كل هذا وركنها الذي تأوي إليه وعينها التي تستسقي منها، كل ذلك جعلها في الحصن الحصين من تأثير تلك السّهام التي أريد لها أن تصيب المقتل في حبّ الأمّة لمسيرتها وقائدها، أو تنال من الولاء، وعزمة الفداء لعلّها ترجع بشيء من أذىً أو وهن، أو بلاء لا يصيب نهج المسيرة لما كان منها وما هو كائن، من الدّعاء بالموت للآلهة الجديدة ( أمريكا وإسرائيل) أو لعن من حقّت عليهم لعنة الله من اليهود، وقطع أيدي المستكبرين عن ثروات المستضعفين وتحكّمهم في سيادتهم وحرمتهم ومقدّراتهم ومصالحهم وتقرير مصيرهم بأنفسهم…
وكان لثبات الرجال ما فيه شفاء لكل ما أراد الكائدون، وصدٌّ عن عاديات المكائد والشبهات والحروب، وكان لسان صدق المسيرة في كل الجبهات.. جبهات السنان وجبهات البيان، فاضحاً لزيف المدّعيات، وبرهاناً قاطعاً لسحق البهتان، فكان بحق لسان الأمّة الظافر المنتصر، جاء بالحق دافعاً للباطل فإذا هو زاهق، وهبط من الملكوت إلى عالم التزاحم فزيّل بين الحق ناصراً وبين الباطل معذّباً، وإذا بالزّبد يذهب جفاءً، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض..
في الدريهمي رأينا كيف هو الزّبد على كثرته وطفوه وانتفاخه يتجافى فلا يظل له أثر، ورأينا كيف هي الكلمة الخبيثة كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار، ورأينا في ذات الزمان والمكان كيف هو نور الله الذي هو كلمة الله التي يمشي بها الأحياء المجاهدون في سيرورة وصيرورة الكمال والعلاء، {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}، ونور حامله، { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} حيث من استنار بالنّور الأتم كان له تمام النور، ومن فاء إلى الكلمة الطيبة اتّحد بشجرتها فكان أصله ثابت وفرعه في السماء يؤتى أكله كلّ حين بإذن ربّه… حتى لو كان في غار ثور، أو في شعب أبي طالب، أو في بدر وأحد والخندق وحنين، وصولاً إلى يمن الإيمان والحكمة، حيث اكتمال البرهان وبلاغة الحجّة على صدق وعد الله بنصرة وإعزاز جنده.. في كل الجبهات والسّاحات كان نموذج الدريهمي ومثاله حاضراً في صعدة وفي الجوف، وفي مارب، وفي الحد الجنوبي، وفي الساحل الغربي، وفي البيضاء، وفي القوة الصاروخية والمسيّرات، وحيث كان حق التقوى وصدق التوكّل، وحسن الظن بالله ثم بالقائد، والتحرّك في دائرة الواجب لا في دائرة الإمكان، بالوعي والبصيرة والعمل المشهود من الله ورسوله والمؤمنين..
جاء نصر الله والفتح، وهزم الجمع وولّوا الدّبر.. وسبّح المجاهدون واستغفروا وقالوا الحمد لله رب العالمين.
* رئيس جمعية الصداقة الفلسطينية – الإيرانية