تضفي الأناشيد والموشحات الدينية اليمنية على شهر رمضان الكثير من تجلياته وروحانيته وموسيقاه الخاصة التي تسمو معها الذات الإنسانية إلى عالم الروح وتتماهى النفس البشرية حبا وعشقا وصفاء وللإنشاد الديني في مجتمعنا أهمية بالغة ،فهو رديف للإرشاد والمتنفس الأكثر اتساعا للتعبير عما تجيش به النفوس، والزاد الروحي الذي يشفي الصدور ويهذب الأخلاق، ويعد التراث الشفهي كالأناشيد الدينية والموشحات أكثر أنواع التراث عرضة للإهمال والانقراض إن لم توثق وتحفظ مخافة أن تنقرض أو تطمرها جارفة النسيان، والإنشاد الديني فن غنائي يتناول موضوعات لها سمة دينية كالعشق الإلهي أو مدح الرسول أو الوحدانية والملكوت الأعلى، ويتصدره ذوو الأصوات الجميلة، كما أن الإنشاد الديني يتميز بأن له تأثير وأثر كبير في النفوس وذلك لما يحمله من القصائد المؤثرة الوعظية الداعية والابتهالات والألحان الجميلة.
تاريخ الإنشاد اليمني
ويعد الموشح اليمني المرجع لمعظم الموشحات العربية إن لم تكن جميعها، فلا نجد موشحاً في العالم العربي إلا وله خيط تقاطع مع الموشح اليمني وشعرائه وملحنيه، وهو ما أكسبه شهرة كبيرة قديما وحديثا واتخذ الموشح والإنشاد في اليمن ميزة متفردة كونه يتناغم مع المناسبات الاجتماعية سواء كانت مناسبة الحج أو الزواج أو المآتم وغير ذلك من المناسبات التي لا تخلو من موشح أو منشد، وتشير كتب الأدب والتراجم إلى أن عمر الموشح اليمني يمتد لـ (500 عام) حيث برز منذ ذلك التاريخ شعراء الموشح والملحنون والمتغنون به، كما يعد الموشح اليمني أصل الموشحات في بعض الدول العربية حيث كان لهجرة اليمنيين ومشاركتهم في الفتوحات دور كبير في انتشار الموشح ووصوله حتى إلى الأندلس، وتذكر بعض المراجع التاريخية أن أغلب تراث المغرب جاء من اليمن نظراً للهجرات بعد تصدع سد مارب، حيث هاجرت معظم القبائل اليمنية إلى بلدان عربية حاملة معها كل ما تملك من تراث وفن وثقافة ومن تلك الأسر أسرة بيت العطاب في المغرب والتي لها علاقة بالموشح والإنشاد.
تميز محلي وعالمي
ويتميز الموشح اليمني بالقبول محلياً وعالمياً رغم عدم مصاحبته لآلات الموسيقى حيث تنبع موسيقاه من حناجر منشديه، كما أن مميزات الموشح اليمني تكمن في أن أكثره يكون متضمنا للذكر والتغزل في الذات الإلهية والدعوة لصفاء النفس البشرية، لهذا سرعان ما يلبث أن يلتصق بالوجدان سريعاً، ويمثل اعتراف منظمة اليونسكو بالتراث الإنشادي اليمني كتراث عالمي شفهي والمساعي الجادة حاليا للمحافظة عليه علامة بارزة على القيمة التاريخية الغنية لهذا التراث، وكان لمشاركات الفرق الانشادية اليمنية في المحافل العربية والدولية دور بارز في إبراز هذا التراث الحافل بالتنوع والثراء وحصدها العديد من الجوائز العالمية والمراكز الأولى في بابل والأردن والإمارات وباريس وواشنطن وغيرها من الدول، وحظي المنشدون اليمنيون هناك بجماهيرية لافتة وبادرت عدة جهات ثقافية إلى توثيق أعمالهم الإنشادية.. وكانت الدكتورة برجيت كيسلر قد وصفت ما قدمته جمعية المنشدين اليمنيين من عروض فنية وإنشادية بمنتدى واشنطن حول التراث الثقافي عام 2003م بأنها مفاجأة المنتدى وقالت” هذه الفنون لا بد من تخليدها والسعي من اجل الحفاظ عليها وتوثيقها”.
ألوان وفنون مختلفة
ويتسم الموشح اليمني عن غيره من الموشحات في الدول العربية بالثراء والتنوع، ففي اليمن عدة ألوان، فهناك لون في ريمة ولون في حراز وآخر في المحويت ولون في صنعاء وآخر في حضرموت ،وهناك موشح ساحلي جبلي وحتى الأداء يختلف من محافظة لأخرى نظراً لاختلاف طبيعتها الجغرافية ، والموشح اليمني يتميز بأنه يجعل للغزل موشحات جانبية مستقلة وله موشحات في ذات الله وله موشحات في حب رسول الله وآل بيته وأصحابه، أما في الجانب الموسيقي فموشح اليمن موسيقاه في حناجر منشديه ويعد جابر رزق وعبدالرحيم البرعي من أوائل من أنشدوا ولحنوا الموشح اليمني تلاهم بعد ذلك عدد آخر مثل عبدالله الشريم والنعامي وأحمد موسى والحليلي ومحمد حسين عامر وحمامة وآل سحلول وآل هزام وغيرهم الذين حفظوا التراث الإنشادي في اليمن وأوصلوه إلى أجيالهم المتعاقبة حتى العصر الراهن، ويمتاز التوشيح باستحداث بحور جديدة بالتوليد عن طريق التداخل في بحور خليلية أو تفاعل خليلية مع استخدام مشتقات البحور ومهملاتها ومقلوباتها وله أوزان كثيرة وغير محصورة، إذ يعتمد وزنها على قريحة الشاعر كما هو الشأن في أدوار الغناء وتلحينها، ويجيدها أكثر من كانت لديه القدرة على التلحين والغناء.
وقد أكد علماء موسيقى الشعر أن وزن الموشحات يعتمد على ذوق الشاعر وقدرته على التلحين والغناء، وإذا أمعنوا النظر فيها لوجدوا أن أوزانها عبارة عن تلاعب بتفعيلات خليلية أو تداخل في بحور خليلية.
إحياء الليالي الرمضانية والمناسبات الدينية
الإنشاد الديني والتواشيح اليمانية أنتقلت من الارتجال والتطريب إلى التعبير والتأثير، واستحدثت جمل تسمى “اللزمات” وأصبحت له في العصر الحديث أهمية كبرى ،حيث تصدى لهذا اللون كبار المشائخ والمنشدين الذين يحيون به الليالي الرمضانية والمناسبات الدينية والاجتماعية بصوت ندي جمع الآلاف من عشاق هذا الفن حوله وتطورت قوالب هذا الفن فأصبحت له أشكال متعددة وأسماء كثيرة تمجد الدين الحنيف وتواجه الرذيلة وتدعو للفضيلة ووحدة المسلمين وتمدح في وصف مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته، على الرغم من الفيضان الإعلامي الذي يشهده عصرنا الحالي من فضائيات ووسائل إعلام مختلفة تروج للأغاني الحديثة وسطوة عصر الصورة والموسيقى على هذه الوسائل، إلا أن الموشح اليمني ظل محتفظا ببريقه وجمهوره رغم عدم مصاحبته لأي الآت موسيقية ،ويعد هذا من المميزات التي ينفرد بها الإنشاد الديني في اليمن ،وكان لتأسيس جمعية المنشدين اليمنيين عام 1989م دور لا يستهان به في جمع الألحان والقصائد والمبيتات والموشحات بهدف حماية هذا التراث وتجديده بما يحفظ له أصالته وتاريخه والعمل على نشره في مختلف أرجاء اليمن كي تظل الأجيال على صلة وثيقة بتراثها العريق. ويرتبط الإنشاد الديني في اليمن بحياة الناس ومناسباتهم المتعددة من فرح وحزن.