يشعر الليبيون بثقل الأزمات السياسية والأمنية المستعصية التي تعصف بهم منذ 11 سنة بعدما صارت بلادهم مسرحا لصراعات دولية بالوكالة تستدعي كل يوم أزمات جديدة ما تنفك تضع الليبيين أمام تحديات أكثر تعقيدا فها هي تداعيات الأزمة بين روسيا والغرب المشتعلة في شرق الكرة الأرضية تلقي بظلالها على المشهد الليبي مع استمرار الانقسام الذي تفرضه -منذ مطلع العام الجاري- حكومتان تتمترسان خلف المليشيا في طرابلس وسبها في وضع انقسامي بالغ التعقيد يلوح بفصل جديد من الصراع المسلح يبدو حتى الآن مؤجلا بانتظار تحولات ما في مسار أزمة الحرب المشتعلة في أوكرانيا.
الثورة/ تحليل / أبو بكر عبدالله
إلى حد ما تقلصت فرص تفجر الصراع المسلح في ليبيا، بعد إعلان الحكومة المشكلة من البرلمان برئاسة وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا التخلي عن مشروعها الدخول إلى العاصمة بالقوة والبقاء في مدينة سبها بدلا من العاصمة طرابلس التي يتمركز فيها غريمه السياسي رئيس حكومة الوحدة الوطنية المقال من البرلمان عبد الحميد الدبيبة والذي استمر في ممارسة مهامه بضوء أخضر دولي رافضا قرار البرلمان إقالته ومتحصنا بمقره في العاصمة بحراسة المليشيا الموالية.
لكن خطابات باشاغا والدبيبة الأخيرة إلى الشعب الليبي بمناسبة عيد الفطر حملت رسائل مغايرة عن واقع ومستقبل الصراع والانقسام الذي يعيشه الليبيون فقد عاد ممثلو الحكومتين بقوة إلى المراوغات السياسية والأمنيات بالحديث العام المفتقر للآليات عن الانتخابات ودغدغة مشاعر الليبيين عن قدرة كل حكومة في تنظيم الانتخابات البرلمانية والرئاسية المتعثرة منذ نهاية العام الماضي وتحسين الأوضاع الاقتصادية والأمنية والخروج بليبيا من نفق الأزمات.
سوى ذلك لم يقدم الدبيبة وباشاغا جديدا، فالأول لا يزال عند موقفه الرافض لقرار البرلمان إقالته، ومصرا على تنظيم الانتخابات بالقواعد القانونية والدستورية المفتقدة للتوافق وتسليم السلطة لحكومة منتخبة، بينما الثاني عند موقفه الذي يعتبر حكومة الدبيبة منتهية الولاية ومغتصبة للسلطة وتفتقد للشرعية البرلمانية وعاجزة عن تنظيم الانتخابات.
ومع ذلك فقد بدا المسار الذي اختاره باشاغا مطمئنا للبيبين بعدما تعهد بألا يدخل العاصمة طرابلس بالقوة، وتأكيده اللجوء إلى الأدوات السياسية والدبلوماسية لعزل حكومة الدبيبة ونزع يدها عن السلطة التنفيذية ناهيك بإطلاقه مبادرة تستهدف -كما قال -نبذ الخلافات ولم شمل الليبيين وإنهاء الصراع والتداول السلمي للسلطة وإصلاح النسيج الاجتماعي.
ورغم أن المجتمع الدولي فضل ترك حكومتي باشاغا والدبيبة تمارسان اعمالهما بذريعة تلافي المواجهات العسكرية، إلا أن مخاوف الشارع الليبي تتزايد كل يوم من مخاطر استمرار الانقسام الحكومي على الاقتصاد والحياة المعيشية والأمنية التي تعاني من تدهور حاد، تفاقم أكثر مع وجود حكومتين عمقتا حال الانقسام في الملفات السياسية والاقتصادية التي تهم الشارع الليبي وكان يُنتظر أن تأتي الحكومة الجديد بحلول جذرية لها.
ذلك أن الحكومتين رغم التهدئة الشكلية تواجهان مشكلات عميقة، فحكومة باشاغا المشكلة من البرلمان قبل أربعة اشهر لم تتكمن حتى اليوم من دخول العاصمة طرابلس ولم تتمكن من العمل بشكل فعلي ولا تزال تفتقد للتمويل المالي الذي تسيطر عليه حكومة الدبيبة المقالة والتي تواجه هي الأخرى صعوبات حالت دون ممارسة مهامها في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في المناطق الشرقية والجنوبية، في ظل وضع أمنى هش حال دون التآمها في مدن مثل بنغازي ومناطق متعددة في الجنوب وسط عجز الأطراف السياسية عن خلق ألية لتوحيد المؤسسة العسكرية وضعف الجهات التشريعية.
اتهامات ومظاهر توتر
بخلاف التطمينات التي درج رئيسا الحكومتين باشاغا والدبيبة على إرسالها خلال الفترة الماضية بالعمل على عدم حدوث اقتتال فإن ما يدور على الأرض يشير إلى حالة توتر كبيرة، بعدما كشفت وسائل إعلام ليبية مؤخرا مظاهر انتشار واستعداد للعديد من الوحدات العسكرية والمليشيا غير النظامية الموالية لرئيس الحكومة المقالة مدعومة بالعربات المدرعة والأسلحة الثقيلة والمتوسطة على مقربة من مقر حكومة الدبيبة في طرابلس، وفي المرافق الحكومية وسائر مناطق العاصمة، مقابل مجموعات مسلحة احتشدت في مداخل العاصمة ومحيطها لدعم حكومة باشاغا، ما أثار مخاوف من دوامة جديدة من الصراع المسلح عنوانه الانقسام الحكومي.
ورغم ان الجهود الأممية الأمريكية افلحت في فرض التهدئة وإبعاد شبح الحرب عن العاصمة طرابلس بمنع أي مواجهات بين المجموعات المسلحة التابعة لعبدالحميد الدبيبة الذي يرفض تسليم السلطة ورئيس الحكومة المكلف من البرلمان فتحي باشاغا، وارغامهما على سحب مسلحيهم من مناطق التوتر، إلا أن استجابة الطرفين لم تكن أكثر من محاولة لكسب تأييد القوى الخارجية، وهو ما عبر عنه رئيس الحكومة المكلف من البرلمان فتحي باشاغا الذي أعلن انسحاب المجموعات المسلحة التي احتشدت في ضواحي العاصمة طرابلس، استجابة للجهود الأممية والأمريكية مؤكدا «نحن مستعدون لأي حوار، نحن دعاة سلام وليس دعاة حرب».
وبالنسبة لكثير من الليبيين فهذا الموقف كان سياسيا صرفا، إذ كان المكتب الإعلامي لباشاغا، أعلن أن «القوة التي اتجهت إلى طرابلس أثرت حقن الدماء وعدم استخدام السلاح والعودة إلى مقرات تمركزهم السابقة شريطة أن تتوقف الحكومة المنتهية الولاية عن أي إجراءات تتعلق بقفل الأجواء أو أي عراقيل تخالف القانون، مضيفا “مازلنا مصممين وكلنا عزيمة على استلام مقراتنا في طرابلس، وأننا سنبدأ أعمالنا بالعاصمة، ولن تكون هناك أي حكومة موازية أخرى في مكان بليبيا”.
وسبق لفتحي باشاغا أن أصدر أمرا لكل رؤساء المؤسسات والمصالح والهيئات، بحظر أي قرارات أو تعليمات صادرة عن حكومة تصريف الأعمال منتهية الولاية وعدم إجراء أي تعديل في المراكز القانونية والإدارية لمجالس الإدارات في القطاعات المذكورة» متهما حكومة الدبيبة بالاستمرار في اغتصاب السلطة واحتلال المقار الحكومية في العاصمة طرابلس وتستند في تصرفاتها إلى فرض الأمر الواقع واستغلال حرص حكومته على عدم استخدام العنف والتصعيد العسكري.
وحذر من أن ينال «استمرار الحكومة منتهية الولاية في اغتصاب السلطة والتهديد بالعنف، من اتفاق وقف إطلاق النار، وتقويض الجهود المحلية والدولية الساعية لإجراء الانتخابات، وهو ما يشكل انتهاكاً فاضحاً لمبادئ الديمقراطية، والدولة المدنية».
وأكثر من ذلك فإن حكومة باشاغا المكلفة من البرلمان، ترى أن المقترحات التي يقودها الدبيبة بشأن تنظيم الانتخابات ليس أكثر من بيع للأوهام خصوصا وأن أكثر من ثلثي الأراضي الليبية خارج سيطرة الحكومة المقالة ومنها المنطقة الشرقية والجنوبية وجزء شاسع من المنطقة الغربية ما يجعل الترتيبات التي يقودها لتنظيم انتخابات في طرابلس ذرا للرماد على العيون بل وسعياً مسبقا لإفشالها.
وطبقا لذلك يرون أن الدبيبة حاد عن السبيل والهدف والمشروع، وأصبح لا هدف له إلا الاستمرار في الحكم إلى ما لا نهاية ولتحقيق ذلك تحالف مع الميليشيا وأمراء الحرب وأعلن الحرب على القوى السياسية والعسكرية في شرق البلاد، واتجه لاستغلال المال العام في خدمة أهدافه، واعتمد على دبلوماسية الصفقات والوعود والمواقف المتناقضة بهدف إرضاء الجميع إقليميا ودوليا مع الميل إلى حيث تميل القوى الرئيسية حتى تستمر في تبنيه.
الموقف الدولي
رغم حال التهدئة الهش بين الحكومتين حاليا فإن أكثر الأوساط الليبية تلقي بمسؤولية استمرار الانقسام الحكومي على الأمم المتحدة والأطراف الدولية الفاعلية في الملف الليبي بعدما اختارت مسك العصا من المنتصف تجاه الانقسام الحكومي المستمر منذ 4 أشهر بالتعامل مع حكومتين مشلولتين في طرابلس وسبها، دون أي تحركات أو مواقف حاسمة تنهي ملف التنازع على السلطة التنفيذية ما يبقي مستقبل ليبيا مهددا بصراع قد ينفجر في أي لحظة.
هذا الأمر بدا منطقيا لكثيرين، فالموقف الأممي والدولي لم يعترف بانتهاء الولاية السياسية لرئيس الحكومة المقال من البرلمان عبد الحميد الدبيبة وسمح له الاستمرار في ممارسة مهامه وفي الوقت ذاته لم يمنح الحكومة المشكلة من البرلمان برئاسة فتحي باشاغا الاعتراف الدولي، وظلت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي يتعاملان مع الحكومتين وفقا لما تمليه قواعد المصالح الدولية، ما اشاع انطباعا بأن هناك رغبة دولية في إبقاء ملف الأزمة الليبية معلقا دون حل ودون استعادة سيادة الدولة بسلطة قوية قادرة على تجاوز سنوات الفوضى.
والضبابية في المواقف الأممية والدولية من معضلة الانقسام الحكومي، انعكس على الأداء الاقتصادي وعلى المواقف من الانتخابات التي جاءت الحكومة الجديدة لتقود ملفاتها المعقدة ولم تحصل حتى اليوم على اعتراف دولي يمكنها من إدارة هذه الملفات، في ظل تصورات منفردة تتبناها الحكومتان لتنظيم الانتخابات المتعثرة منذ نهاية العام الماضي، دون أن تقدم حلولا للأرضية القانونية والدستورية التي اعاقت تنظيمها خلال الشهور الماضية، بينما تقود الأمم المتحدة مشاريع سياسية تبدو في كل الأحوال بعيدة عن الواقع ولا تحظى بالتوافق.
ورغم مخاوف الشارع الليبي من مخاطر الانقسام الحكومي التي قد تجر ليبيا من جديد إلى دوامة الصراع المسلح، فإن المجتمع الدولي الممسك بجزء معتبر من مفاتيح حل الأزمة الليبية بدا مرتاحا من حالة الانقسام الراهنة كونها حققت أهدافاً سياسية مهمة في وقف التصعيد العسكري والحفاظ على قرار وقف النار من جهة وعدم تحقيق سلام كامل من جهة ثانية بانتظار خارطة ترتيبات لم تنضج بعد يراد منها ان تضمن بقاء ليبيا تحت مظلة القوى الخارجية.
كان ينتظر أن تباشر الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بإجراءات لدعم حكومة باشاغا المشكلة من البرلمان، وتنزع الاعتراف عن حكومة الدبيبة التي فشلت في حل المشكلات الاقتصادية، كما فشلت في مهمتها الرئيسية وهي تنظيم الانتخابات التي كان مقررا تنظيمها نهاية العام الماضي، غير أن شيئا من ذلك لم يحدث، وبقي موقف الحياد الدولي هو القاعدة التي منحت الأطراف المنقسمة مبررات البقاء باعتبارهم صالحين لتحقيق المصالح الدولية عندما تحسم الخيارات الغربية نتائج الصراع الدولي الحاصل في أوكرانيا.
العامل الخارجي
من سوء حظ الليبيين أن الأزمة العميقة التي تطحنهم منذ سنوات هي من أكثر المشكلات القابلة للتأثر بالأزمات الدولية وآخرها الأزمة في أوكرانيا حيث أدت الحرب هناك إلى تشكل رؤية غربية أميركية للملف الليبي ضمن معادلة الصراع على النفوذ على الجغرافيا السيادية ومنابع الطاقة بين الغرب وروسيا.
واليوم نرى أن كل أطراف الصراع المنخرطة في الحرب الروسية الأوكرانية لديها أوراق في ملف الأزمة الليبية، وتحريكها في هذا التوقيت هو من جعل حسم ملف الحكومة الليبية بالنسبة للقوى الغربية المؤثرة في الملف الليبي مرهونا بما سيفضي اليه الوضع في أوكرانيا.
ذلك أن التأييد الروسي لحكومة فتحي باشاغا، وكذلك الدعم الذي حظيت به من الجيش الوطني بقيادة المشير المتقاعد خليفة حفتر، قلب حسابات القوى الغربية التي وجدت نفسها غير متحمسة لدعم حكومته، بالنظر إلى طبيعة المواجهة التي تقودها واشنطن وحلفاؤها الغربيون ضد النفوذ الروسي المتعاظم في ليبيا والعديد من بلدان شمال إفريقيا، ما جعل واشنطن تراه شخصية غير مضمونة لتحقيق أهدافها ومصالحها، ودعاها إلى الإبقاء عليه دون اعتراف دولي بالتزامن مع منحها خصمه السياسي اللدود عبدالحميد الدبيبة الضوء الأخضر للاستمرار في قيادة حكومة منتهية الولاية.
ورغم محاولة باشاغا تدارك التوازنات الدولية التي تحكم المشهد الليبي بإعلانه الاصطفاف مع التحالف الغربي المناهض لروسيا في أوكرانيا والعالم، املا في دعم غربي يمنحه القدرة على حشد الدعم الدولي ويسرع من الضغوط السياسية الدولية للإطاحة بخصمه السياسي المتمترس في العاصمة طرابلس، إلا أنه تفاجأ في النهاية بموقف دولي حيادي يدعو للتوافق بين الحكومتين والبحث عن نقاط مشتركة لوضع قاعدة قانونية لتنظيم انتخابات تبدو في كل الأحوال بعيدة المنال.
ومن جانب آخر فإن الليبيين يعرفون أن مشكلتهم ليست كلها بمعطيات ليبية صرفة، فجزء كبير منها سببه التدخلات الدولية التي تحاول ان ترسم خارطة سياسية في ليبيا تحافظ على مصالحها الاقتصادية والنفطية.
هذا الأمر عبر عنه فتحي باشاغا مؤخرا عندما أكد أن الخلاف في بلاده ليس خلافاً ليبيا – ليبيا، بل نتيجة لتدخل بعض الأطراف والدول للحصول على مكاسب دولية وتأكيده قائلاً “خلافنا لا يتعدى 20 % مما يحصل في ليبيا، ونحن قادرون على تجاوزه».
والمؤكد أن القوى الغربية المؤثرة في المشهد الليبي ستبقي على سياستها المفتوحة على كل الأطراف ضمن توازن القوة بين الأطراف المتصارعة، بما في ذلك المسافة الوسط بين حكومتي باشاغا والدبيبة، ولن تمسح بأي تسويات سياسية ليبية في المدى المنظور طالما وهناك احتمالات بحضور روسي في المعادلة السياسية أو في معادلة الموارد الاقتصادية والنفطية ما يعني أن حسم قضية الانقسام الحكومي، ستكون مرهونة بما ستفضي اليه الأزمة الأوكرانية أولا.
ولعل أفضل تعبير عن حقيقة الوضع الليبي الراهن هو ما عبر عنه التقرير الأخير لمجلس الأمن الذي أفاد أن الوضع السياسي في ليبيا يزداد تعقيدا، مع عودة شبح الحرب الأهلية، ومخاوف من تدفق السلاح والمقاتلين على البلاد، داعيا أعضاء مجلس الأمن إلى توجيه رسالة موحدة لدعم جهود الوساطة التي تجريها البعثة الأممية هناك، والتأكيد على ضرورة المضي نحو إجراء الانتخابات.
والحاصل أن المعضلة الليبية، بقدر ما هي رهينة لتدخلات الأطراف الخارجية، التي تقف موقف المتفرج في أحايين كثيرة، فإن الدولة الليبية التي تنتظر الخلاص، مقبلة على تحديات كبيرة في ظل وجود حكومتين متنازعتين على السلطة، كل منهما يدعي لنفسه «الشرعية» وفي ظل ضبابية الموقف الدولي الذي لم ينفك يرسل إشارات برغبة هذه الدول ابقاء الملف الليبي معلقا بين حكومتين، بعد ان تعثرت جهودها في تنظيم انتخابات تخرج ليبيا من نفق الأزمة إلى أفق التسوية والسلام.