عبدالعزيز المقالـح مجدداً

عبده عبدالله عقلان

مثلما شغل ابو الطيب المتنبي الدنيا ولم يقعدها ولا يزال يشغلهم لحد الآن ، وصارت اشعاره محل السبق والدراسات والبحوث ومثالاً للعديد من الشعراء قدامى ومحدثين ينسجون على منواله أشعارهم ، ومثلما قيل كلام كثير في شعره قاله شراح ودارسون ومفسرون وبلاغيون والباحثون عن مواطن العبقرية في كلماته وأبياته ، وانعقد الاجماع على ان المتبي شاعر النفس الإنسانية التي عذبها طموحها ، ونشدانها عالماً لا يتحقق وآمالاً تناطح المستحيل ، وهو عبقري هذه اللغة ،وفارس أسرارها وخفاياها.
ما حدث مع المتنبي، وما سوف يحدث، هو الذي يحدث الآن وسيحدث مستقبلاً مع متنبي اليمن أ / د / عبدالعزيز المقالح فقد رصدنا أول دراسة اجراها الشاعر عبدالله البردوني على ديوان المقالح ( لابد من صنعاء ) وذلك ضمن دراسة البردوني المعنونة بـــ ( رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه ،ص (206) عام 1972م ثم دراسة أخرى للبردوني عام 1997م صحيفة الثورة . وكذا رصدنا دراسات أكاديمية من ضمنها دراسة جامعية للباحث اليمني محمد الكبسي بعنوان ( تجربة القصيدة لدى الشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح ) تحت اشراف د / محمد بنيس ، تقدم بها الكبسي إلى جامعة محمد السادس في المملكة المغربية لنيل درجة الدكتوراه ، كما اجرى محدثكم عبده عبدالله عقلان دراسة عن المقالح الشاعر والمقالح الإنسان نشرت في صحيفة الثورة الملحق الثقافي العدد (20843) تاريخ 13/ ديسمبر / 2021م ، تحت عنوان ( عبدالعزيز المقالح … شاعر يذكي لهيب المجامر )، اما بالنسبة للدراسات العربية حول اشعار المقالح فحدث من هنا ولا حرج، فقد رصدنا اكثر من (15) دراسة عربية حول دواوين المقالح نشرت في صحف مصرية وصحف لبنانية وصحف أجنبية ، أجراها باحثون واكاديميون عرباً حول دواوين المقالح – لا بد من صنعاء – مأرب يتكلم – كتاب صنعاء – رسالة الى سيف بن ذي يزن – أبجدية الروح – ابتداءً من الدراسة التي أجراها د / عزالدين إسماعيل في مجلة روز اليوسف المصرية مروراً بالدراسة التي أجراها فاروق شوشة ودراسات ادونيس ( علي احمد سعيد ) و…. وانتهاء بدراسة د / عبدالكريم مرتاض ، انظر ( عبدالعزيز المقالح الأعمال الشعرية الكاملة المجلد الأول من ص ( 8 – الى ص 16 ) وستظل الدراسات والأبحاث تصدر من هنا ومن هناك حول أعمال المقالح الشعرية وبصفة خاصة حول ديوانه ( كتاب الأصدقاء ) الذي يعد بالفعل أسطورة شعرية فذة ، حيث أمتد نفس شاعرنا المقالح في هذا الديوان من الخليج العربي شرقاً الى المحيط غرباً ، من محمد بن سيف الرحبي سلطنة عمان الى محمد بنيس المملكة المغربية ، وقد رصدنا أول دراسة حول كتاب ( أصدقاء المقالح ) كانت من قبل د / فاروق شوشة رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، تناولها في مجلة العربي عام 2010م تحت عنوان، مرايا الأصدقاء عند عبدالعزيز المقالح، مبدياً إعجابه ودهشته بــ إتساع عالم المقالح الإنساني، وقد دعا فاروق شوشة من خلال دراسته هذه المؤسسات العربية الرسمية والخاصة وشركة رجال الأعمال العرب المبادرة الى تكريم عبدالعزيز المقالح على منجزه الشعري الفذ الذي لم يسبق إلى مثله شاعر… واياً يكون الأمر في حقيقته وفي جوهره …. فان عبدالعزيز المقالح من خلال هذه الدواوين والدراسات والبحوث يتقدم إلى قارئه اليمني والعربي عموماً متلفعاَ بعباءة رمزية البكاء ، تمدداً أو انكماشا ً ، بسطا ًوقبضاً يجسد فيه موقفاً من الإنسان والحياة والكون، ومداً للتأمل العميق والفكر الفلسفي، وفضاء الإشراق الصوفي ، يرد الكون إلى عناصره الأولى ثم يعيد تشكيله من جديد ، وبهذا الموقف الشعري والفلسفي يصبح المقالح امتداداً له هويته اليمنية والعربية …
في عالم المقالح وفي المستقر البعيد من وجدانه تتداخل دوائر الآفاق والشموس والنجوم والأقمار والأشجار والانهار والمكان بكل عناصره والحركة الدائبة عليه ، ودوائر الموروث الباعث على الالم والسأم الطواف والنفور والانعزال تتعاضد وتتآزر فيما بينها صانعة بحراً شعرياً من طراز نادر شطآنه محتشدة بالوجوه والشخوص والخبرات والعذابات والمعانيات، وثبج أمواجه يتصاعد وينبسط ويجيش في معادلة تحاكي حياة الشاعر وتوازيها، وتفرض عليه التقلب بين جزر ومد دائمين، بحسب وضع روحه داخل رمزية البكاء بسطاً وقبضاً جاداً وهازلاً مقبلاً ومعرضاً راضياً وساخطاً، وهو بكل حالاته يفتن في صنع عباءته الشعرية على عينيه حريصاً على النأي بنفسه وبشعره عن الشعراء الذين خايلوه في الماضي البعيد والحاضر القريب.
يستشرف عبدالعزيز المقالح سيرته الشعرية الطويلة بتعميمات رحبة وجميلة ، تسوق رمز البكاء في بداية العقد البلاغي، لرسم الصور الشعرية المتعددة التي سيمر عليها ويلونها مع كل موضع جديد في قصيدة جديدة، ولا ينسى أن يمر عليها في اكثر قصائده، ولذا سنرى كيف تختلف قصائده عن النهل من هذا الرمز وظلاله الجانبية وتغير كل قصيدة بحسب وضعه، كما اسلفنا، داخل رمز البكاء مما يساعد قصيدته على أداء دورها المقدر لها … واذا ما حاولنا رسم صورة إنسانية لعبدالعزيز المقالح من خلال ما قرأنا له وجدناها تجمع بين صفة الوفاء والاعتراف بالجميل وترفعه عن التكسب بالشعر، في زمن التكسب في الشعر ديدن كثير من الشعراء وطريقهم في الحياة …. سيظل الرواة والنقاد ومتذوقي الشعر ينسبون الى عبدالعزيز المقالح الصفات التي تليق بشاعرية شاعر عظيم قادر على التصرف الحر في فنون الشعر والإجادة في أكثرها مع حسن السبك والتعبير ، ولم يفت شاعرنا المقالح ان يسكب عصارة تجربته في الحياة وخلاصة خبرته في الناس كاشفاً عن حكمته العميقة ، فاذا ما حاولنا تأمل اللغة الشعرية التي اصطنعها المقالح فيما قرأنا له وفي سائر قصائده ، وجدناها لغة شاعر يتكئ على معرفة تامة بخبايا واسرار هذه اللغة ، وقدرة فذة على ابتكار الصور الشعرية القادرة على التشخيص والتجسيد والتمثيل والمقاربة ، والبعد عما ينفر منه الطبع العربي منطلقاً دوماً الى ابتكار المعنى الذي يثري المضمون ويغنيه مع الحرص التام على صفاء التشكيل الشعري والاطار العام للقصيدة، واطلاق البيت الواحد كما يقول فاروق شوشة ( مجلة العربي العدد 463 – ص 182 – عام 1997م ) ، كانه سهم شعري يصيب وجدان المتلقي في مقتل، ويسلب لبه ويحمله على ان يسخط على ما يسخط عليه الشاعر ذاته ، فيظل يردده ويرويه حتى يصبح قولاً ذائعاً من مأثور الكلام، مما يعطي لقصيدة المقالح وزنها الحقيقي في مجال البصيرة النافذة والحكمة الصائبة والتأمل العميق، الأمر الذي جعل من اسم عبدالعزيز المقالح رمزاُ مضيئاً دائم الإشعاع والنفاذ والتأثير حتى وهو يعتصم بعزلته واعتكافه وابتعاده عن الأضواء ، يظل الضوء خدنه ورفيقه، لأنه عنه يصدر، ومن معينه يتفجر، ومن ثنايا إبداعه وتفكيره يتألق ويشع..
وفي هذه المقاربة الختامية سنحاول ان نرسم صورة إنسانية ضافية لعبدالعزيز المقالح ولكن على غير النحو الذي سبق مقتصرا ًعلى ما يمكن تسميته بالكلمات الشعرية، ان جاز هذا التعبير
عبدالعزيز المقالح …
تمثال ضياء ‘ قيثارة روح ‘ ريشة عطر ‘ غمامة حب ‘ طنين عشق ، نغم حائر عفة قلب ‘ لطف ذاكرة ‘ بصر نافذ ‘
حكمة عميقة ‘ نجوى صوفية ‘ هدير ثورة ‘ لغة فاتنة ‘ قوة معنى ‘ حلاوة صورة ‘ وفور إنتاج ‘ اتساق جودة ‘ يقظة بالغة ‘ خلاصة تجربة.
زلزال هائل ‘ من الصفاء والنقاء ‘ والحب والجمال ‘ والحنين والشوق ‘ واللوعة والأمل ‘ والألم والانطلاق ‘ والبحث والهجرة ‘ والتوق والألفة والإيناس ‘ والنقمة والنفور ‘ والحفر بين الخرائب ‘ والابتعاد ‘ ومن هناك ‘ من خلف الغيم ‘ يرصد حفيف الزمن ‘ يوميات الحزن يوثق العلاقة بين الذاكرة و الزمن ، ‘ يجد الكتابة وسيلة تمتص من روحه فائض الوقت والجمال والكآبة والأماني المجهضة ‘ يدفع دفق النور في أوصال الواقع الموّار بالفزع والموت وضياع الوجهة ، يغسل حنجرة الروح بعطر الكلمات..
من هنا استطيع أن أسمي قصائده بـــ ( حوليات عبدالعزيز المقالح )
والسؤال الذي يطرح نفسه.. متى يلقى مبدعنا الكبير التكريم المادي والمعنوي اللائق؟!
تغريبة شجن على باب اليمن
تنفست الأرض الصعداء
فكانت صنعاء
وحي بسملة السماء
روح التأريخ وعقله
سليلة الفراديس
معشوقة الدهر
فاتنة العصر
أعجوبة المدن
يتيمة الزمان
يوسف لمائة ألف يعقوب
نحج ربوعها
تخضرّ الروح من طراوتها
دفؤها
من أجلها
عددت فراخ الدجاج
كصقور الاعالي
وسميت أكوام الحجارة
تيجان ذهب
صنعاء …
ها أنا ذا اتطاير فوق رحابك ، رقائق ضوء كلعبة نارية
أترك فيك شيئاً من روحي
من نفسي
لا أسترده إلا بالنزوح اليك