التغيير في المعادلات ينذر بمخاطر الدمار الشامل
روسيا في سيناريو حرب المدن.. تكتيك أوكراني أم فخ أمريكي؟
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله
عندما أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أعلن أن من سينفذونها هم من العسكريين المحترفين، غير أن تداعيات العملية بعد مضي أربعة أسابيع على انطلاقها أفضت إلى تعديل في القواعد اضطرت إليه موسكو لتلافي الوقوع في سيناريو مدمر يجرها إلى حرب مدن طويلة شبيهة بحروب المدن المدمرة التي شهدتها دول عدة في أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط وأدت إلى كلف باهظة ودمار شامل.
والتعديل الروسي للخطة جاء استجابة للتغيرات المستجدة على الأرض فرضتها على ما يبدو استعدادات غربية لدعم مقاومة أوكرانية طويلة الأمد، كشفتها طبيعة السلاح المتدفق إلى أوكرانيا والحجم الكبير للمتطوعين الأجانب وتشكل العشرات من الفصائل المسلحة من الجيش الأوكراني وكتائب القوميين الأوكرانيين المتطرفين على شاكلة كتيبة «آزوف» وغيرها من الكتائب المسلحة التي درجت موسكو على وصفهم بـ «النازيين الجدد».
الأمر لم يكن سرا لروسيا ولا لأوكرانيا والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الذين تحدثوا في الآونة الأخيرة بصوت مرتفع أن الرئيس بوتين «بحاجة إلى عديد قوات أكبر مما كان يعتقد، وبحاجة إلى قوات غير نظامية مع التحولات في الحرب التي أخذت منحى تمرديا وتحول المعارك إلى مواجهات بين الجيش الروسي والمجموعات الشعبية الأوكرانية التي تسعى بكل قوتها إلى التصدي للاجتياح الروسي”.
وذلك تماما ما عناه الرئيس الأمريكي جو بايدن في تصريحاته الأخيرة عندما وصف وضع القوات الروسية في أوكرانيا بأنها غارقة في مستنقع، وهو توصيف دقيق تدرك روسيا أنه بالغ الخطورة في حال قررت الزج بقواتها في حرب مدن طويلة ومكلفة، قد تحدث دمارا شاملا لكنها تجعل من انتصار أي طرف أمراً بعيد المنال.
حشود المرتزقة
يعرّف الملحق الأول الإضافي لاتفاقية جنيف 1949م المرتزق بأنه: أي شخص يجري تجنيده خصيصا ليقاتل في نزاع مسلح أو يشارك فعلا ومباشرة في الأعمال العدائية وكذلك كل شخص يتم تحفيزه في الاشتراك في الأعمال العدائية أو الرغبة في تحقيق مغنم شخصي، أو كل شخص ليس من أطراف النزاع ولا متوطنا بإقليم يسيطر عليه أحد طرفي النزاع.
استنادا لهذا التعريف فإن جميع من تدفقوا إلى روسيا وأوكرانيا للمشاركة في الحرب الدائرة هناك، كانوا مرتزقة وأكثر من ذلك أنهم كانوا على درجة عالية من الخطورة، استنادا إلى الآليات السريعة للغاية التي اعتمدت في تجميعهم والتي تحدث العديد من التقارير الدولية أنها كانت أعلى بكثير من تلك التي حدثت في وقت سابق للمقاتلين الذين تطوعوا في العراق وسوريا عام 2014م.
ومنذ أن بدأ الغرب بإرسال مقاتلين أجانب أو تسهيل انتقالهم إلى أوكرانيا كانت روسيا تقول إن هذه التصرفات مخالفة للقانون الدولي لكنها عادت وفعلت الأمر نفسه، استجابة على ما يبدو إلى احتياجات المعركة، والحال مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر تجنيد مرتزقة أجانب في الحروب فعلا مجرما، لكنها سمحت بذلك بصورة رسمية.
وبيانات تدفق المقاتلين الأجانب إلى أوكرانيا لم تكن سرية كما درجت عليها تجارب سابقة كثيرة في ليبيا وسوريا ومالي وأفغانستان وغيرها، بل أضحت في ملف الحرب بين روسيا والغرب أكثر من علنية.
فعلى الجانب الأمريكي سجل آلاف الأمريكيين وغيرهم من الرعايا الأجانب للقتال في أوكرانيا استجابة لدعوة الرئيس الأوكراني، ضمن برنامج متطوعين حكومي غير منظم بعد أن سجلت حالات كثيرة كانت تتجه إلى أوكرانيا دون اتصالات أو تنسيق وبعضهم يذهب للتطوع دون أن يكون لديه خبرة في القتال.
كما تحدثت وسائل إعلام أمريكية عدة بأن العشرات من المحاربين القدامى الذين خدموا في العراق وأفغانستان التحقوا بالصراع في أوكرانيا، وقدّر رئيس الوزراء الأوكراني دخول 16000 مقاتل أمريكي إلى أوكرانيا بينما تحدث مسؤول آخر عن 3 آلاف متطوع أمريكي سيشاركون في كتيبة دولة ضد الجيش الروسي.
التحشيد نفسه حصل كذلك في العديد من الدول الأوروبية التي سمحت للمتطوعين التوجه إلى أوكرانيا عبر وسائل تجميع كثيرة، كان ملاحظا فيها الحماس الواسع لعمليات تجنيد المقاتلين الأجانب المستعدين للقتال في أوكرانيا أو تدريب المتطوعين الأوكرانيين بالتزامن مع نشر وسائل إعلام أوروبية إعلانات عن الخطوات التي يجب اتباعها للتطوع في أوكرانيا، والتي فتحت الطريق لتطوع الآلاف من أمريكا وبريطانيا وكندا ودول الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط، وأفريقيا ما جعل الجيش الروسي في أوكرانيا عرضة لمخاطر كبيرة ربما الاستنزاف الكامل.
والحال لم يكن مختلفا لدى الجانب الروسي، ففي مقابل آلاف المقاتلين الأجانب المتواجدين في أوكرانيا هناك مقاتلون أجانب في الجانب الروسي من سوريا والشيشان وليبيا والعراق، وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو الديموقراطية وغيرها من دول أفريقيا والشرق الأوسط، وجميعهم كما تفيد التقارير الدولية وصلوا إلى أوكرانيا بعد إعلان الرئيس الروسي بوتين علنا السماح لـ 16 ألف متطوع التوجه إلى أوكرانيا للقتال في دونباس.
وقد كشفت إفادات متطوعين سوريين جمعتها منظمة «سوريون من أجل الحرية والعدالة» عن طلب موسكو من أجهزة سورية إطلاق حملة لتجنيد مقاتلين لديهم خبرة في قتال الشوارع، كما أعلن المرصد السوري لحقوق الانسان أن الفرقة الـ 25 من الجيش السوري ستذهب إلى أوكرانيا.
كذلك سمحت موسكو لمجموعات شيشانية بالانخراط في المعارك، وأكدت ذلك تصريحات الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف الذي أعلن مرات عدة أنه يشارك مع القوات الروسية في أوكرانيا، ناهيك بتوعده إرسال أحد أقوى قادته على رأس ألف متطوع للمشاركة في العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، بينما شوهدت فيديوهات للعشرات من المتطوعين في جمهورية افريقيا الوسطى يستعدون للذهاب إلى أوكرانيا لمساندة الجيش الروسي كما شوهدت لقطات فيديو توثق ضربات الفوج التاسع من المليشيا الشعبية لجمهورية الكونغو الديمقراطية على كتيبة آزوف الأوكرانية في معارك ماريوبول.
خلط أوراق
لا مبررات مقنعة بشأن لجوء كل من روسيا وأوكرانيا لاستجلاب المقاتلين الأجانب، فالجيش الروسي هو ثاني أقوى جيش في العالم ولديه ترسانة من السلاح تفوق دول أوروبا الشرقية والاتحاد الأوروبي مجتمعة، كما أن الجيش الأوكراني يتصدر الترتيب الـ 22 في قائمة أقوى جيوش العالم، ويمتلك أكثر من 300 ألف جندي مدربا تدريبا عاليا، ناهيك بكتائب القوميين وقوات الاحتياط التي يجري إعدادها منذ العام 2014م، في حين أن أوكرانيا ورثت كمية هائلة من السلاح والعتاد الذي صنعه الاتحاد السوفيتي سابقا لمواجهة الناتو وهي كميات كما يقول الروس تكفي لإدارة حرب مع حلف الناتو لعدة سنوات.
في هذا الإطار يمكن القول بتحفظ إن القوات الروسية ربما تفاجأت بحجم المقاومة التي تواجهها قواتها من الجيش الأوكراني والمقاتلين الأجانب الذين تدفقوا إلى أوكرانيا من كثير من بلدان العالم وهو عدد كان كبيرا لدرجة أنه دعا السلطات الأوكرانية إلى إنشاء لواء دولي من المقاتلين الأجانب، ناهيك بتصريحات المسؤولين في كييف المتكررة والتي كانت تؤكد حاجة أوكرانيا إلى الأسلحة النوعية أكثر من حاجتها للمقاتلين.
ومن الجانب الآخر فإن الجيش الأوكراني الذي فقد منذ اليوم الأول للعملية العسكرية الروسية ترسانته العسكرية الهجومية، لجأ إلى الاستعانة بالمقاتلين الأجانب، في إطار عمليات المقاومة التي انخرط فيها الجيش الأوكراني، وفرضت عليه عوامل الجغرافيا الواسعة الاستعانة بالمقاتلين الأجانب لوقف زحف الجيش الروسي المجهز بترسانة هجومية عالية.
وبالنسبة لموسكو فإن تكتيك المسلحين الأجانب ليس جديدا فقد استخدمه الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية بجلب نحو مليوني مسلح أجنبي لمواجهة الجيش النازي الذي تكبد خسائر كبيرة في الأراضي الروسية، وأرادت به موسكو هذه المرة خلط الأوراق، فهي من ناحية تريد إجهاض خطط أمريكية غربية لأنهاك الجيش الروسي في حرب مدن طويلة من جهة، ومن جهة ثانية كسر سياح الحماية الأمريكية التي تحاول واشنطن به حماية حلفائها الغربيين من خلال تأسيس بؤرة اشتعال على حدود الناتو قد تمتد تأثيراتها لكل دول القارة الأوروبية المشاركة في العقوبات على روسيا.
ويمكن القول إن ورقة المقاتلين الأجانب ستكون مفيدة لروسيا لمواجهة من تسميهم النازين الجدد، فهؤلاء انتشروا في العديد من المدن الأوكرانية وخصوصا العاصمة كييف، قبل وأثناء العملية الروسية العسكرية، وبفتح موسكو المجال أمام مشاركة متطوعين سوريين وشيشانيين وأفارقة وشرق أوسطيين، للقتال في أوكرانيا، ستكون قد عززت صفوف قواتها لمواجهة هذه التشكيلات كما ستساعدها في طموحاتها للسيطرة على المدن الأوكرانية التي تعثرت قواتها في اجتياحها خلال الأسابيع الماضية.
ومعروف أن القوات الروسية حافظت طوال الفترة الماضية على تكتيكها العسكري بمحاصرة المدن، والتوغل البطيء فيها، على أمل أن يقود مسار المفاوضات إلى حلول سياسية، غير أنه في حال إخفاق المفاوضات الجارية فإن ذلك سيقود الجيش الروسي إلى خوض حرب شوارع شرسة، أو ما يطلق عليه حرب المدن المزدحمة بالمدنيين.
ذلك أن التقديرات تشير إلى تخطيط الجيش الروسي للسيطرة على مدن أوكرانية أبعد من تلك الواقعة على الشريط الحدودي الأوكراني بما فيها العاصمة كييف، وذلك سيعني موارد بشرية وعسكرية ضخمة.
نتائج كارثية
الثابت أن انخراط موسكو في معادلة حرب المدن نقل مشهد الحرب، من عملية عسكرية محدودة إلى مرحلة جديدة، بدت فيها معالم الحرب الروسية الغربية بالوكالة أكثر وضوحا، فما يدور بأوكرانيا اليوم يؤكد أن أي تداعيات مستقبلية لم تعد تعني بصورة مباشرة أهداف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بقدر ما تعني أنها حرب بالوكالة بين روسيا والغرب.
يمكن الإشارة إلى جانب مثير للقلق في هذه التداعيات، وهو ترافقها مع عمليات نزوح كبيرة للمدنيين الأوكرانيين خلال الأسابيع الأربعة الماضية، والتي كانت أشبه بعمليات إخلاء مدن لتحويلها إلى مناطق حرب، خصوصا بعدما وصل عدد المدنيين النازحين إلى نحو 10 ملايين نازح داخل وخارج أوكرانيا وفق ما أعلن المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، ناهيك بالنازحين صوب الأراضي الروسية التي تقدر روسيا عددهم بأكثر من مليون نازح، بينما تحدث وزير الخارجية الألماني مؤخرا أن على أوروبا أن تستعد لاستقبال 8 – 10 ملايين لاجئ أوكراني خلال الأسابيع القادمة.
وانحصار جولات التفاوض خلال الفترة الماضية في موضوع فتح المعابر الإنسانية، رغم أنه يشير إلى التزامات الطرفين تلبية قواعد القانون الدولي الإنساني، إلا أنها لم تكن بعيدة عن استعداد الطرفين خوض جولة من حرب الشوارع خصوصا وأن إخلاء المدن سيجعل من هذا الخيار سهلا للطرفين، حيث سيتيح لروسيا القصف الشامل في حين سيوفر للمقاومة الأوكرانية فرصا لأنهاك الجيش الروسي في حرب شوارع طويلة.
وجميع الأطراف المشاركين في الحرب الدائرة بأوكرانيا اليوم يعرفون أنه لا يمكن إكمالها بأنظمة الحروب التقليدية بين الجيوش، ولذلك يلجأون إلى حروب الجيل الأول باستئجار مرتزقة أجانب يمكن أن يقللوا كلفة الخسائر البشرية لطرفي الصراع، ويقللوا كلفة الحرب في المدن، خصوصا وأن طبيعة العمليات العسكرية في المرحلة الحالية، تتطلب مواجهات مباشرة وحرب شوارع.
ولذلك نجد الجميع يطلقون مصطلحات وتوصيفات سياسية وتكتيكية على ضلوعهم في جلب المقاتلين الأجانب إلى أوكرانيا، غير أنهم فشلوا في تغييب حقيقة المرتزقة أيا كانت مسمياتهم يظلون وقودا في صراع الكبار، وأن هذه الملف سيجعل من أوكرانيا مسرحا لحرب مدن شرسة للغاية وطويلة لا تقل خطورتها عن آثار أسلحة الدمار الشامل.
ولعل نتائج المعارك الدائرة في مناطق الشرق الأوكرانية وفي مدينة ماريوبول الساحلية، وحجم الخراب الذي سجلته خلال 27 يوما من حرب الشوارع، تقدم صورة مقربة للخراب الذي سيطاول المدن الأوكرانية، في صراع تغيب فيها قوانين الحرب وتحل بدلا عنها الفوضى والخراب الشامل، تماما كما حصل في مدينتي حمص والرقة والسوريتين، واللتين سجلتا خرابا واسعا لا يزال عالقا في ذاكرة العالم حتى اليوم.
ومن أكثر المخاطر التي تبرز عند الحديث عن احتمالات توسع الحرب في أوكرانيا إلى حرب مدن طويلة ومرهقة التقارير التي تتحدث عن وجود 150 فصيلا مسلحا متطرفا ينتشرون حاليا في أوكرانيا، وهو عدد كبير للغاية أرغم الرئيس الأوكراني زيلينسكي في وقت سابق على تعليق تأشيرات دخول الأجانب إلى أوكرانيا مؤقتا، غير أنه لم يفعل شيئا حيال التداعيات التي يمكن أن يخلفها هذا العدد الكبير من المقاتلين الأجانب الذي انخرطوا فعلا ضمن فصائل مسلحة منتشرة على طول وعرض الدولة الأوكرانية.
أثار خطيرة ممتدة
المساحة الشاسعة لأوكرانيا التي تعادل مساحة كل دول الاتحاد الأوروبي ستجعل من تواجد المرتزقة والتشكيلات المسلحة غير النظامية فيها مشكلة عميقة لن تهدد أوكرانيا وحسب، بل ستهدد الجوار الأوكراني بما في ذلك الدول الأعضاء في حلف الناتو، كما لن تكون دول الاتحاد الأوروبي بعيدة عنها.
فتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي بدأ في بؤرة صغيرة في صحراء المغرب، انتشر خلال سنوات قليلة في كل دول الساحل الغربي الأفريقي وكان ضالعا في اضطرابات وحروب وانقلابات كثيرة وزعزعة الاستقرار في أكثر دول الساحل الغربي الأفريقي.
وعلاوة على أن عمليات تدفق المقاتلين الأجانب إلى أوكرانيا وروسيا تؤشر إلى إطالة أمد الحرب وتنذر بدمار شامل، فإن البعض لم يكف عن توجيه تحذيرات من آثار خطيرة ممتدة مع احتمالات دخول عناصر إرهابية من تنظيم «داعش» وغيرها من جماعات الإرهاب وسط المقاتلين لإيجاد موطئ قدم جديد لها في الدولة الأوكرانية ذات المساحة الشاسعة، ما يجعل الأمر أشبه بالقنبلة المتوقع أن تنفجر ليس في أوكرانيا والدول التي قدم منها المقاتلون الأجانب بل وفي القارة الأوروبية بصورة عامة.
وسواءً كان هذا التداعي في الحرب تكتيكاً أوكرانياً أم فخاً أمريكياً، فإن الجميع بلا شك يعرفون ما تفضي إليه حرب المدن من قتال عنيف ومعارك طويلة ودمار شامل، يمكن قراءة آثاره في التجارب القريبة حيث عانت منه العديد من الدول التي عرفت تجارب مشابهة في سوريا وليبيا وأذربيجان ومالي وأرمينيا.
هذه الدول وغيرها ظلت لسنوات طويلة تعاني من مشكلات أمنية كبيرة تبدأ في إطالة أمد الصراعات المسلحة والانقسامات بين الفصائل المسلحة وتعقيدها أي محاولات للتسوية السياسية للنزاعات، ولا تنتهي عند الانتهاكات للقوانين الدولية الإنسانية التي كانت دعت في وقت سابق مجلس الأمن الدولي إلى إصدار قرارين هما ( 2178 و 2396) والذين استهدفا بصورة مباشرة منع عمليات التجنيد وسفر المقاتلين الأجانب إلى دول أخرى.
هنا يتعين التذكير بأن ظاهرة التنظيمات المتطرفة التي ظهرت بصورة كبيرة وبمسميات عدة في العراق وسوريا في السنوات الأخيرة كانت ولادة طبيعية لتكتيك استخدام المقاتلين الأجانب في الحروب، فتنظيم داعش مثلا استطاع استجلاب أكثر من 40 ألف مقاتل من أكثر من 100 دولة في غضون سنين عندما سمحت الكثير من الدول للمقاتلين الأجانب التدفق إلى سوريا وهؤلاء كانوا وقودا لحروب مدن شرسة أحدثت دمارا هائلا في سوريا، وهي من أكثر المخاطر التي يمكن الحديث عنها اليوم في ملف الأزمة الأوكرانية.
وقد أدركت الدول الغربية ولا سيما بريطانيا حجم الخطأ الذي ارتكبته عندما سمحت بعمليات نقل المقاتلين إلى أوكرانيا، حيث أعلنت بصورة رسمية عدم السماح بهذا النوع من التجنيد، خشية الوقوع في مشكلات أمنية إذا عرفنا أن كثيراً من هؤلاء يجلبون معهم تداعيات أمنية خطيرة ليس أقلها تحويل النزاعات المحلية إلى نزاعات عابرة للحدود، كما حصل في الشيشان ودول أخرى.
وفي الحالة الأوكرانية فإن ثمة آثاراً أخرى ناجمة عن مشاركة المتطوعين الأجانب فالكثير منهم سيعودون لبلدانهم وقد تشبعوا بأفكار اليمين المتطرف الأوكراني، الذي يدير شؤون الحكم في أوكرانيا بصورة لا تقل عن دور الحكومة التي يقودها الرئيس زيلينسكي.
ومن جانب آخر فإن حرب المدن الطويلة في أوكرانيا لا شك ستلقي بآثارها السلبية الحادة على المواطنين الذين فضلوا البقاء في مدنهم، كما ستلقي بآثار موجعة على النازحين خارج أوكرانيا مع تأكيد بعض الدول الأوروبية مواجهتها مشكلات جراء العدد الكبير للنازحين والتي عبر عنها مؤخرا عمدة وارسو البولندية الذي أكد أن عاصمة بلاده التي استقبلت أكبر عدد من اللاجئين تعيش قلقا وهي على حافة الهاوية.
ورغم أن الفترة لم تتجاوز بعد ثلاثة أسابيع، فإن السكن في العاصمة البولندية أصبح شحيحا والمستشفيات مستنفرة والمتطوعون متعبون وهو حال لا تختلف عنه دول أوروبا الشرقية الأخرى التي تعاني اختناقات حادة، فيما يتوقع أن تلقى حرب المدن في حال اندلاعها آثاراً إنسانية بالغة الخطورة ستعانيها كل دول أوروبا.