*عبدالوهاب المحبشي
شرفت اليمن بخزرجها، بأوسها، بأن كانوا أنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانت مدينتهم هي دار هجرته وعاصمة دولته.
وكذلك تشرفت اليمن في صقعها الكبير وشعبها العريق بأن كانت محطة رحلة الإمام علي بن أبي طالب الرجل الثاني في الإسلام بعد النبي محمد صلوات الله عليه وآله حين دخلت اليمن في الإسلام على يدي الإمام علي عليه السلام وبالتحديد الإقليم الأكثر زخماً بشرياً وتأثيراً في تأريخ اليمن والشعوب العربية المجاورة وهو القبائل الممتدة في محيط صنعاء من صنعاء شمالاً إلى تخوم الحجاز، وجنوباً إلى عدن، ولمقاربة هذا الموضوع نسأل:
كيف سردت كتب السير هذا الارتحال العلوي إلى اليمن؟ الارتحال الذي ارتبط به الإيمان وبرز جلياً كلام الرسول الأكرم في إضفاء صفة الإيمان بالتوازي على محبي الإمام علي عليه السلام، وكذلك على أهل اليمن لإيضاح الصورة ثلاثية الأبعاد .
المتتبع للتأريخ يخلص إلى أن خروج الإمام علي عليه السلام إلى اليمن كان أكثر من مرتين في حياة الرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله، وسنتتبع من خلال المصادر البسيطة المتاحة لدينا عدد المرات التي خرج الإمام علي عليه السلام إلى اليمن في سياق سرد الأحداث التي خرج الإمام بمناسبتها إلى اليمن.
بداية خروج الإمام علي إلى اليمن:
عند الإشارة إلى بداية ارتباط الإمام علي عليه السلام بالملف اليمني إذا صح التعبير فإنه يجدر بنا أن نتنبه إلى أن خروج الإمام علي إلى اليمن هو مرتبط بشكل أساسي بانتشار الإسلام في اليمن، ولذلك فينبغي أن نحدد هذه النقطة بالذات ثم نتحرك من خلالها.
إسلام أهل اليمن في السيرة النبوية يبدأ الحديث عنه من بعد صلح الحديبية وقد وقع صلح الحديبية في شهر ذي القعدة سنة 6هـ وكان كاتب الصلح بين النبي صلوات الله عليه وآله وبين مشركي قريش هو الإمام علي بن أبي طالب نفسه .. بعد صلح الحديبية الذي ينص على وقف الحرب بين المسلمين والمشركين عشر سنوات قام الرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله بإرسال رسائله إلى الملوك .. وكان من ضمن الملوك كسرى ملك الفُرسْ.
ولما وصل كتاب النبي صلى الله عليه وآله إلى كسرى كتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن: (ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به) فاختار باذان رجلين ممن عنده وبعثهما بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يأمره أن ينصرف معهما على كسرى، فلما قدما المدينة وقابلا النبي صلوات الله عليه وعلى آله أمرهما النبي أن يغدوا عليه غداً، وفي اليوم التالي أخبرهما النبي صلوات الله عليه وآله أن كسرى قد قتل في تلك الليلة، فقالا للنبي صلوات الله عليه وآله: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر، أفنكتب هذا عنك ونخبره الملك، قال: »أخبراه ذلك عني وقولا له أن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى وينتهي إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت ملكتك على قومك من الأبناء .. الخ« فخرج رسولا باذان من عند النبي صلوات الله عليه وآله وعادا إلى صنعاء، فأخبرا الملك باذان بالخبر، وبعد قليل جاء كتاب من شيرويه يأمر باذان: (انظر الرجل الذي كان كتب فيه أبي إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري) وتأكد لباذان مقتل كسرى في نفس الليلة التي أخبر النبي صلوات الله عليه فيها، وكانت ليلة الثلاثاء لعشرٍ مضين من جمادى الأولى سنة سبع للهجرة، وكان ذلك سبباً في إسلام باذان ومن معه من أهل فارس باليمن([1]).
ولا يخفى أن باذان كان يحكم صنعاء ومحيطها كعامل لكسرى الفرس، بمعنى أنه من موقعه في السلطة سيكون لإسلامه أثر على المجتمع وهو بحاجة ماسة إلى تعزيز عاجل من قبل النبي الأكرم لشد أزر الإسلام الوَليد في اليمن، وتشجيع الدعوة إلى الله في اليمن بشكل عام .. لا شك أن النبي صلوات الله عليه وآله لم يترك باذان وحده ليتخذ قرار الإسلام عن بعد، ثم لا يرفده بمدد عاجل على المستوى الثقافي والدعوي والإرشادي .. والذي نخلص إليه أن النبي صلوات الله عليه وآله لم ينتظر بالملف اليمني للاهتمام حتى فتح مكة الذي لم يحصل إلا في رمضان سنة 8هـ أي بعد أكثر من سنة من إسلام باذان وأصحابه في صنعاء.
ومن هنا نبدأ تسلسل المرات التي خرج فيها الإمام علي إلى اليمن وبحسب منطق الأحداث وما توافر من المصادر التاريخية والمقارنة بين المعلومات المنشورة بين السطور، وإذا أردنا أن نحدد على وجه التقريب تاريخ بداية الإسلام في صنعاء فنعتقد أنه بمجرد تحقق باذان من صدق نبوءة النبي صلوات الله عليه لأن كسرى قد قتل في جمادى سنة سبع وعاد الرسولان إلى صنعاء، ولعل سفرهما يستغرق شهراً ويلبثان بعده شهر آخر حتى يقدم الخبر من إيران بمقتل كسرى فيكون على سبيل القطع أن رمضان سنة 7هـ لم يدخل إلا وقد صار باذان ومن حوله من أهل مملكته في صنعاء من المسلمين … وهو الذي أرخ له المباركفوري سنة 628هـ ([2]) .وإذا كان رمضان سنة 7هـ هو تاريخ مفترض وتقريبي لإسلام باذان وأصحابه في صنعاء فإن ذلك يجعلنا نعتقد بأن النبي صلوات الله عليه وآله قد بعث الإمام علياً عليه السلام إلى صنعاء في هذه السنة تحديداً.
إن كتب السيرة سردت في سنة 7هـ أحداث فتح خيبر وذكرت مواقف الإمام علي عليه السلام في حرب اليهود، وكذلك في فدك ووادي القرى وغيرها، ثم ذكرت مواقف الإمام علي عليه السلام بعد ذلك في عمرة القضاء، وقد وقعت عمرة القضاء على رأس سنة من صلح الحديبية كتنفيذ لأحد شروط الصلح، فخرج النبي صلوات الله عليه وآله معتمراً في ذي القعدة سنة 7هـ فأقام بمكة ثلاثة أيام، وتقول السيرة أن أهل مكة بعد اليوم الثالث جاؤوا إلى الإمام علي عليه السلام فقالوا له: قل لابن عمك قد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وآله ونزل بسرف وأقام بها وكان من خبر قدوم علي مع النبي لعمرة القضاء أنها كانت لكل مسلم من أصحاب النبي شهد الحديبية وعلي كان كاتب الصلح يوم الحديبية وكان من حديث فضائل علي في عمرة القضاء أن قال له النبي: »أنت مني وأنا منك« حين قضى بأن تكون ابنة حمزة في كفالة جعفر بن أبي طالب لأن عنده خالتها.
الخروج الأول إلى اليمن:
بعد عمرة القضاء في ذي القعدة سنة 7هـ إلى شهر رمضان سنة 8هـ وهي مدة تزيد عن تسعة أشهر لا نجد للإمام علي عليه السلام ذكرا في أحداث هذه الفترة في المدينة المنورة، ومنذ عمرة القضاء في سنة 7هـ حتى فتح مكة سنة 8هـ في رمضان تذكر السير خلال الفترة غزوة مؤتة وسرايا كثيرة ليس للإمام علي عليه السلام فيها ذكر.. وهذا يرجح أنه كان في اليمن لتعزيز إسلام باذان وأصحابه.
يعزز ذلك أن آثار اليمن تؤكد أن علياً كان في اليمن، فإن اليمنيين يؤرخون بناء مسجد علي أنه في سنة ثمان هجرية، وهذا مكتوب على باب مسجد علي في صنعاء القديمة والذي يعتبرونه أول مساجد صنعاء بناءً، وإذا كان علي عليه السلام كما نقدِّر قد غادر مكة بعد عمرة القضاء متجهاً إلى اليمن فيكون بالفعل قد قضى صدر سنة 8هـ ما بين محرم ورجب في اليمن، أما لو افترضنا أنه لم يخرج إلى اليمن إلا بعد فتح مكة فإن فتح مكة كان في رمضان سنة 8هـ ، وغزوة حنين في شوال سنة 8هـ، وقد شهدهما علي جميعاً، وبالتالي فإنه لا يتأتى أن يكون في بقية من شوال سنة 8هـ في مكة، ثم يمكنه أن يصل اليمن فيبني المسجد في بقية من سنة 8هـ .. ونخلص في هذا الخروج إلى النقاط التالية:-
أ) نرجح إسلام باذان في رمضان سنة 7هـ وإسلام كل الأبناء ومن يلوذ بالدولة في صنعاء بإسلامه وأن التواصل مع النبي كان مستمراً والتوجيهات والإرشادات وإنما أغفلتها كتب السير كمظهر من مظاهر قصور السيرة بشكل عام.
ب) خروج الإمام علي عليه السلام إلى اليمن في ذي الحجة سنة 7هـ عقب عمرة القضاء، وكان خروجه بشكل شبه سري بسبب أن البلاد ما بين مكة وصنعاء كانت لا تزال على شِركها، ولنجاح مهمته فوصل صنعاء وظل بها عدة أشهر وبُنيَ خلال هذا الخروج مسجد علي الذي بني سنة 8هـ وهو الأمر الذي يفسر عدم ذكر أدوار للإمام علي عليه السلام في أحداث المدينة خلال هذه الفترة .. وبالتأكيد فإنه لم يكن من سيرة رسول الله وحكمته أن يُسلِمَ أهل صنعاء ثم لا يبادر لتعزيزهم بمن يجذر الإسلام فيهم.
الخروج الثاني إلى اليمن:
تحكي كتب السير أنَّ الإمام علياً عليه السلام كان بالمدينة حين قدمها أبو سفيان بن حرب يستشفع إلى الرسول صلوات الله عليه وآله ليمدد صلح الحديبية بعد ما فعلته قريش وبنو بكر في خزاعة حلفاء النبي حين قتلوهم في الحرم وأن الإمام علياً عليه إسلام قال لأبي سفيان: والله ما أعلم شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكن قم فأجر بين الناس ثم ألحق بأرضك، ففعل أبو سفيان ذلك ثم عاد إلى مكة فأخبرهم فقالوا له: والله إن زاد الرجل على أن لعب بك فما يغني عنك ما قلت.. ثم تذكر السيرة أدوار الإمام علي عليه السلام قبل فتح مكة من تتبع المرأة التي أرسلها (حاطب بن بلتعة) إلى أهل مكة وأخذ الكتاب منها، وكذلك قيام الإمام علي بتكليف من النبي بتسليم ديات بني جذيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد وهم مسلمون، في شعبان سنة 8هـ ، ثم إن علياً نصح أبا سفيان بن الحارث ابن عم النبي أن يأتي النبيَّ من قبل وجهه فيقول له ما قال إخوة يوسف ليوسف وقال: «فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولاً»، وذلك أثناء سير جيش الفتح إلى مكة حين لقوا أبا سفيان بن الحارث بالأبواء، ثم كان علي هو الذي طرد المجرمين في مكة الذين أهدر النبي دماءهم وقتل بعضهم، واستجار منه آخرون وأخذ من عثمان بن طلحة مفتاح الكعبة، ثم يوم حنين في شوال سنة 8هـ تذكر السير إثبات الإمام مع رسول الله حين هزم الناس، ويروى أنه قتل صاحب راية هوازن قبل رجوع من فر من المسلمين من المعركة إلى مواقعهم ثم عاد النبي إلى المدينة مع دخول شهر ذي الحجة سنة 8هـ . ثم لا تذكر السير بعد ذلك إلا غزوة تبوك بعد سبعة أشهر .. وتذكر موقف الإمام علي عليه السلام حين قال رسول الله صلوات الله عليه وآله للإمام عليه السلام فيها «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعده» وخلفه على المدينة في رجب سنة 9هـ ولكنَّ ما بين السطور يكشف لنا ما هي الأدوار التي قام بها الإمام عليه السلام خلال هذه االفترة. تذكر السيرة قيام الإمام علي بقيادة سرية إلى طيئ وكسر صنمهم وقدومه على رسول الله صلوات الله عليه وآله بإبنة حاتم الطائي وأن النبي قدم منَّ عليهم وهذا في حوادث سنة 9هـ
والأهم أن الإمام علياً عليه السلام قد خرج خلال هذه الفترة إلى اليمن قبل سفر النبي إلى تبوك بل يعتقد أنه لم يعد مع النبي إلى المدينة بعد فتح مكة وغزوة حنين بل واصل سيره ناحية اليمن .. وهذه هي معطيات الخروج الخروج الثالث للإمام علي عليه السلام إلى اليمن:
بعد عودة النبي من تبوك تتالت الوفود لزيارته وكانت أكثر الوفود وفود أهل اليمن.. وكما سلف فإننا نعتقد أن ذلك ثمرة عمل في أوساطهم من قبل أمير المؤمنين خلال مراحل معينة لا يظهر حضوره في المدينة، ويؤيد ذلك أن الإمام علياً حين خرج إلى طيئ وأسر آل حاتم الطائي وشفع لهم عند النبي وأحسن مثواهم أقبل بعد ذلك وفد قبيلة طيئ بقيادة زيد الخيل وقدم عدي بن حاتم وكان من شيعة علي بعد ذلك دوماً… وبالنسبة لخروج الإمام علي للمرة الثالثة إلى اليمن فإنه لما عاد النبي من غزو تبوك قدمت عليه الوفود كما سبق وكان من ضمن الوافدين قبيلة همدان فبعث معهم النبي صلوات الله عليه وآله خالد بن الوليد، يقول المباركفوري: (فأقام خالد فيهم ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه ثم بعث علي بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالداً فجاء علي إلى همدان وقرأ عليهم كتاباً من رسول الله صلوات الله ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعاً وكتب علي ببشارة إسلامهم إلى رسول الله فلما قرأ الكتاب خر ساجداً ثم رفع رأسه فقال: “السلام على همدان … الخ” [7]
نعم فإذا كان النبي قد عاد من تبوك في شعبان سنة 9هـ وقدمت عليه الوفود فيها فأرسل مع همدان خالداً فأقام فيهم ستة أشهر التي هي من بعد رمضان وشوال إلى صفر سنة 10هـ فإننا نرجح أن الإمام علياً قد أقام في المدينة بعد عودة النبي من تبوك حتى بعثه رسول الله لكي يبلغ سورة براءة عنه ثم يخرج إلى اليمن وأن الإمام عليه السلام قد توجه إلى الحج في ذي الحجة سنة 9هـ وبلغ سورة براءة وبعد فراغه من الحج لم يعد إلى المدينة وإنما واصل سيره باتجاه اليمن ليقدمها في صفر سنة10هـ حين يكون خالد قد أكمل ستة أشهر([8]) فيهم منذ عودة النبي من تبوك ثم يدعوهم علي فيسلمون ولا يتنافى مع إسلام وفودهم دون عامتهم ولا مع إسلام باذان وأهل صنعاء في أول زيارة له سنة 8هـ
وتسرد كتب السير مواقف في اليمن مما جرى للإمام علي عليه السلام سواءً كان ذلك في قضايا التقاضي بين الناس أو إرساله بذهيبة ([9]) إلى النبي صلوات الله عليه وآله ، فإننا نرجح أن هذا كله جرى خلال هذا الخروج الذي تمكن الإمام علي عليه السلام من تثبيت الإسلام كدين عام لأهل اليمن، وفي هذه الزيارة كان الولاة قد تمكنوا من إدراتهم، وكذلك فإن حجم استجابتهم للإمام علي في هذه الزيارة هو مؤشر على أن هذه الزيارة سبقتها زيارات جعلت للإمام حضوراً وتقبلاً في قلوبهم وليس بعيداً أن يكون الإمام علي قد زار عدن في أقصى الجنوب خلال هذه الخرجة، أو التي تليها.. وكذلك بدأ بناء أساس الجامع الكبير من الصخرة الململمة -كما يتواتر على ألسنة الناس جيلاً بعد جيل – ولا يبعد أيضاً أن يكون الإمام في كل مرة تكون طريقه على بلاد جازان وفي الأخرى تكون من نجران وأنه كان يزور مع خروجه مناطق إشعاع الإسلام التي كان قد وضع نواتها من قبل).
أ) ورد في السير أن الإمام علياً خرج إلى نجران في سنة 9هـ لجمع صدقاتهم وجزيتهم ([3]) ولا يتهيأ ذلك إلا خلال هذه الفترة إذ بعد غزوة تبوك فإن أمام الإمام علي مهمات داخل سنة 9هـ أهمها إبلاغ سورة براءة في ذي الحجة سنة 9هـ ولا يتيسر له الخروج إلى اليمن داخل السنة نفسها فيرجح خروجه إلى اليمن عقب غزوة حنين.. وعودته لاحقاً إلى المدينة قبل سفر النبي إلى تبوك.
الخروج الثالث للإمام علي عليه السلام إلى اليمن:
بعد عودة النبي من تبوك تتالت الوفود لزيارته وكانت أكثر الوفود وفود أهل اليمن.. وكما سلف فإننا نعتقد أن ذلك ثمرة عمل في أوساطهم من قبل أمير المؤمنين خلال مراحل معينة لا يظهر حضوره في المدينة، ويؤيد ذلك أن الإمام علياً حين خرج إلى طيئ وأسر آل حاتم الطائي وشفع لهم عند النبي وأحسن مثواهم أقبل بعد ذلك وفد قبيلة طيئ بقيادة زيد الخيل وقدم عدي بن حاتم وكان من شيعة علي بعد ذلك دوماً… وبالنسبة لخروج الإمام علي للمرة الثالثة إلى اليمن فإنه لما عاد النبي من غزو تبوك قدمت عليه الوفود كما سبق وكان من ضمن الوافدين قبيلة همدان فبعث معهم النبي صلوات الله عليه وآله خالد بن الوليد، يقول المباركفوري: (فأقام خالد فيهم ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه ثم بعث علي بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالداً فجاء علي إلى همدان وقرأ عليهم كتاباً من رسول الله صلوات الله ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعاً وكتب علي ببشارة إسلامهم إلى رسول الله فلما قرأ الكتاب خر ساجداً ثم رفع رأسه فقال: »السلام على همدان … الخ «([7]).
نعم فإذا كان النبي قد عاد من تبوك في شعبان سنة 9هـ وقدمت عليه الوفود فيها فأرسل مع همدان خالداً فأقام فيهم ستة أشهر التي هي من بعد رمضان وشوال إلى صفر سنة 10هـ فإننا نرجح أن الإمام علي قد أقام في المدينة بعد عودة النبي من تبوك حتى بعثه رسول الله لكي يبلغ سورة براءة عنه ثم يخرج إلى اليمن وأن الإمام عليه السلام قد توجه إلى الحج في ذي الحجة سنة 9هـ وبلغ سورة براءة وبعد فراغه من الحج لم يعد إلى المدينة وإنما واصل سيره باتجاه اليمن ليقدمها في صفر سنة10هـ حين يكون خالد قد أكمل ستة أشهر([8]) فيهم منذ عودة النبي من تبوك ثم يدعوهم علي فيسلمون ولا يتنافى مع إسلام وفودهم دون عامتهم ولا مع إسلام باذان وأهل صنعاء في أول زيارة له سنة 8هـ.
ب) تذكر كتب السير أن الإمام بَعْد أن خرج إلى نجران ورجع… قدم وفد نجران إلى النبي صلوات الله عليه وآله وكان قدوم وفد نجران تحديداً نتيجة لخروج الإمام عليه السلام فقد قدم قيادات نصارى نجران إلى المدينة وباهلهم النبي صلوات الله عليه وآله وخافوا من المباهلة حين خرج الرسول بالحسنين وفاطمة وعلياً لمباهلتهم ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ ([4]).
ج) قدمت وفود كثيرة من اليمن بعد عودة النبي صلوات الله عليه وآله من تبوك منها: وفد همدان ورسالة ملوك حمير([5])، ووفد مراد، ووفد عمرو بن معدي كرب الزبيدي، والمعافر ([6]) فكل تلك الوفود كانت عقب عودته من تبوك ولم يكن أحد قد خرج إلى اليمن إذ كل الذين اشتهر أن النبي أرسلهم إلى اليمن إنما أرسلهم عقب عودته من تبوك ولذلك نزعم أن قدوم وفود اليمن بهذا الزخم عقب عودته من تبوك كان ثمرة خروج الإمام علي عليه السلام إلى اليمن خلال الفترة التي سبقت ذهاب النبي إلى تبوك وتحديداً بعد فتح مكة.
د) حجم الوفود ومناطقها تدل على أن الخروج الثاني للإمام علي إلى اليمن لم يكن إلى نجران فقط بل تجاوزها إلى صنعاء ومخاليفها ومحيطها لرعاية أسرة الخروج الأول إلى باذان.
وقد حاولنا إثبات خروج الإمام علي إلى اليمن في السنة السابعة في ذي القعدة عقب عمرة القضاء، ثم في السنة التالية عقب غزوة حنين لعدم وضوح المصادر حولهما أما ما تلا ذلك فهما من المجمع عليه بين المحدثين كما يأتي.
وتسرد كتب السير مواقف في اليمن مما جرى للإمام علي عليه السلام سواءً كان ذلك في قضايا التقاضيي بين الناس أو إرساله بذهيبة ([9]) إلى النبي صلوات الله عليه وآله ، فإننا نرجح أن هذا كله جرى خلال هذا الخروج الذي تمكن الإمام علي عليه السلام من تثبيت الإسلام كدين عام لأهل اليمن، وفي هذه الزيارة كان الولاة قد تمكنوا من إدراتهم، وكذلك فإن حجم استجابتهم للإمام علي في هذه الزيارة هو مؤشر على أن هذه الزيارة سبقتها زيارات جعلت للإمام حضوراً وتقبلاً في قلوبهم وليس بعيداً أن يكون الإمام علي قد زار عدن في أقصى الجنوب خلال هذه الخرجة، أو التي تليها.. وكذلك بدأ بناء أساس الجامع الكبير من الصخرة الململمة كما يتواتر على ألسنة الناس جيلاً بعد جيل .. ولا يبعد أيضاً أن يكون الإمام في كل مرة تكون طريقه على بلاد جازان وفي الأخرى تكون من نجران وأنه كان يزور مع خروجه مناطق إشعاع الإسلام التي كان قد وضع نواتها من قبل.
الخروج الرابع إلى اليمن:
جاء في الروايات أن النبي دعا الإمام علياً عليه السلام في رمضان سنة 10هـ فعممه بيده وأمره أن يخرج إلى اليمن قاضياً فقال له علي (إنك تبعثني إلى قوم ذوي أسنان وأنا شاب ولا علم لي بالقضاء) فمسح النبي على صدره وقال: “اللهم اهد قلبه وثبت لسانه” قال عليه السلام: (فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين)، فخرج إلى اليمن فبقي فيها حتى قدم بحجاج اليمن حين قدم النبي من المدينة في حجة الوداع فكان النبي على حجيج الأمة قادماً من المدينة وكان الإمام علي على حجيج اليمن قادماً من اليمن ([10]).
وكرروا أن النبي قال لعلي: »بم أهللت؟ قال: بما أهللت به يا رسول الله، قال: فأمسك فإن معنا هدياً« ثم إنه حجَّ صلوات الله عليه حتى إذا كان يوم عيد النحر نحر هديه، يقول المباركفوري ما نصه: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر وهي سبع وثلاثون بدنة تمام المائة وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة بضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها) ([11]).
إن اختيار الإمام علي للاختصاص الكبير برسول الله صلوات الله عليه وآله أمر واضح، من خلال هذا النص الأخير في سياق سيرة النبي والإمام جميعاً، وكذلك ليس من قبيل الصدفة اختيار الإمام علي لمهمة نشر الإسلام في اليمن؛ وخصوصاً مع ملاحظة الاهتمام المركز ببذرة الإسلام في اليمن وتعهدها من قبل الإمام علي نفسه وبتوجيه من النبي حتى تؤتي ثمرتها.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله
الهوامش:
([1]) الرحيق المختوم للمباركفوري ص355 بتصرف يسير.
([2]) الرحيق المختوم ص25.
([3]) المباركفوري، الرحيق المختوم، ص425.
([4]) الرحيق المختوم، ص450، 451.
([5]) الرحيق المختوم، ص449.
([6]) تهذيب سيرة ابن هشام، ص251.
([7]) الرحيق المختوم، ص450.
([8]) الطبري: 3/231.
([9]) البخاري، ص4351.
([10]) البخاري رقم 4352/4353.
([11]) الطبري، 3/149.