أين باتت في سلم الأولويات العربية؟

القضية الفلسطينية.. هل لا تزال مركزية؟

 

الثورة /
وفق ما انكشف من خفايا التواصل من قبل بعض الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني وتبادل المصالح، جاء التطبيع كنتيجة طبيعية تؤكد أن الادعاء بمركزية القضية الفلسطينية لم يكن إلا واحدة من مظاهر السياسة التي كانت تمارسها هذه الأنظمة مع شعوبها.
استسلمت هذه الأنظمة – منذ وقت مبكر – لمخططات القوى الاستعمارية، فخفت حضور القضية في وجدانها وتحولت إلى أداة للغرب لترسيخ حقيقة وجود الكيان الصهيوني، وبصورة أو بأخرى عملت الأنظمة العميلة على تقوية هذا الكيان تقربا إلى اللوبي الصهيوني الأمريكي، وحرصا على البقاء كحكام على شعوبهم، فذهبوا حتى إلى تزييف صورة كيان العدو كمحتل غاصب وتصويره كصديق يجب التحالف والتعايش معه.
تنكّٔر هذه الأنظمة – كما أشار إلى ذلك السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة ذكرى استشهاد السيد حسين بدرالدين الحوثي – لحق الفلسطينيين على أرضهم، جعل نظرتها سلبية تجاه المقاومة الفلسطينية، لتتحول إلى أداة من أجل تشويه صورة الشعب الفلسطيني وأن مجاهديه يعملون لصالح إيران وليسوا أصحاب قضية، كما عملت على توهين كل مظاهر القوة التي يملكها الشعب الفلسطيني والإشادة والثناء على الموقف الإسرائيلي، وتبني التوجه السلبي المتنكر للبديهيات والثوابت التي كانت محل إقرار عربي وإسلامي.
السيد عبدالملك أوضح أن الأعداء والعملاء ذهبوا لمصادرة الحق الفلسطيني باسم الدين وبتحريف معاني الآيات القرآنية لخدمة هذا الهدف، وبالتوازي استسلم العملاء لمحاولات أمريكا والصهاينة في حرف بوصلة العداء وتصوير إيران كأنها عدو العرب والمسلمين وأن كيان العدو هو الصديق، ويريدون أن يبقى وضع الأمة الإسلامية مأزوما ومضطربا بشكل يمنع حالة النهضة.
ثم مع بروز الهيمنة الأمريكية بعد تفكك السوفييت، بدأ حضور القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة العربية والإسلامية بالتراجع، أولا للارتهان الكبير الذي صارت عليه الأنظمة، وثانيا لما مارسته هذه الأنظمة مع شعوبها من تجهيل وتعتيم، وتسطيح أحيانا للقضايا القومية العربية وإغراق هذه الشعوب إما بالترفيه والانصراف عن بناء الذات والوجود العربي والإسلامي، أو في الهموم والركض لتأمين لقمة العيش.
يتساءل الكاتب والباحث الفلسطيني إبراهيم فريحات: ما إذا كانت القضية الفلسطينية لاتزال تمثل قضية العرب المركزية، ويرى أن الإجابة على ذلك تتطلب التفريق بين المستويين الرسمي والشعبي العربي.
أولاً، مستوى النظام الرسمي العربي: يمكن رصد التغيرات التي أصابت بنية النظام الإقليمي العربي وموقفه من القضية الفلسطينية بالنظر إلى: أولاً مؤتمر الخرطوم عام ١٩٦٧م الذي شكل حالة من الإجماع العربي على لاءاته الثلاث “لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات”، ولكن ما لبث هذا الصوت العربي الواحد أن يتحول إلى معسكرين عام ١٩٧٨م على إثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد ليتشكل تجمع مضاد له متمثلاً بجبهة الصمود والتصدي التي قدمت نفسها بديلاً لـ “الرجعية العربية” آنذاك. هذا الانقسام تحول لاحقاً وتحديداً بعد اتفاق أوسلو إلى محور الاعتدال العربي مقابل ما سمي بـ“محور المقاومة”، ثم أخيراً يشهد النظام الإقليمي العربي تحولاً بنيوياً جديداً بحيث تنتقل إسرائيل لأول مرة من موقع العدو إلى موقع الحليف وضمن أجندة إقليمية متفق عليها تشترك فيها حتى الآن الإمارات والبحرين وربما السودان ودول أخرى. وهذا يعتبر خطوة متقدمة عن اتفاقات السلام المصرية والأردنية مع إسرائيل، على اعتبار أن تلك الاتفاقيات مثلت “سلاماً بارداً” محصور بين الأنظمة ومنفصلاً عن الشعوب وذات أجندات ثنائية بينما يتم الحديث في حالة السلام الإماراتي-الإسرائيلي عن “سلام دافئ” يقوم على الشعوب، وذات أجندات إقليمية مثل مواجهة ايران وتركيا والإسلام السياسي وغير ذلك.
يوضح هذا التغير البنيوي في النظام الإقليمي العربي وانتقال إسرائيل من موقع “العدو للجميع” إلى “الحليف للبعض” أن قضية فلسطين لم تعد تحظى بالمركزية التي تميزت بها لدى هذا الفريق تاريخياً، حيث حلت محلها قضايا مركزية إقليمية أخرى غيرها. كذلك فمن غير المحتمل أن تعاود فلسطين إلى موقع المركزية لدى هذه الأنظمة مرة أخرى كما كان يحدث في السابق عندما كان يتراجع موقع القضية على سلم الأولويات العربية الرسمية عندما تجتاحها أزمات كبيرة لتعاود إلى رأس سلم الأولويات مرة أخرى لاحقاً. إذا نظرنا إلى التغيير الذي أصاب بنية النظام العربي منذ مؤتمر الخرطوم وحتى الآن، فإن منحنى التغيير يشير إلى أن موقع القضية يمكن أن يتراجع أكثر لدى بعض الأنظمة.. إمكانية عودة فلسطين إلى المركزية على هذا المستوى هو مرهون بالتغيير الجذري، أي التغيير في بنية الأنظمة السياسية لدى هذه الدول مثل حدوث انقلابات أو انهيار أنظمة حكم أو انتصار ثورات مضادة مثل ثورات العربي الذي هدد ديمومة العديد من الأنظمة الاستبدادية، واحتماليات حدوث مثل هذه التغييرات البنيوية والجذرية تبقى ضئيلة في الوقت الراهن، إذ لا يتوفر من المؤشرات السياسية التي يوحي بذلك. من الضروري التنبيه، أن التغيير دوماً يحمل الاتجاهين الإيجابي والسلبي أي أن التغيير الإيجابي لصالح القضية الفلسطينية لن يكون مضموناً وقد يأتي ما هو أسوأ من الوضع الراهن، إذ يبقى ذلك خياراً وارداً.
ثانياً، المستوى الشعبي: يصعب الحديث في الوضع الراهن عن تراجع جوهري وكبير للقضية الفلسطينية على هذا المستوى برغم كل ما يتم الترويج له في الإعلام الرسمي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي من قبل كتاب الأنظمة والمدافعين عن سياساتها، فقد أظهر استطلاع مؤشر الرأي العربي – الذي يجريه المركز العربي – أن أكثر من ٨٥٪ من المستطلعة آراؤهم من العرب يرفضون تطبيع بلادهم للعلاقات مع إسرائيل وأن ٨٠٪ من المستجيبين يرون أن السياسات الإسرائيلية تهدد أمن المنطقة. ويعود التمسك بمركزية القضية الفلسطينية على المستوى الشعبي لمجموعة من الأسباب أهمها ارتباط قضية فلسطين بعوامل مثل القومية والدين والهوية والثقافة العربية بشكل عام، وأيضاً قيم إنسانية كالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وغيرها. أي أن ارتباط الكثير من العرب بالقضية الفلسطينية لا يتعلق برضاه عن القيادة الفلسطينية أو حتى عن الشعب الفلسطيني من عدمه ولكن لأن فلسطين تمثل لهم “أرض إسلامية” و “أرض الإسراء” بالنسبة لأصحاب التوجه الآيديولوجي الديني، وهي “أرض عربية” ومكون أساسي للهوية والثقافة العربية لأصحاب التوجه القومي، وهي قضية “عدالة وكرامة إنسانية” لأصحاب التوجه الإنساني، وخليط ما بين هذه الأسباب وغيرها أو جزء منها لآخرين. ولأن القضية الفلسطينية مرتبطة بهم وبهويتهم وثقافتهم، فالتراجع عن الرؤية المركزية لها يبقى صعباً، فلن يضيرهم مثلاً انقسام حركتي فتح وحماس أو أي من إخفاقات القيادة الفلسطينية الأخرى.
استيطان فلسطين
في العام 1917م، أي بعد عام على اتفاق سايكس بيكو، بعث وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور إلى أحد زعماء الحركة الصهيونية برسالة عرفت فيما بعد باسم وعد بلفور، وكانت أول خطوة يتخذها الغرب لإقامة كيان لليهود على تراب فلسطين، وتعهدت فيها الحكومة البريطانية بإقامة دولة لليهود في فلسطين، دخلت الجيوش البريطانية بقيادة «الجنرال النبى» القدس في 11 ديسمبر 1917م، وفي مؤتمر فرساي يناير 1919م قدمت الحركة الصهيونية خطة تنفيذ مشروع استيطان فلسطين، ودعت إلى إقامة وصاية بريطانية لتنفيذ وعد بلفور، وكانت الحكومة البريطانية قد عرضت نص «وعد بلفور» على الرئيس الأمريكي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، ووافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسميا عام 1918م، ثم تبعها الرئيس الأمريكي ولسون رسميا وعلنيا عام 1919م وكذلك اليابان.
وفي 25 أبريل سنة 1920م، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر سان ريمو على أن يعهد إلى بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ حسب ما ورد في المادة الثانية من صك الانتداب، وفي 24 يوليو عام 1922م وافقت عصبة الأمم على مشروع الانتداب الذي دخل حيز التنفيذ في 29 سبتمبر 1923م، بينما قام المهاجرون اليهود الجدد بشراء الأراضي الفلسطينية بمساعدة البريطانيين بعد إعلان الانتداب على فلسطين حتى فاق عدد من دخل منهم إلى فلسطين – منذ الاحتلال البريطاني وحتى بداية 1929م – مائة ألف مهاجر عدا الآلاف الأخرى من المتسللين غير الشرعيين، واقترنت هذه الهجرة باتساع رقعة الأراضي التي انتزعت من الفلاحين العرب وتم طردهم منها.
في 14 مايو 1948م بلغت المؤامرة حدا سافرا بالإعلان رسميا عن قيام دولة للكيان الصهيوني دون حتى أن تُعلن حدودها بالضبط، وهو ما كان يشير إلى نوايا بالاستمرار في نهب الأراضي الفلسطينية.
وخاضت خمس دول عربية – بالإضافة إلى السكان العرب – الحرب مع الدولة المنشأة حديثا، نتج عن حرب 1948م أن قُسمت القدس إلى شطرين: الجزء الغربي الخاضع لإسرائيل، والجزء الشرقي الخاضع للأردن، وفي شهر نوفمبر من نفس السنة، أقيمت منطقة عازلة بين الجزءين، ونجم عن هذا رسم خريطة لحدود غير رسميّة بين الطرفين المتحاربين، لكنها أخذت بعين الاعتبار عند توقيع اتفاقية الهدنة عام 1949 بين الكيان وكل من لبنان ومصر والأردن وسوريا، والتي اتفقت فيها تلك الدول على وقف إطلاق النار.
وفي 1967م بعد النكسة احتلت إسرائيل القدس الشرقية التي كانت تتبع الأردن، واعتبرتها جزءاً لا يتجزأ منها، إلا أن المجتمع الدولي بأغلبيته، لم يعترف بهذا الضم، وما زال ينظر إلى القدس الشرقية على أنها منطقة متنازع عليها ويدعو إلي حل هذه القضية عن طريق إجراء مفاوضات سلميّة، لذا فإن معظم السفارات والقنصليات الأجنبية تقع في ما يسمى (تل أبيب) وضواحيها، بينما تقع معظم الإدارات الحكومية الإسرائيلية في القدس الغربية وتشمل مقر البرلمان ومقرى رئيس الكيان ورئيس حكومته، وكذا مقر المحكمة العليا، ويشار إلى أنه في عام 1969م قام مايكل دينس روهن اليهودي والأسترالي الجنسية عام 1969م بحرق المسجد الأقصى.
هذه المعطيات التاريخية ليست بخافية على أحد، لكنها تبدو ضعيفة لكونها في يد أنظمة قبلت الانتفاع بثمن الصمت والخذلان للقضية وللشعب الفلسطيني، دون اعتبار حتى لشعوبها.
اتفاقات ميتة
على الرغم مما شهده العالم بعد ذلك من لقاءات زُعم أنها من أجل إحلال السلام، إلا أن شيئا لم يحدث لجهة استعادة الشعب الفلسطيني لأرضه، كان أبرزها اتفاق أوسلو الذي نص على إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية (أصبحت تعرف في ما بعد بالسلطة الوطنية الفلسطينية)، ومجلس تشريعي منتخب للشعب الفلسطيني، في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة انتقالية لا تتجاوز خمس سنوات، مقابل اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، وكان من المفترض، وفقا للاتفاقية، أن تشهد السنوات الانتقالية الخمس، مفاوضات بين الجانبين، بهدف التوصل لتسوية دائمة على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338، ونصت الاتفاقية على أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها: القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين، وهو ما لم يحدث، وعوضا عن ذلك تصاعدت الممارسات الإنسانية للمحتل في الأراضي المحتلة، كما جرت محاولات تدجين المجتمع الفلسطيني وسلب هويته الدينية والقومية من دفعه التكيف مع التواجد الصهيوني إلا أنه لم ينجح، إذ فشلت كل المحاولات الصهيونية في تذويب هوية الشعب الفلسطيني، وفشلت في تصفية القضية الفلسطينية، كما فشل التعويل على تآكل هذه القضية بالتقادم، فجيل أطفال الحجارة، رفع راية المقاومة عالياً، وتمسك بحقه في تقرير المصير، ولم يعد ممكنا تجاهل حقه في إقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني.

قد يعجبك ايضا