الحلقة الثالثة (3-4)

المناضل عبدالله سلام الحكيمي في حوار الذكريات لـ (الثورة ): الشهيد الحمدي ضحية لمشروعه الوحدوي القوي المغاير لمصالح قوى النفوذ المحلية والإقليمية والدولية

الشهيد الحمدي كلّف الرائد علي قناف زهرة بتخطيط وتسوير جامعة صنعاء الجديدة وشراء الأراضي باسمها فأنجز المشروع بسرعة مذهلة

الأزمة بين الدولة والقبيلة لم تكن جديدة، لكن استغلالها من الخارج كان أكثر دقة في الوصول إلى مؤامرة الاغتيال الإجرامية

الغشمي لم تكن الوحدة اليمنية أو العربية في وارد تفكيره، وصالح تعامل معها كصفقة تجارية لتأسيس ملك عائلي سيدوم لقرون

الرئيسان الشهيدان الحمدي وسالمين وحدهما من تعاملا مع قضية الوحدة اليمنية كمشروع وطني واستحقاق تاريخي بعيدا عن الفردية والمطامع الشخصية

في الحلقة الثالثة من حوار الذكريات سلّط المناضل السياسي والقيادي الوحدوي الناصري عبدالله سلام الحكيمي الضوء على مسار الأحداث الدراماتيكية للمشهد السياسي اليمني في فترة السبعينيات وبالأخص قضية حركة 13 يونيو 1974م وما أسسته من مشروع وطني وحدوي خالص، متطرقا -بحكم معرفته بالشهيد الرئيس الحمدي وبحكم عمله كأول رئيس تحرير صحيفة 13 يونيو الصادرة عن التوجيه المعنوي- إلى ما شهدته تلك الفترة من أزمة معقدة بين الدولة والقبيلة وكيف استغلت القوى الإقليمية والدولية التي رأت أن مشروع دولة قوية في اليمن يهدد مصالحها، وكيف آلت تعقيدات تلك الأزمة وصولا إلى مؤامرة الاغتيال الإجرامية التي استهدفت أهم رئيسين وحدويين في شمال اليمن الحمدي وفي جنوبها سالمين..
عبد الله سلام الحكيمي في هذا الحوار التاريخي، أكد أن مشروع الوحدة اليمنية كاستحقاق وطني وشعبي تاريخي تعرض للاستغلال السياسي من قبل نظام الشمال الذي تفوق على نظام الجنوب في أحداث 13 يناير 1986م وليس في 7 يوليو 1994م، ووفق عمل انتهازي أحال الوحدة إلى مكسب خاص به، في خطأ استراتيجي لا نزال نعاني تبعاته حتى اليوم، موضحا أن الحرب والحصار اللذين تشهدهما اليمن للعام السابع على التوالي أحد أهم كوارث ذلك الخطأ الاستراتيجي المرتبط بفوضوية التعامل مع الوحدة اليمنية.. قضايا أخرى تجدونها في الحلقة الثالثة من حوار الذكريات.. إلى التفاصيل:

حـــــــاوره/ محمد محمد إبراهيم

استتباعا للحديث عن مراحل نشاطك السياسي في الحلقة السابقة التي أشرت في آخرها لتفاصيل عن صعودك إلى عضوية اللجنة المركزية والقيادة التنفيذية للتنظيم الناصري، تلك التفاصيل تحيلنا إلى سؤال محوري حول علاقتكم بالرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي.. فماذا عن بدايات تلك العلاقة؟
– قصة معرفتي بالرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي كانت بشكل غير مباشر وعن بعد منذ ما قبل ظهوره البارز في قيادة المسيرة الوطنية أقصد حركة ١٣يونيو التصحيحية عام١٩٧٤م، أي حين كان في موقع نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الداخلية، ذلك أنني من خلال متابعاتي للتطورات الداخلية كنت أرى في شخصه أملا وطنيا واعدا لليمن ومستقبله، رغم أنني لم التق به وجها لوجه أو عبر حديث أطلاقا، وكنت اطرح على رفاقي قادة التنظيم الناصري، أثناء فترة العمل السري طبعا، باستمرار أن هناك قائدين سيلعبان دورا محوريا تاريخيا في مستقبل بلديهما الأول إبراهيم الحمدي والثاني سعدالدين الشاذلي ( قائد عسكري مصري شغل منصب رئيس أركان القوات المسلحة المصرية في الفترة مايو 1971-ديسمبر 1973م).. وظل هذا الشعور يتعزز لديّ ويتعمق يوما بعد يوم وكنت أتمنى أن تتاح لي فرصة رؤيته عيانا، وحين ذكرت الأخبار انه سيفتتح دار الكتب، بجانب القصر الجمهوري ذات يوم، طلبت إجازة طارئة من عملي، وكنت حينها اعمل مديرا لمكتب رئيس جامعة صنعاء ورئيسا للسكرتارية الفنية لمجلس الجامعة، لأحضر الحفل كي أراه، وبالفعل شاهدته عن قرب وتفحصت ملامحه ونظراته ومشيته و.. الخ، ثم عدت أدراجي إلى عملي وأنا أكثر إيمانا ويقينا بما كنت أراه واتوقعه من دور له وأخبرت رفاقي بذلك وكنا نتداول هذه الانطباعات بين فترة وأخرى ومن قبيل الممازحة كانوا يدعونني بـ”المنجم”!
ثم دارت الأيام ولم تتزعزع قناعتي السابقة حتى قامت حركة ١٣ يونيو التصحيحية عام ١٩٧٤م بقيادته وكان الرفاق يمازحونني بأن نبوءتك تحققت في الحمدي ولم تتحقق في الشاذلي! وكنت مناصرا للحركة منذ يومها الأول سواء باللقاءات والنقاشات” المقيلية” أو بعدها بالكتابات الصحفية في الصحف والمجلات مثل مجلة الجيش وأحيانا صحيفة الثورة ومعين على ما اذكر، كل ذلك ولم يحدث بعد أي لقاء بالرئيس الحمدي، ثم تطورت تفاعلاتنا ومواكبتنا…

من أنتم .. أقصد أنت ومن؟ وماذا كان دوركم؟
– كنا رفاقاً كثراً، لا استطيع تذكر جميع الأسماء ولكن من بين أهم تلك الأسماء الأستاذين الكبيرين المرحوم مطهر حسان وعمر الوصابي وكانت لدورنا الإعلامي في الواقع، ثلاثتنا، أصداء مسموعة في الأوساط السياسية والشعبية، ثم علمنا بعد ذلك أن الشهيد الرئيس الحمدي كان يتابع كتاباتنا في سياق متابعته للكتابات الصحفية والإخبارية وكان يطرح على زملائه في مجلس القيادة الذين كانوا يشعرون بقلق أن الحركة ليس لها تنظيم يغطيها إعلاميا وكان يقول لهم لا تقلقوا فان أعمالنا ستكون هي إعلامنا، وذكّرهم مستشهدا بكتاباتنا وغيرنا قائلا لهم هؤلاء الذين يكتبون ويساندون الحركة لا نعرفهم ولا يعرفونا إلا من أعمالنا و.. الخ.
ودارت الأيام وبرزت فكرة تأسيس صحيفة أسبوعية باسم الحركة في ظل تنافس مرير على إصدارها بين وزارة الإعلام وإدارة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة التي كانت أسرع في تقديم تصور مقترح إجرائي بإصدار صحيفة ١٣ يونيو كجريدة أسبوعية بجهود وإبداع النقيب – آنذاك علي حسن الشاطر مدير التوجيه المعنوي والأستاذ محمد الزرقة – رئيس تحرير صحيفة الثورة اليومية، رحمه الله..

من رشّحك لتشغل رئيس التحرير قبل أن يكون بينك والحمدي أي معرفة وجها لوجه؟
– مما يرويه العزيز علي الشاطر انه حينما طرحت فكرة الصحيفة على الشهيد الحمدي باعتباره القائد العام للقوات المسلحة قال على الفور: ما عندنا ميزانية مالية للصحيفة، فأوضح له الأخ علي الشاطر أن القيادة العامة لن تتحمل أي نفقات مالية وسوف تتم تغطيها من الإعلانات ومن اعتماد الإدارة ماعدا مرتب رئيس التحرير، فتساءل: كم المرتب..؟ قال له الشاطر: الف ريال إلا قليل، !فوافق وعرضت عليه أسماء ثلاثة مرشحين لرئاسة التحرير أولهم الأستاذ الكبير عبدالله البردوني والثاني الأستاذ محمد الزرقة والثالث عبدالله سلام الحكيمي، فقال الحمدي: الأول كاتب كبير وأديب وشاعر ورئاسة تحرير صحيفة ذات طابع إداري تحريري إخراجي والبردوني اكبر من ذلك، أما الثاني فلا يصح أن يكون رئيساً لتحرير صحيفتين معا، أذن فليكن الثالث الذي هو أنا، وقد تمت الموافقة وفوجئت وزارة الإعلام بالعدد الأول في الأسواق وأثاروا ضجة ما لبثت أن احتوت.. ومرت الأيام والصحيفة تصدر أسبوعيا وصدر قرار بمنع استخدام سيارات الجيش والشرطة للأغراض العائلية واحترم ونفذ بشكل دقيق، وكنت يوما معزوما على الغداء في منزل الأخ العزيز علي حسن الشاطر، لنعود معا بعد الغداء للعمل في الإدارة، وكانت عائلته الكريمة في المقعد الخلفي للسيارة الجيب المقفص ورقمها طبعا جيش، وخرجنا من البيت عبر زقاق ضيق يفضي إلى شارع مجاهد وفي نهاية الزقاق مرت سيارة صالون فجأة من شارع مجاهد وإذا هو الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي ومعه سائقه فقط، فارتبك الأخ علي كثيراً ولم تكن هناك إمكانية لتغيير مسار السيارة فتوقف الحمدي جانبا لما رأى الشاطر في السيارة ونزلنا هو وانا وكان يتقدمني ببضع خطوات، فأدى هو التحية العسكرية للحمدي وانا بجانبه، فقدمني له قائلا: هل تعرفه يا فندم؟ أجاب وهو يتفرسني بنظراته “ماشي” (لا) فقال له هذا عبدالله سلام الحكيمي رئيس تحرير صحيفة ١٣ يونيو، فهز رأسه بشيء من الارتياح وقال: “الأذن تعشق قبل العين أحيانا”، كان هذا أول تعارف شخصي مباشر بين الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي وبيني.

بعد نجاح حركة 13 يونيو 1974م ظهر تنظيم وحدوي جديد عرف بـ “الطلائع الوحدوية اليمنية” ..هلا حدثتنا عن هذا التنظيم الناصري؟
– هذا التنظيم خلاصة لأطوار وأشكال وأسماء عدة منذ أن تحدثنا عنها في الحلقة السابقة وقد بدأت هذه التشكيلات منذ أواخر عام ١٩٦٣م تقريبا مثل الجبهة الناصرية في المنطقة الوسطى دثينة، وامتدت إلى مناطق أخرى في الجنوب مرورا بتنظيم القوى الثورية العربية، كتنظيم قومي وفرعه في اليمن وكان حينها أنضج الأشكال التنظيمية التي تشكلت حتى عام ١٩٦٥م تقريبا، ثم بعد ذلك تبلور التنظيم الشعبي للقوى الثورية العربية في الجنوب “حرب التحرير” والاتحاد الشعبي الثوري في عهد الرئيس المشير عبدالله السلال، وغيرها من التنظيمات، وصولا إلى الحوار بين قيادة فرع الطليعة العربية في اليمن والرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي والذي نتج عنه الاتفاق على إنشاء تنظيم وطني الوجود والحركة وبفكر قومي وحدوي جديد يدمج بين فرع الطليعة العربية والتشكيلات العسكرية لحركة ١٣ يونيو في اطار تنظيمي واحد، فكان تأسيس تنظيم الطلائع الوحدوية اليمنية بشعارات معدلة هي “حرية عدالة اجتماعية وحدة” بدلا من ” حرية اشتراكية وحدة” وهناك تفاصيل كثيرة عن هذا المسار الطويل وخاصة الحوارات والمناقشات المستفيضة والثرية الطويلة التي دارت بين قيادة فرع الطليعة العربية والرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي الذي أظهر ثقافة سياسية وفكرية وتنظيمية رفيعة كانت محط إعجاب شديد لدى قيادة فرع الطليعة الذين شاركوا فيها، وهذه النقاشات تحتاج إلى حوار منفصل للإلمام بمضامينها وأبعادها.

هل تم توثيق هذه الفترة ضمن أدبيات التنظيم..؟
– للأسف الشديد لا، والأدهى أن قيادة الناصريين لاتزال حتى اليوم، منذ قيام حركة ١٥ أكتوبر ١٩٧٨م، وما تلتها من أحداث مأساوية ومريرة وخاصة استشهاد القيادة العليا للتنظيم بعد فشل الحركة، لا تزال تعرقل كتابة وتوثيق تاريخ ومسيرة العمل الناصري في اليمن ليكون في متناول الأجيال اللاحقة ووفاء لدماء وأرواح الضحايا والشهداء الذين سقطوا ظلما في الجنوب والشمال معا، ولا أدرى لماذا تتخذ هذه القيادات مثل تلك العرقلة وإحباط أي جهد حاول مرارا العمل من أجل هذا العمل التوثيقي التاريخي الهام؟.

الأزمة بين الدولة والقبيلة
بالعودة إلى ما قبل هذه المآلات.. وكشاهد حي.. كيف تصاعدت أزمة الخلاف بين الدولة والقبيلة؟ ومن كان يغذي الأزمة؟
-التعارض بين الدولة والقبيلة قديم والعلاقة بينهما علاقة متعاكسة دائما، فكلما قويت الدولة وبسطت سيطرتها على أرجاء الوطن ضعفت القبيلة وتوارى نفوذها السياسي والعكس بالعكس، على انه من الموضوعية والإنصاف هنا أن نشير إلى أن المشكلة لا تكمن في القبيلة كوحدات اجتماعية مثلها مثل سائر التكوينات الاجتماعية كالفلاحين والعمال والحرفيين والتجار والطلاب و.. الخ، لأنها ظاهرة اجتماعية موصولة بمحطات التطور التاريخي للمجتمع، إنما المشكلة كانت تبرز، خاصة مع ضعف سلطة الدولة، فتستغل الزعامات القبلية ذلك الظرف فتعمّق العصبويات القبلية وتسوقها في مواجهة مع الدولة بهدف تحقيق طموحات تلك الزعامات المشائخية وممارسة ضغوطات تتوافق في تصاعد وتائرها مع استمرار ضعف الدولة لعوامل الفساد وسائر الاختلالات وعدم قدرتها على تحقيق وبسط سيطرتها الوطنية وقيامها بواجباتها كدولة تجاه المجتمع، وزاد الطين بلة أن تلك الزعامات المشائخية أجادت تضخيم دورها بذكاء، مع تحلل الدولة، وقدمت نفسها كأدوات قابلة للشراء لدول الجوار الطامعة والمستهدفة لأي نمو وتطور لليمن دولة ومجتمعا، وأغدقت على تلك الوجاهات المشائخية الكبيرة وخاصة بالأموال وراكمت مصادرهم المالية وتضخيم ثرواتهم التي استغلوها لمصالحهم الخاصة والأسرية ولم يستفد منها أفراد قبائلهم الذين كانوا يعيشون في حالة من الفقر وشظف العيش، رغم أن قبائلهم كانت سببا لثرواتهم الفاحشة، هذا جانب، والجانب الآخر انه مع صعود بعض القادة العسكريين إلى سدة الحكم اعتمادا على الغلبة الانقلابية، وكلهم تقريبا ينتمون إلى قبائل، أثار حساسيات قبلية من كون الحاكم للدولة منتمٍياً إلى احدى القبائل، مما يجعل القبائل الأخرى تستنكف أن يحكم البلد من قبل حاكم قبلي ينتمي لإحدى القبائل المتنافسة باعتبار ذلك عاراً يمس شرف وعزة القبيلة المحكومة، وهذه مشكلة لا تقتصر على مجتمعنا فقط ولكنها مشكلة أساسية في المجتمعات المكونة من قبائل وعشائر متعددة، وفي هذه الحالات تستغل تلك الحساسية القبلية لإحداث توترات وتمردات وانشقاقات خاصة من قبل قوى إقليمية أو دولية ذات أجندات ومصالح لها في اليمن، وكثيرا ما استغلت القبائل لزعزعة استقرار البلد، وبالذات إذا لم يكن نظام الحكم عادلا ورشيدا أو حين لا يكون الحاكم منتمياً لإحدى القبائل الكبيرة المتنافسة مثل الأئمة مثلا وفترة حكم القضاة “القاضي الأرياني مثلا والرئيس الحمدي”، وهكذا، وهذا عامل مهم جدا تاريخيا إذ انه يكون دائما عامل استقرار سياسي واجتماعي ممتد زمنيا.

باتجاه الاغتيال
هل ما ذكرته كانت العوامل الأبرز.. أم أن هناك عوامل أخرى؟ وهل كانت النخب تتوقع هذا الحادث الأليم؟
-لم تكن هي العوامل وحدها وإن شكلت أزمتها الأرضية المناسبة للاغتيال فقد تضافرت العوامل والتقت الأسباب، والأهم من ذلك أن الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي كان ضحية مشروعه الوطني الطموح والكبير والهادف إلى بناء دولة يمنية حديثة عادلة قوية تنهض بإعادة بناء اليمن الجديد المتطور والقوي والموحد، ولقد أفزعت السرعة الفائقة في تحقيق المكاسب والإنجازات على طريق وضع مشروعه موضع التنفيذ العملي خلال مدة زمنية قصيرة جدا، القوى المحلية التقليدية التي أرادت إبقاء الدولة الهشة في اليمن مائدة تقتات من خيراتها وتراكم ثرواتها بالفساد والمحسوبيات بنفس القدر التي افزع قوى الجوار وكذا القوى الدولية الاستعمارية كأمريكا والغرب، من تهديد يشكله مشروع الحمدي الوطني الوحدوي الطموح على مصالحها وأجنداتها في الإقليم، حيث كانت تلك القوى ترى في تقاربه مع أشقائه في الجنوب خطرا كبيرا، وكذا مشروعه حول ترتيبات وتحالفات أمن ووحدة الدول المشاطئة للبحر الأحمر وإبعادها عن الصراعات وهيمنة القوى الدولية، وبالمقابل كان هناك الاتحاد السوفيتي، وتوابعه من القوى الإقليمية، الذي أقلقه تقارب الرئيس الحمدي مع أخيه الرئيس سالمين وانعكاسه السلبي على منطقة نفوذ السوفيت في الجنوب، فعملت كل هذه القوى، بشكل جماعي أو فردي كل على حدة، متحالفة مع الجماعات المحلية المتضررة من مشروع الحمدي الوطني.. لذلك فقد كانت جريمة مؤامرة الاغتيال مركبة وفق خطتين الأولى: في صنعاء على النحو الذي تم بكل بساطة، وفي حال فشلت خطة صنعاء، فإن الخطة الثانية ستكون في عدن عبر قصف طائرته في الجو فوق مطار عدن حيث كان الرئيس الحمدي يتأهب لزيارة الرئيس سالمين في وقت متأخر من يوم اغتياله في صنعاء، ما يعني أن مخطط الاغتيال كان كبيراً جداً ولم يتسن حتى الآن فتح ملفه وكشف كل أبعاده، والهدف النهائي هو لاغتيال وتصفية مشروع الحمدي الوطني والطموح والفتي.
ولعل ما يلفت النظر أن كل القوى السياسية والحزبية والشخصيات الاجتماعية في اليمن(النخب)، كانت لديها معلومات أولية عن مخطط لاغتيال الحمدي، واجهته احمد الغشمي وعلي عبدالله صالح وبعضهم كانوا يبلغون الشهيد الحمدي بمعلوماتهم وتوجساتهم من مؤامرة تحاك لاغتياله لكنه استبعدها ورفض تصديقها، حيث لا معلومات مؤكدة وأدلة عليها وكان شديد الإيمان بالله والثقة بنفسه.

جبهة 13 يونيو
بعد اغتيال الرئيس الحمدي.. تأسست جبهة 13يونيو للقوى الشعبية “الناصرية” التي كنت أمينها العام.. ماذا عن هذه الجبهة؟ ومن هم المؤسسون؟ وماذا عن أهدافها؟
-جبهة ١٣ يونيو للقوى الشعبية أسست بقرار من قيادة تنظيم الطلائع الوحدوية اليمنية مباشرة بعد اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، ولإنشائها سببان:
الأول: حالة الاستياء والحزن الذي خيم على الجيش والشعب لبشاعة جريمة الاغتيال، فكانت التسمية تأكيدا على ارتباطها بحركة١٣ يونيو التي قادها وخطط لها الشهيد الحمدي، ولإبقاء اسم الشهيد وحركته حيا.
والثاني: إن ما نتج عن حالة الاستياء واسع النطاق وخاصة في الجيش والأمن أن شاع مناخ واسع من الاستعداد والاندفاع في الوسطين العسكري والشعبي وخاصة القبلي للعمل الحزبي الهادف إلى التغيير، فكان إنشاء الجبهة بهدف التوسع في الاستقطاب الحزبي السري بدون المرور بكل الشروط والمعايير التنظيمية ومراحلها من الاستكشاف والحوار والإعداد والتحري والاختبار الطويل للعنصر حتى يكون مؤهلا لعضوية التنظيم الحزبي وهذا يستغرق فترة زمنية طويلة، بمعنى آخر كانت الجبهة بمثابة الاطار الواسع الذي يمثل غذاء للتنظيم الأصل، الأقل تشددا بكثير في شروط وخطوات ومعايير الاستقطاب، ولم تكن هناك حاجة لمؤسسين والخطوات المتعارف عليها من برامج ومؤتمر وقيادة و..الخ، لأن قيادة التنظيم هي نفسها التي تدير الجبهة وتقودها والأمين العام المعلن هو احد أعضاء القيادة التنفيذية العليا والمسؤول السياسي فيها غالبا ما يكلف من قبل القيادة كواجهة سياسية في الجانب الإعلامي من تصريحات ونشاطات وحوارات ويعتبر المنفذ لقرارات وتوجهات قيادة التنظيم على مستوى الجبهة، أي أن الجبهة ليست كيانا مستقلا تماما، فقياداتها هم أصلا من قيادات وكوادر التنظيم، أما أهدافها فهي إحداث التغيير ردا على مؤامرة اغتيال الرئيس الحمدي والتي كانت بمثابة انقلاب مكتمل الأركان وتصدينا لمواجهته في حركتنا..

حركة 15 أكتوبر
أين كنت في زمن حركة 15 أكتوبر 1978م؟ ما حقيقة ما يقال عن علاقة القبيلة بعوامل فشل الحركة؟
-كنت في حركة ١٥ أكتوبر١٩٧٨م أحد أعضاء قيادة تنظيم الطلائع الوحدوية اليمنية بشقيها المدني والعسكري، في اللجنة المركزية وقيادتها التنفيذية، وفي صنعاء.. وليس صحيحا القول إن للقبيلة علاقة بفشل الحركة أبدا، ويمكنني القول هنا باختصار شديد إن الفشل يعود أساسا إلى سوء تنفيذ الحركة ميدانيا، بعد أن كان التخطيط والإعداد والتنظيم لها على مستوى عال من الانضباط والدقة، ومما يؤسف له أن القيادات اللاحقة التي توالت على قيادة التنظيم بعد ١٩٧٨م، لم تول أي اهتمام بإعداد تقييم شامل لعوامل وأسباب فشل الحركة، لا بل أسدلت ستار النسيان عليه رغم انه بعد فشل الحركة مباشرة تم تعميم استبيان يتضمن عدداً من الاستفسارات والأسئلة لكل من شارك من أعضاء التنظيم عسكريين ومدنيين، بشكل مباشر أو غير مباشر، للإجابة عليها من قبلهم، ثم جمعت وركنت جانبا منذ ذلك الحين وحتى اللحظة! تماما كما فعلوا مع مطلب كتابة تاريخ التجربة والتنظيم الناصري خلال مسيرته بمراحلها المختلفة في اليمن للأسف الشديد أيضا!.

رؤساء الشطرين ومشروع الوحدة
باختصار شديد وتجرد فكري في شهادة تسجلها للأجيال، ومن واقع ما عايشته وعاصرته من تحولات سياسية وانتقالات حاكمية في مسار النظامين الجمهوري في شطر اليمن الشمالي، والاشتراكي في شطر اليمن الجنوبي وصولا إلى إعلان إعادة تحقيق الوحدة، في أصيل يوم 22 مايو 1990م.. ما علاقة هذه الشخصيات السياسية بهذا الحدث التاريخي (السلال -الشعبي – الإرياني-الحمدي – سالمين- عبدالفتاح إسماعيل- الغشمي – صالح – علي ناصر محمد- البيض) أو بالأحرى من هو الرئيس المشروع الوحدوي بمفهومه الحضاري والإنساني وليس السياسي الحاكمي أو الإقطاعي.. ؟
– دعنا أولا نستبعد اثنين من الرؤساء أعلاه؛ احمد الغشمي وعلي عبدالله صالح، فالأول لم تكن الوحدة اليمنية ولا العربية في وارد تكفيره، وكان كل همه عندما وصل إلى كرسي الرئاسة بالخيانة والغدر والدم أن يصنع لنفسه ملكا على غرار إقطاعيات القرون الوسطى، والثاني لم ينظر إلى قضية الوحدة باعتبارها مشروعاً وطنياً واستحقاقاً تاريخياً، بقدر ما تعامل معها بعقلية تآمرية، كيف يتآمر على الشريك الوطني للوحدة ويقصيه ويصفيه لينفرد هو وحده بحكم البلاد الموحدة، وقد صار مغريا له أكثر أن يحكم ويتصرف بمساحة ارض دولة الوحدة الواسعة وخارطتها المترامية الأطراف، فتعامل مع الوحدة بمفهومها الجغرافي والثرواتي، كصفقة تجارية هدفها الأول تأسيس ملك عائلي كان لا يخفي الحديث عنه في بعض مجالسه الخاصة بأن هذا الملك سيدوم لقرون.
وأما الآخرون فلا شك أن لكل منهم دون استثناء دوراً وإسهاماً في الدعوة إلى الوحدة والعمل من أجل تحقيقها، وإن كنت أرى، من وجهة نظري، بأن الرئيسين الشهيدين الحمدي وسالمين هما من نظرا وتعاملا مع قضية الوحدة اليمنية كمشروع وطني تاريخي بعيدا عن الفردية والمطامح الشخصية، وكان منهجهما في إعادة تحقيق الوحدة موضوعيا وحريصا دون محاصصة ولا تقاسم وإنما بالشروع في بناء دولة يمنية حديثة عادلة قوية مهابة! ولعل هذا هو السبب الحقيقي الكامن وراء تصفيتهما تباعا وفي ظرف زمني متقارب جدا!..

قد يعجبك ايضا