عندما تتقاطع المصالح ويتمترس الأطراف في لعبة “آنا أو الطوفان” تصبح الأزمات معقدة وعصية على قبول التسويات، وحال الأزمة في السودان يقدم نموذجا، فبعد أن أجمعت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة “إيغاد” على آلية ثلاثية مشتركة تقضي بإدارة حوار وطني بين المكونين المدني والعسكري، للخروج من الأزمة واجهت “الآلية” مشكلات في جمع شتات الطيف السياسي المدني في مكون واحد قابل لإدارة حوار مع المكون العسكري لتضع بمواقفها هذه عقبات جعلت مشروع الحوار الوطني مجرد جملة إضافية في سجلها الحافل بالفشل.
الثورة/ تحليل / أبو بكر عبدالله
يستمر الغليان في الشارع السوداني بتظاهرات يومية وأسبوعية، يرفع فيها المتظاهرون سقف مطالبهم إلى إسقاط النظام وإقصاء كامل للمكون العسكري، مطالبته العودة إلى الثكنات وتسليم الحكم إلى قوى مدنية لم تستطع في نحو عام من عملها في تحشيد الشارع إنتاج توافق بينها وأخفقت في تقديم رؤية واقعية موحدة للحل، سوى في توافقها على استدعاء آليات ثورات “الربيع العربي” بمفاعليها المعلبة مشعلة معها حالة فوضى وقمعا مضاداً زاد مشهد الأزمة السودانية قتامة.
منذ أكتوبر 2021م عندما أطاح مجلس السيادة العسكري بحكومة الدكتور عبد الله حمدوك وحاضنها السياسي تحالف الحرية والتغيير، يعيش السودان أزمة سياسية عميقة زادها لجوء المكونات السياسية المدنية إلى حشد الشارع في تظاهرات دورية مناهضة لانقلاب المجلس العسكري الذي يعتقدون أنه قوض استحقاقات الفترة الانتقالية في السودان التي بدأت في 21 أغسطس 2019م وكان يفترض أن تنتهي بانتخابات في يوليو 2023.
في كل جولات الحوار السابقة وجهود الوساطة الإقليمية والدولية كانت القوى السياسية المدنية تخفق في تشكيل كتلة سياسية موحدة، وتخفق أكثر في إنتاج رؤى توافقية قابلة للتطبيق، في حين كانت التظاهرات تنتج اشكالا معقدة لتتشكل من رحمها مؤخرا لجان المقاومة التي تنتشر حاليا في العاصمة الخرطوم وبعض الولايات بتظاهرات غاضبة حاولت مرارا اقتحام القصر الرئاسي والمقار الحكومية محوِّلة بوصلة المجلس العسكري بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان نحو تشديد الإجراءات الأمنية، حتى صار إغلاق الجسور والطرق الرئيسية المؤدية إلى قلب العاصمة إجراء يوميا روتينياً تشارك فيه إعداد كبيرة من القوات النظامية والعربات العسكرية مخلِّفة المزيد من الاحتقانات والاضطرابات السياسية والمزيد من التدهور الاقتصادي.
لم تنتج ثمانية أشهر من التظاهرات وأعمال العنف والقمع سوى المزيد من التعقيد في المشهد السياسي السوداني في ظل انقسام واسع بين المكونات السياسية المدنية من قوى تحالف الحرية والتغيير – المجلس المركزي، وقوى الحرية والتغيير – جناح الميثاق الوطني المؤيد للمجلس العسكري وتجمع المهنيين.
هذا المشهد أنتج ثلاثة تكتلات سياسية مدنية تتناقض فيما بينها برؤى وتصورات متباينة، ففي الضفة اليمنى ثمة تكتل الميثاق الوطني الذي يضم العديد من المكونات المؤيدة للمجلس العسكري، وفي الوسط تكتل 110 تنظيمات سياسية سودانية في تكتل ” الإعلان الوطني لدعم السيادة والانتقال الديموقراطي” الذي يدعو إلى الحوار السوداني” لإنهاء حالة الفراغ الدستوري وتهيئة المناخ لحوار شامل.
في الضفة اليسرى تمترس التكتل الثالث الأكثر حضورا في المشهد الميداني والذي جمع تنسيقيات لجان المقاومة التي أعلنت مؤخرا برنامجها المسمى “ميثاق سلطة الشعب” معتمدة اللاءات الثلاث ” لا تفاوض، لا شراكة، ولا شرعية” شعارا سياسيا لمواجهة “الانقلاب” ولإبعاد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية.
واضيف اليها التكتل الذي أعلنه الحزب الشيوعي السوداني تحت مسمى “قوى الثورة الحية” ويضم أيضا الحركة الشعبية لتحرير السودان وجيش تحرير السودان وقوى أخرى، وجميعها تتفق على مناهضة المجلس العسكري وترفض الانخراط في الحوار الوطني معه.
الآلية الثلاثية
بسبب هذا الانقسام أمضى السودانيون الكثير من الوقت في دوامة من المد والجزر والمظاهرات وأعمال العنف والقمع المضاد، قبل أن تحضر الجهود الإقليمية والدولية هذه المرة في صيغة مشتركة ضمن مشروع “الآلية الثلاثية” التي تضم بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (الإيغاد) لبحث سبل نزع فتيل الأزمة وإنتاج تسوية سياسية توافقية بين المكونين المدني والعسكري.
في 27 أبريل الماضي أطلقت الآلية الثلاثية” مشروعا للحوار تضمن أربعة محاور لحل الأزمة تشمل: وضع ترتيبات دستورية توافقية وتحديد معايير اختيار رئيس الحكومة والوزراء، وبلورة برنامج عمل يتصدى للاحتياجات العاجلة للمواطنين وصياغة خطة محكمة دقيقة زمنيا لتنظيم انتخابات نزيهة.
حظي مشروع “الآلية الثلاثية” للحوار بتأييد ودعم دولي وإقليمي من دول ” الترويكا” أمريكا وبريطانيا والنرويج ” وكذلك دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها فرنسا وألمانيا خصوصا أنها لامست مفتاح الأزمة العميقة في السودان بالتصورات التي طرحتها لحل الأزمة الهادفة إلى تشكيل حكومة مدنية ووضع أساس دستوري وبرنامج قابل للتطبيق في أسرع وقت ممكن.
على المستوى الداخلي لم يكن التأييد الذي حظيت به “الآلية الثلاثية” من المكونات السياسية المدنية والعسكرية مجانيا، فالمجلس العسكري أيدها على ما يبدو لاستقطاب المدنيين الرافضين لسيطرته على السلطة ولفك عزلته الداخلية والخارجية، في حين أن تأييد القوى المدنية المنخرطة تكتل الإعلان الوطني للسيادة والانتقال الديموقراطي” جاء بعد مطالبة “الآلية الثلاثية” المجلس العسكري بوقف الاعتقالات ورفع حالة الطوارئ وإطلاق سراح جميع المعتقلين بمن فيهم أعضاء لجان المقاومة. وتعبيرها عن القلق البالغ إزاء استخدام القوة المفرطة في الرد على الاحتجاجات، فضلا عن دعوتها إلى إجراء تحقيقات موثوقة في جميع “حوادث العنف” في إطار ما اعتبرته الآلية خطوات ضرورية لتهيئة الظروف المواتية لإنجاح العملية السياسية، في حين رفضت المكونات المدنية الأخرى الآلية جملة وتفصيلا.
كان واضحا أن الأطراف المشاركة في وضع “الآلية الثلاثية” قد فهموا الطبيعة الانقسامية للقوى السياسية المدنية، فقرروا أن تكون الخطوة الأولى جمعها ضمن تيار واحد يمكن أن يشارك في حوار مباشر مع المكون العسكري بإشراف “الآلية الثلاثية” للوصول إلى تفاهمات مشتركة تخرج السودان من أزمته السياسية المركبة.
مع بدء “الآلية الثلاثية” إدارة حوارات تمهيدية بين القوى السياسية المدنية سعيا إلى إيجاد كتلة سياسية واحدة يمكن من خلالها أن تشارك في حوار مع المجلس العسكري رأى البعض أن هذه الخطوة كانت محاولة لإنتاج كتلة سياسية يمكن ممارسة الضغوط عليها لتحريك الجمود بمشاورات الحل السياسي، بعد أن كانت فقدت القدرة على السيطرة على المكونات المدنية المنقسمة في الساحة السودانية، لتنتهي المحاولة بإعلان العديد من المكونات المدنية مثل تجمع المهنيين ولجان المقاومة والحزب الشيوعي السواني عدم المشاركة في الحوارات التمهيدية بل ورفضها وعدم الاعتراف بنتائجها.
هؤلاء اعتبروا أن المشروع الذي بدأته “الآلية الثلاثية” لم يمس جوهر الأزمة السودانية بل تعاطى معها على أنها خلاف بين المكونات المدنية، في حين أن الأصل أن تطلق حوارا بين المكونين المدني والعسكري.
من جهة أخرى اصطدم مشروع ” الآلية الثلاثية” بالمطالب المتشددة لبعض المكونات المدنية وفي مقدمتها تحالف الحرية والتغيير الذي أقصاه المكون العسكري في وقت سابق عن مفاصل السلطة، حيث قدم مقترحات للبعثة الأممية يطالب فيها بأن يكون إنهاء الانقلاب على رأس أهداف العملية السياسية إلى جانب استئناف المسار الديمقراطي وتشكيل سلطة مدنية كاملة وكيفية اختيار شاغلي الوظائف العليا في مؤسسات الحكم وصولا إلى إجراء الانتخابات العامة.
لجان المقاومة
في مقابل شروع “الآلية الثلاثية” في إدارة حوارات تمهيدية خرجت تنسيقيات لجان المقاومة بـ “ميثاق سلطة الشعب” في خطوة أرادت فرض أمر واقع يقلب الطاولة على الجميع، بتقديمه على هيئة “ميثاق سياسي لتمكين الشعب من تولي السلطة في دولة وطنية ديمقراطية لا شراكة فيها مع القوى المضادة للثورة ولا تفاوض فيها على وجود المؤسسة العسكرية في الحكم والمجال السياسي.
حمل مشروع لجان المقاومة توجهات سياسية علنية بإقصاء كامل للمؤسسة العسكرية وهيكلتها وإلغاء الوثيقة الدستورية مقابل وضع “إعلان دستوري مؤقت” يستند إلى “الميثاق”.
في العديد من بنوده لم يختلف “الميثاق” المقر من تنسيقيات لجان المقاومة عن الأهداف الرئيسية التي تتبناها سائر القوى السياسية المدنية وكذلك المجلس العسكري الحاكم، غير أن إعلانه بصيغة “ميثاق سياسي” جاء لغرض إحداث ثقب في السياج المتماسك للمجلس العسكري أملا في إبعاده عن المعادلة السياسية كليا.
ذلك أن “الميثاق” في فصوله الأربعة تضمن أهدافا تسعى لإقامة دولة القانون والمؤسسات وتعزيز الحقوق والحريات العامة من خلال تكريس مبدأ الفصل بين السلطات، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع في المنافسة السياسية، كما نص على “القصاص العادل والفوري بواسطة محاكم ثورية، فضلا عن تسريع عمل التحريات والمحاكم الخاصة بالفساد وجرائم نظام الإنقاذ، وسن القوانين الرادعة لمكافحة الفساد ومحاكمة المتورطين في الانتهاكات”، وهي قضايا تطالب بها كل القوى السياسية السودانية بما فيها المجلس العسكري الحاكم.
عدا ذلك جاءت البنود الأخرى معبرِّة عن رؤى التيارات السياسية المتشددة في تحالف الحرية والتغيير وتجمع المهنيين الطامحة في العودة إلى المربع الأول من خلال حل المجلس السيادي العسكري وتشكيل مجلس سيادي مدني جديد من ثلاثة مدنيين وإلغاء الوثيقة الدستورية والعودة إلى دستور عام 1956م المؤقت وتشكيل المجلس التشريعي الانتقالي من الثوار ولجان المقاومة ومراجعة اتفاق السلام وتحقيق دولي في أعمال العنف التي شهدتها التظاهرات وأدت إلى سقوط قتلى وجرحى من المدنيين.
وأكثر ما أثار القلق في مشروع “الميثاق” دعوته إلى هيكلة قوات الأمن وتشكيل حكومة ثورية من التكنوقراط، وتكوين مجلس أعلى لقيادة قوات الشعب المسلحة من الضباط الشرفاء المفصولين تعسفيًا ومن قدامى المحاربين، وتشكيل مجلس تشريعي من القوى الثورية ومجلس اعلى على أن تقوم هذه المجالس بوضع الدستور.
ويبدو أن تنسيقيات لجان المقاومة قد فصّلت هذا الميثاق ليس فقط للإطاحة بمجلس السيادة العسكري بل لتفكيك أركان المؤسسة العسكرية بالدعوة إلى إعادة هيكلة قوات الجيش والأمن التي تمثل الحصن القوي للمجلس الحاكم، على طريق ما يسمونه إنهاء الانقلاب، فضلا عن رفضها العملية السياسية المعلنة من بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال الديمقراطي “ومواصلة المقاومة حتى إسقاط سلطة المجلس العسكري وتحقيق القصاص العادل لضحايا الانقلاب والثورة السودانية”.
عقبات في الطريق
كانت بعض توجهات البرنامج الذي أعلنته لجان المقاومة موضع انتقاد العديد من الأطراف المحلية والإقليمية والدولية خصوصا أنه هو قطع الطريق أمام أي فرص للحوار الوطني، وأعلن رفضه المشروع الذي تقوده “الآلية الثلاثية” ورفض أي نتائج يخلص إليها، ما وضع عقبات أمام الجهود الإقليمية والدولية لإخراج السودان من نفق الأزمة.
وبدا أن هناك تعارضا كبيرا بين رؤية “الآلية الثلاثية” ورؤى القوى المحرِّكة للتظاهرات، فالأولى تراها أزمة سياسية يمكن تجاوزها بالتوصل إلى نقاط مشتركة عبر الحوار فيما ترى القوى المحركة للتظاهرات أنها في حالة ثورة ضد الانقلاب عسكري.
هذا الأمر عبَّر عنه كذلك الحزب الشيوعي السوداني مؤخرا بالتأكيد على أن “الآلية الثلاثية” أخطأت في التعامل مع القضية السودانية، إذ تعاملت معها كأزمة بين القوى السياسية والعسكريين وينبغي حلها بالتفاوض، ولا تنظر إلى الحراك الشعبي الذي يهدف للإطاحة بحكم العسكريين، وإقامة دولة مدنية ديمقراطية تحقق أهداف الثورة السودانية في الحرية والعدالة والسلام”.
زاد الحزب الشيوعي باتهام “الآلية الثلاثية” بتأييد الإفلات من العقوبة في ما يخص الجرائم والانتهاكات التي تعرض لها المتظاهرون والتي بينها تقرير رئيس البعثة الأممية “يونيتامس” فولكر بيرتس خلال إحاطته مجلس الأمن الدولي عن الأوضاع في السودان.
في المحصلة يمكن القول إن القوى المحرِّكة للشارع أقصت نفسها عندما أعلنت رفضها “الآلية الثلاثية” وشرعت في حشد الشارع لمقاومتها، ما دعا إدارة “الآلية الثلاثية” إلى إعلان أن لجان المقاومة لن تكون جزءا من المحادثات غير المباشرة التي تديرها الآلية في الوقت الراهن، وأن اللقاءات التي تمت بينها وبين لجان المقاومة جاءت بناء على دعوة من لجان المقاومة، لمناقشة تطورات الأوضاع السياسية واستطلاع آرائها حول العملية السياسية والاستجابة لأي تساؤلات حول المشاورات السياسية.
لكن هذا الإعلان أثار القلق من الفشل المحتمل لجهود “الآلية الثلاثية” في جمع أطراف الأزمة السودانية على مائدة الحوار، خصوصا أن معادلة الحوار في السودان لا يمكن أن تستقيم إن لم تضم جميع أطراف الأزمة وخاصة تجمع المهنيين ولجان المقاومة والحزب الشيوعي وحلفائه، على اعتبار أن عدم مشاركة قوى ثورية مؤثرة قد يقلل فرص نجاح السودان في الحوار الوطني وبالتالي إخفاقه مجددا في تجاوز أزماته.
هذا الأمر قد يتحول في القريب إلى عقبة كأداء أمام حلول التسوية السياسية للأزمة، في حين أن غياب تنسيقيات لجان المقاومة التي تضم كتلة شعبية وازنة هي تجمع المهنيين وشباب الثورة الرافضين للانقلاب العسكري والمطالبين بالحكم المني وقوى اليسار السوداني، يُرجح أن نتائج الحوار قد لا تكون مقبولة من أطراف عدة.
وبالنسبة لمجلس السيادة العسكري فالجميع يعرف أن الضغوط الخارجية التي يواجهها كانت السبب الأول في إعلان تأييده جهود “الآلية الثلاثية” خصوصا وهو يعوِّل على هذا الحوار لتحقيق توافق لإكمال الفترة الانتقالية، وهو ما عبّر عنه مؤخرا عضو مجلس السيادة ياسر العطا عندما أكد حرص المجلس العسكري على التهيئة لأجواء الحوار والاتفاق حتى على الحد الأدنى من النقاط التي تكفل الشروع في عملية الحوار الوطني.
بدأ المجلس العسكري ترجمة تعاطيه مع الجهود الإقليمية والدولية عمليا بالتخفيف من أجواء الاحتقان الناشئة جراء التظاهرات والعنف المضاد، والإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين، غير أن هذه الخطوات أخفقت في تعزيز أجواء الثقة والتقارب، بعدما تبين أن وعوده بإلغاء حالة الطوارئ لم تتحقق في ظل استمرار اعتقال المئات دون إجراءات لإطلاق سراحهم.
ورغم الخطوة المهمة التي شرع فيها المجلس العسكري بالحد من سياسة الإقصاء التي اتخذها سابقا بحق رموز النظام السابق وقواعده السياسية والمدنية، إلا أن هذه الخطوات زادت المشهد تعقيدا في ظل اتهام قوى المعارضة للمجلس العسكري بمحاولة دمج فلول النظام السابق في العمل السياسي لتعزيز رصيده الشعبي وليس التهيئة لإنجاح الحوار.
مقاربات خاطئة
لسوء الحظ لم تدرك القوى المدنية السودانية حتى اليوم خطأها في مطالبها القديمة – إقصاء النظام السابق ولم تدرك أنها تمارس الخطأ ذاته بمطالبتها اليوم بإقصاء المجلس العسكري عن معادلة الشراكة والحكم، كما لم تدرك أن الحسابات تغيرت ولم تعد بتلك المعطيات التي تشكلت في طفرة الربيع العربي.
والرهان على ضغوط الخارج على قوى حاكمة في الداخل لن يأتي بالحرية ولا بالديموقراطية، ذلك أن الخارج اليوم وإن كان يبدو اليوم حليفا مؤيدا لمطالب الحرية والديموقراطية، فالمؤكد أنه لن يسمح للقوى الثورية غدا بممارسة أي دور أكثر من استخدامها كمترجم محلي بائس لا يمتلك لغته ولا مشروعه الخاص.
في المقابل ما يزال المكون العسكري يحتاج إلى مراجعات وإلى اغتنام الفرصة الأخيرة بتقديم تنازلات أكثر لإنجاح الحوار الوطني للوصول إلى تسويات نهائية تكون موضع قبول واتفاق مع المكونات المدنية التي يفترض كذلك أن تشرع في تقديم تنازلات وتتبنى لغة سياسية تصالحية مع المكون العسكري وسائر المكونات السياسية الأخرى.
فالجميع يعرف أن استخدام اللغة السياسية التصالحية الرصينة في الأزمات يكون أقوى بكثير من استخدام لغة التهديد والوعيد، لأن الأخيرة عندما تفصح عن نفسها بهذا القدر فهي تنتج في الوقت نفسه وسائل صدها ووسائل التكيف مع عواقبها فتضعف مع مرور الوقت لتحل محلها دوامة أزمات تعيد إنتاج نفسها إلى ما لا نهاية.
يتعين التأكيد هناك على أن عدم التفات القوى المدنية إلى ترتيب أثاث البيت يبقي حالة عدم الارتياح لصيقة عند الجميع، ولن يمنح أحد فرصة للاستقرار لا اليوم ولا غدا، بل الأرجح أن يحول جدار البيت إلى سجن، وحتما ستمارس لعبة التدويل هوايتها برفع جدرانه إلى أقصى مدى..
لا يحتاج الأمر لتوقع ما سيكون عليه حال السودان في حال استمر وقود الأزمة في الاشتعال، فأقرب نتائجها ستنعكس حتما على الاقتصاد الذي سيطحن معه الشارع السوداني تحت وطأة المعاناة والجوع وغياب الأمن، وعندها ستأتي نقطة التحول الكبرى بانهيار كل أطراف السياسية حاكمة وغير حاكمة من تلقاء نفسها.