يحيى محمد جحاف
الفصـــــــــــــــــــــــــــــل الثالث:
الحوط : ومفردها حوطة وتعني القرى والأماكن التي كان يتخذها الأولياء ومشايخ العلم مركزا يفد إليه طلاب العلم والتعليم، وكان لهذه الحوط حرمتها وتقديرها عند القبائل والسلاطين فلا يجوز فيها قتل ولا اقتتال ولا نهب ولا ظلم، وقد أدى ذلك إلى ازدهارها وتخرج منها الكثير من العلماء والفقهاء والقضاة، لذلك نجد مثلا أول رباط بني في تريم هو رباط الشيخ إبراهيم بن يحيى بافضل المتوفى سنة 684هـ، وتريم قاعدة حضرموت وقد قيلت فيها الكثير من الأوصاف المتعددة ويقال إنها سميت باسم بانيها تريم بن حضرموت، وهي عش الأولياء وسكنها جماعة ممن شهدوا “بدر” وهي مسكن السادة الأول آل باعلوي الذين تفرقوا في كثير من البلدان وأهل هذه البلدة هم الوحيدون الذي لم يرتدوا مع من ارتد من حضرموت في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
الهجر الإسلامية في حجة :
لقد تعددت الهجر الإسلامية وانتشرت وبرز منها كثير من العلماء والأدباء والمفكرين مثال ذلك احمد بن يحيى بن يحيى المرتضى والفضل بن أبي السعد العصيفري وعبد الله بن القاسم البحري والحسين بن ناصر بن عبد الحفيظ المهلا وأحمد بن محمد الشرفي (صاحب اللآتي المضيئة)، وغيرهم الذين اسهموا بقسط وافر في الإنتاج الثقافي والمعرفي الإنساني وأثروا المكتبة العربية بثروة ضخمة من التراث الفكري العربي والإسلامي وتركوا نفائس المخطوطات المكتوبة على الجلد والورق والقماش، وقد اختلفت المصادر في تقديرها من حيث العدد والتسمية لعدم وجود إحصائية دقيقة لذلك خصوصا الفرعية منها، إلا أننا نستطيع القول إن لهذه الهجر خصوصيتها التي جعلتها تمر بمراحل تمدد وانكماش وذلك لأسباب سياسية وتعاقب السلطات على الحكم لما كانت تمثله من خصوصية في حياة الناس ومثال على ذلك: نجد في العام 1892م أنه تم إنشاء المكاتب الرشيدية ومدرسة القبائل وكان القصد منها خلق واقع آخر للتعليم يرتبط بتوجه السلطة ولم يكتف بذلك بل نجد مدارس أخرى في تعز والحديدة، مع الأخذ بالخصوصية المحلية، والغاية من ذلك هو نشر سياسة تعليمية موحدة تتناسب مع في توجه الدولة السياسي ويشمل كل انحاء اليمن، كما تم فتح دار المعلمين ليتخرج الأساتذة ثم توزيعهم على هذه المكاتب عام 1315هـ وهذه المحافظة من بين المحافظات التي تعددت فيها الهجرات الأساسية والثانوية نظرا لموقعها الجغرافي باعتبارها تشغل مساحة كبيرة حتى منتصف التسعينات من القرن الحالي بالإضافة إلى أنها كانت من أجمل المناطق الصاخبة بالإحداث إن لم نقل إنها كانت مؤثرة في كل مراحل التاريخ لذلك لا غرابة في نجد معظم المناطق زاخرة بمثل هذه المراكز.
الهجر العلمية التي لعبت دوراً مهماً في النهضة الفكرية والعلمية والسياسية:
هجرة الظفير:- من الهجر التي لعبت دوراً حافلاً في الحياة وكانت من الهجر العلمية التي تدرس فيها كل العلوم الموجودة في ذلك الوقت ويرجع تاريخها إلى مؤسسها الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى (714-840هـ/1362-1437م) المقبور فيها. وهو فقيه عالم مجتهد دعا لنفسه بالإمامة في صنعاء – شوال 793م عقب وفاة الإمام الناصر لدين الله، وبعد صراع دام نحو عام مع الإمام علي بن الإمام بن الناصر ألقي القبض عليه وسجن يقصر صنعاء ( 794 -801هـ/1392-1398م ) وفي السجن ألف كتاب الأزهار وكتباً كثيرة منها “الغيث المدرار والبحر الزخار الجامعٍ لمذاهب علماء الأمصار.. توفي بمرض الطاعون وقبر بجوار حفيده الإمام يحيى شرف الدين المتوفى سنة (965)هجري ومن مشايخها الشيخ العالم المجتهد عبد الوهاب الشماحي والسيد حسين بن ناصر المختار، ومن طلابها السيد العالم علي بن عبد الله جحاف عامل قضاء حجور، والعالم عبدالله بن حسن بن أحمد بن حسن جحاف، وكانت عاصمة اليمن في القرن التاسع الهجري ومنها انطلقت ثورة اليمنيين ضد الاحتلال التركي فقد كانت كوكبان جزءاً من هذا المقر الإداري والعلمي حتى منتصف القرن التاسع الهجري تقريبا وقد تعرضت هذه المدينة للدمار لمناعتها وصمود المقاومة وانطلاقها منها كان آخر ذلك القصف في الاحتلال التركي الثاني كما شكلت إلى جانب ذلك رصيداً حضارياً وثقافياً في التاريخ الحديث لذلك اكتسبت هذه المدينة أهميتها العلمية والثقافية بعد هجرة الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى ت (840 هـ ) مع بداية القرن التاسع الهجري وانقطاعه فيها للتدريس والتأليف حيث بلغت مؤلفاته أكثر من ثلاثة وثلاثين مؤلفاً توزعت بين الفقه وعلم الكلام والأصول واللغة والتاريخ والزهد والمنطق والحديث وأشهر كتبه كتاب ( متن الأزهار في فقة الأئمة الاطهار ) المرجع الفقهي للمذهب الزيدي وقد اشتمل على28 ألف مسألة من مسائل الفقه وهو علم من أعلام اليمن المشهورين وكتبه مطبوعة ومتداولة.
المساجد :
ظلت المساجد مركز الإشعاع المعرفي طوال حقب التاريخ وحتى فترات متأخرة من النصف الأخير للقرن الماضي خاصة في اليمن كونها عاشت ظروفاً استثنائية عبر تأريخها الإسلامي، وقد ظل التوق إلى المعرفة والتعلم ديدن الإنسان وملاذه وكل مساجد اليمن القديمة تجد بجوارها ملحقات تسمى ” منازل ” تقوم بدور الكتاتيب في البلدان الأخرى خاصة في المناطق التي أبعدتها ظروف الصراع السياسي عن أجندة اهتمامات الحكام والسلاطين والأئمه الذين تعاقبوا على حكم اليمن .
وقد عمل بعض الحكام على بناء مدراس نموذجية في اليمن كمدرسة الأشرفية في تعز والعامرية في رداع والمدرسة الشمسية في ذمار، بيد أن مدينة الظفير ظلت بمنأى عن مثل ذلك وظل المسجد المنارة الوحيدة للتذاكر والتعلم والتفافة وقد بلغ عدد المساجد فيها سبعة عشر مسجداً كانت جميعها تقوم بدور المدارس الابتدائية في الوقت الحالي ومن يتمكن من حفظ القرآن الكريم وحذق البياض (القدرة على القراءة والكتابة) وأراد الاستزادة فليذهب إلى هجر العلم والمدارس العلمية كي ينال الإجازة في كل علم يرغب فيه.
ليس هناك تاريخ يحدد بداية هجرة الظفير العلمية، بيد أن شهرتها اكتسبتها من شهرة الإمام المهدي ومكانته العلمية ومن ثم من خلال العلماء الأعلام الذين تعاقبوا على الهجرة للتدريس والإملاء والتصنيف ، وذاع صيتهم في الآفاق مثل العلامة لطف بن محمد الظفيري صاحب ( الإيجاز في علم الإعجاز ) و ( أرجوزة الفرائض ) والحسن بن محمد الزريقي الهمداني صاحب كتاب ( حاشية على الأثمار ) ( وسيرة الإمام شرف الدين ) وغير أولئك كثر ممن تحدثت عنهم كتب التراجم . والهجرة هنا تعني الانتقال من حال إلى حال والانتقال هنا انتقال سلوكي أي الانتقال من حال الاشتغال بالحياة وحاجاتها إلى حال المعرفة بها والاشتغال عليها وذلك بمفارقة الأهل والاعتكاف في الهجر التي غالباً ما تكون ملبيةً لضرورات الحياة من ملبس ومأكل ومشرب وسكن ومصدر تمويل الهجر يكون من الزكاة التي تسوقها القبائل إلى القائم على الهجرة والمتصرف في شؤونها الإدارية .
وهجرة الظفير العلمية كانت في جامع الإمام المهدي الذي بناه حفيده الإمام شرف الدين ( ت 965) في القرن العاشر الهجري وتقبع في جهته الشمالية قبة فيها قبر الإمام المهدي وتحيط به ملحقات سكنية تسمى منازل معدة كسكن لطلاب العلم وتوجد به عدد من البرك المائية منها ما هو مخصص للوضوء ومنها ما هو مخصص للمأكل والمشرب وثمة مساتر ( حمامات ) مخصصة للاغتسال وهذه المساتر مبنية بطريقة غاية في الروعة والإبداع .
وساحات الهجرة والجامع مسورة وأرضيتها مرصوصة بالحجارة المصمدة بالقضاض .
ولايزال الجامع والهجرة يحملان كل قسمات الماضي وكل طهارته ولايزال الناس يؤدون الصلاة في الجامع وينقطعون أياماً لقراءة القرآن عند ضريح المهدي في قبته ويؤدون أيضاً الصلاة في نفس القبة التي تبدو من داخلها وكأنها مسجد صغير ولها محراب وفي وسط المسجد ضريح المهدي يحيط به قفص خشبي مزخرف بارتفاع ( 1.5) متر تقريباً مغطى من كل جوانبه، فتشعر وأنت هناك برهبة وروحانية عجيبة كما تشعر بكل جلالة الماضي وعظمته .
والمكان له معنى القداسة عند الناس إذ كانوا ينذرون أبناءهم وأموالهم للمهدي تبركاً وطلباً لنعمة ، كأن يرزق أحدهم ولداً وإذا تخاصموا ولزم على أحدهم اليمين حلف اليمين عند الضريح وقد يبلغ بذلك غاية الرضا اعتقاداً أن روح المهدي لن تترك ظالماً أو كاذباً وأن روحه الطيبة تجلب الخير لكل متقرب بها إلى الله .
وما زال ذلك دأب الناس حتى اللحظة فقد قيل لنا إنه إذا نذر أحدهم مبلغاً من المال لقراءة القرآن فقد يشترط على القارئ القراءة في قبة المهدي أو قبة أبو طير، وقبة أبو طير هذه تقع وسط المدينة وهي مغلقة ولم نتمكن من دخولها وقد قيل لنا إنها لا تفتح إلا إذا كان هنا نذر لقراءة القرآن ولم نتمكن من معرفة شيء عنها إذ أن الذين التقيناهم هناك لم يتفقوا على مسماه، فقد قال بعضهم إن اسمها قبة القاضي وقال آخرون بل قبة أبو طير وإذا كان الحال كذلك فكيف يتفقون على تاريخها .
يبقى القول إن هجرة الظفير قد أثرت المكتبة الإسلامية بمئات المؤلفات في شتى العلوم وكان للعلماء الذين تعلموا أو علموا في الظفير أثر واضح وجلي في تاريخ الحركة الفكرية والعلمية في اليمن وفي العالم الإسلامي ومن حق هذه الهجر العلمية أن تخلد في ذاكرة الأجيال كمزار سياحي وثقافي.
الدور السياسي لمدينة الظفير
لم تكن الظفير -وهي هي مكانة علماً ومنعة- أقل شأناً عن غيرها في التفاعل مع المشهد السياسي والتأثير والتأثر به ذلك لأن الصراع كان سمة غالبة في تاريخ اليمن الوسيط إلى حد أن كان في كل بقعة إمام بل بويع في يوم واحد مائة إمام، والإمامة عند الهادويين لها أربعة عشر شرطاً تسقط بانتفاء أحدها ولا يبايع عامة الناس إلا بعد إقرار العلماء الأعلام بالبيعة وإشهارها وقد كانت الظفير موطن بعض من دعا لنفسه بالإمامة ومن أولئك الإمام الهادي شرف الدين بن محمد بن عبد الرحمن عشيش ( 1245 – 1307)هـ الذي دعا لنفسه من الظفير في شهر صفر عام 1296هـ ثم غادرها إلى الأهنوم وهناك بايعه علماء صعدة بعد أن انتدبوا إليه اثنين من علمائها هما محمد عبدالله الغالبي وأحمد بن إبراهيم الهاشمي ونظرا في علمه ومدى توافر الشروط فيه وعندما تأكدا من سلامة الشروط وتوافقها بايعاه وألزم الناس بطاعته وعلى إثر ذلك انتقل إلى مدينة صعدة في شهر ذي الحجة من عام 1298 ونزل حصن سناره وجعله مقر حكمه ودار مملكته .
وقد خاض الإمام حروباً عدة مع العثمانيين الذين كانوا يحكمون اليمن في جهات متفرقة فيها وقد وافته المنية في حصنه في التاسع عشر من شوال من عام 1307هـ وسيرته مدونة ومطبوعة كتبها القاضي عبد الله بن علي العنسي وسماها ( تحفة الفكر ونزهة النظر في سيرة الإمام المجدد على رأس المائة الثالثة عشرة ) .. وفي بداية القرن الثاني عشر الهجري وتحديداً في سنة (1121) هـ دعا اسماعيل بن أحمد بن عبدالله الكبسي لنفسه من الظفير ومكث فيها حتى داهمه المتوكل أحمد بن المنصور وكان يضمر أسره فخرج منها إلى صعدة إثر مكاتبة كانت فمكث في صعدة ثلاثة عشر عاماً ثم اتجه إلى برط لعله يجد عوناً من أهله فخاب ظنه فتخلى عن دعوته .
ولعل منعة الظفير قد جعلتها هدفاً لكل نظام يحكم اليمن فقد شهدت حروباً متعددة وآخر تلك الحروب ما شهدته في عام (1968م) بعد قيام الثورة وصراع الملكيين والجمهوريين حيث أعلنت ولاءها للنظام الجديد فرابطت فيها قوة مكونة من ثلاثين جندياً من لواء الوحدة، وما لبثت أن وقعت في الحصار من جانب القبائل الموالية للنظام الملكي وظلت محاصرة حتى نفد كل شيء لدى المحاصرين ويذكر المواطنون أن الطائرة العسكرية كانت تسقط عليهم المواد الغذائية فيتهافت الناس عليها ولم تصمد كثيراً إذ سرعان ما دخلتها القبائل ورفض قائد الفرقة تسليم نفسه بل قاوم حتى وجد أن لا فائدة فرمى بنفسه من شاهق جبل الظفير خوفاً من أن يقع في أيدي القبائل، وما زال كبار السن يتحدثون عن شجاعته وبطولته وقيل لنا إن اسمه حسين الغولي وذلك آخر حدث شهدته الظفير إذ بعد ذلك بسطت الثورة اليمنية سلطتها على كل اليمن وساد ظلال الأمن والاستقرار وبدأت مرحلة البناء والتعمير وإرساء الأسس الأولى لمداميك الدولة الحديثة .
لحظة تأمل وشجن
الظفير مدينة تسرَّج حلمها على صهوة الوقت وتظل واقفة بهامة تحمل كل كبرياء الماضي وكل خيلائه تحدثك وهي مطرقة عن ذلك الإنسان الذي حفر في الصخر وجعل من ذاته مصدر قوة تصارع كل قوى الطبيعة القاهرة .
في طريقك إليها تلتفت يمنة فترى ثمة قرية نائمة على هامة قمة ، أو يسرةً فترى ثمة كوخاً في صدر جبل شامخ وبين هذا وذاك إنسان يبحث عن الأمان في أحضان الطبيعة، قد تقف الجبال كشيخ جليل تحدثك عن قصة الإنسان الذي عبث به الشر واصطرع في داخلة الشيء كالحب والكراهية والموت والحياة .
تحدثك أطلال الإنسان القديم في الظفير وفي اليمن كله أن الأمن بكل أطيافه ،هو مصب كل إبداعات الإنسان واختراعاته ،وقد حاول جهده ،أن يضمن لنفسه كل معاني العيش الكريم وأن يحتاط من الخوف بالخوف نفسه ،فسكن في القمم الشاهقة والبالغة الانحدار إلى الأسفل ،قهراً للخوف وطلباً للأمان ونحن حين نقف على اطلاله الآن نخاف ونعجب لقدرته على معالجة إحساس الخوف بالاقتراب منه .
أما الميزة الأهم التي نقرأها ونحن نقف على أطلال الماضي ،فهي الاعتماد على الذات وتفجير طاقاتها الجبارة ،لتحقيق القدر الكافي من الاستقلال ،ومن ثم العزة والكرامة ،وتلك هي الصفات التي أتصف بها الإنسان العربي القديم .
سأكون عاجزاً عن بث كل مشاعري هذه اللحظة ،ولكن دعوني أعود أنا وزملائي من هذه الرحلة ،فقد بدأ الضباب يداهمنا من كل اتجاه ..سنترك الظفير ،وهي تسرج حلمها على صهوة الوقت وتغادر إلى الزمن الآتي لعلها تحط رحالها ،أما نحن فسنعود إلى المكان الذي جئنا منه ،وثمة شجن كضباب الظفير ،ما زال يحجب عنا الرؤية لعله سينجلي في قادم الأيام.
السيد عبدالرحمن بن عبيد الله السقاف: معجم بلدان حضرموت ،المسمى ادام القوت في ذكر بلدان حضرموت، تحقيق إبراهيم احمد المقحفي، عبدالرحمن حسن السقاف:ط1/1423هـ/2002م،مكتبة الإرشاد صنعاء،(هامش ص 34).
المرجع السابق، ص 501.
نفس المصدر: ص 490، 491.
حولية الآثار اليمنية العدد الأول 1429هـ /2008م ص 103.