تصنيف اليمن كدولة مهدّدة بالفشل لم يبدأ في 2011م وأحداث الربيع العربي وإن دخل معها مرحلة جديدة، فالتحذيرات الأمريكية والبريطانية من فشل الدولة بدأت في مرحلة أبكر، ومنذ 2007م وفي 2009م تكررت الدعوات للحكومة اليمنية بضرورة التفكير بجدية في التحول نحو الديمقراطية الحقيقية وإجراء إصلاحات إدارية واقتصادية والا فان اليمن في طريقها نحو الفشل.
وهي التصريحات التي كانت تتلقفها المعارضة – آنذاك.. لإدانة نظام صالح دون إدراك لتداعيات الاستقواء بالخارج، السياسة التي طبّعت أداء النخب السياسية في السلطة والمعارضة ،على سلب اليمن حقوقه السيادية وفقدانه السيطرة على قراره الوطني من دون أن توصله إلى برّ الأمان، وما حصل في 2011م شاهد إضافي، فاليمن منذ السبعينيات التي كانت قيد النظر السعودي، وبموجب قرار مجلس الأمن (2014/2011م) انتقلت لتصبح قيد النظر الدولي الذي بدوره أعاد تفويض الخليج والسعودية للإشراف على تنفيذ الانتقال السياسي، أي أن التفويض السعودي في اليمن-هذه المرة- أصبح مسنودا بغطاء دولي وإقليمي.
لن ندخل في مناقشة مبررات تصنيف اليمن دولة فاشلة باعتبارها المقاربة التي حكمت المرحلة الانتقالية وإنما باعتبارها مدخلا مفتاحيا لفهم وتفسير مسار الأحداث بعد 2011م ومعرفة خلفية وآليات ووسائل المجتمع الدولي لمساعدة الدول الهشة في تصميم المبادرة الخليجية والمرحلة الانتقالية عموما ومدى نجاحها وكفاءتها في معالجة الأزمة وإعادة بناء قدرة الدولة على أداء وظائفها، أم أنها كانت تدفعها نحو المزيد من الفشل والانهيار.
دوافع التدخل الدولي والإقليمي:
التدخل الإقليمي والدولي في اليمن لم يكن لأهداف إنسانية أو لحماية الشعب اليمني أو لإحداث تغيير حقيقي يلبي مطالب الثورة والشعب اليمني بقدر ما هو القلق المزعوم من اليمن الخطر، وتأثير انهيار الدولة في اليمن على المصالح الأمريكية وتحول اليمن لملاذ آمن للإرهاب ،والقلق من إمكانية صعود طبقة سياسية جديدة غير متحمسة أو متفاعلة مع أولويات الاستراتيجية الأمنية الأمريكية في اليمن أو مع استمرار إشرافها على إعادة هيكلة الجيش والأمن في الاتجاه الذي يضمن استمرار الحرب على الإرهاب كعقيدة قتالية للجيش اليمني ومؤسساته الأمنية – على حد الدكتور محمد الأفندي – والاحتفاظ به مدخلا للنفوذ في توجيه الجيش اليمني .
من جهة أخرى السعودية منذ نشأتها تنظر لليمن مصدر خطر وقلق دائمين، فالجوار والشريط الحدودي الطويل بين البلدين قد يجعلان من اليمن مصدر تهديد لأمن السعودية سيما مع رداءة وعدم جاهزية القوات البحرية وحرس الحدود اليمنية، كما تنظر لليمن على أنها ساحة نفوذ لا غنى عنها للحفاظ على التوازن الإقليمي وتخشى من تأثير التغيير في اليمن على التوازن الإقليمي سيما تجاه النفوذ الإيراني والتركي، وغير ذلك يرى كثير من المراقبين أن بناء دولة قوية أو ديمقراطية لم يكن من الأهداف المرغوبة لدى السعودية الراعي الحقيقي للمبادرة.
كما يمثل باب المندب مضيقاً مهما للمصالح الدولية ما يجعله يولى أهمية لاستقرار المنطقة التي تعاني أصلا من وجود دولة فاشلة وهي الصومال، إضافة للجزر اليمنية الاستراتيجية في طريق الملاحة والمهمة في الحرب الدولية على الإرهاب.
الدافع الثاني: عدم ثقة الأطراف الدولية والإقليمية وبشكل أكثر تحديدا السعودية والولايات المتحدة في قدرة النخب اليمنية التقليدية في السلطة والمعارضة على إدارة مهام المرحلة الانتقالية دون مساعدة وإشراف مباشر من المجتمع الدولي والخليج والسعودية تحديدا، وانعدام ثقة السعودية بالنخبة السياسية اليمنية ليس بالأمر الجديد وتراودها شكوك مزمنة من التوجهات السياسية للنخب اليمنية ،وزاد استقدام القوات المصرية في ثورة 26سبتمبر ثم تحوّل اليمن الجنوبي للنظام الاشتراكي لاستحكام هذا الهواجس لدى حكام الرياض واستقر في قناعتها أنها إن لم تضع اليمن قيد نظرها فسيذهب إلى حيث لا ترغب.
لذلك كان أحد أهم أهداف المبادرة الخليجية ضمان استمرار اليمن ضمن المعادلة الإقليمية والدولية سواء المتعلقة بمكافحة الإرهاب وفقا للمنظور الأمريكي، أو استمرار احتفاظ السعودية بدور اللاعب الأساسي في المشهد السياسي اليمني وتمكينها من ومحاربة ما يسمى النفوذ الإيراني والإخواني أو التركي في اليمن، وتعمدت المبادرة تجاهل تبعات هذه السياسات التي كانت مسؤولة لحد كبير عن هشاشة وضعف الدولة اليمنية وتحديد مسار السياسة الداخلية اليمنية.
نظرية اليمن الخطر وأثرها على الدولة:
إن النظرة الإقليمية والدولية لليمن على أنه مصدر للخطر والتهديد مثّلت بحد ذاتها مصدر تهديد لليمن والدولة اليمنية، وأنتجت متوالية من السياسات والتدخلات السافرة في الشأن اليمني أضعفت السلطة المركزية للدولة اليمنية أوصلت اليمن إلى الفشل.. منذ الستينات كانت السعودية تنظر لليمن على أنه يمثل مصدر خطر عليها مرة بحجّة المد الناصري وأخرى المد الشيوعي وثالثة المد الشيعي وحينا المد التركي، لم تكن مقاربة الرياض جيوسياسية فحسب وإنما مقاربة أيديولوجية تتعدى استحقاقات الجغرافيا وقيم الجوار المعتادة، جوهرها “أن يبقى اليمن ضعيفاً بما لا يشكل تهديداً للمملكة، وقوياً بما لا يشكل تهديداً لها أيضاً”(وهو المبدأ الذي صيغت على أساسه المبادرة الخليجية)، وخلال الخمسة العقود الماضية، لم تكن السعودية تتعامل مع اليمن من باب مؤسسات الدولة، بل من نافذة مراكز القوى خارجها من خلال ما يُعرف تقليديا بـ “اللجنة الخاصة”، والتأثير على القرار السياسي عبر التزكيات والتعيينات لتولي مناصب معينة في الحكومة والمؤسسات اليمنية. إضافة للجمعيات الخيرية ودعم الجماعات السلفية والإغاثية وغيرها من الوسائل الناعمة ذات الفاعلية الكبيرة التي خدمت السعودية في التغلغل في الساحة اليمنية بمعزل عن الحكومة اليمنية.. “نظرية الدولة الضعيفة ” التي استندت عليها السياسة السعودية وإن ساعدتها في التفرد باليمن لعقود إلا أنها أسهمت في أضعاف الدولة وتآكل شرعيتها وسلطتها.
بعد أحداث 11سبتمبر أصبح اليمن مصدر قلق للولايات المتحدة بحجة الإرهاب والخشية على الديمقراطية ،وبصرف النظر عن أهداف الحرب الأمريكية على القاعدة في اليمن فان السياسات التي اتبعتها كانت على نفس المنوال الذي اتبعته السياسة السعودية بتجاوز السلطة المركزية، واتخذت من فساد السلطة وضعف قبضتها خارج المدن مبررا لفتح قنوات تواصل مباشرة مع الزعامات المحلية أصحاب السلطة الحقيقية وتوزيع المساعدات عبرهم بحجة تجنب العمل عبر آليات الفساد التابعة للحكومة المركزية وبذلك تتمكن على حد باحثة أمريكية من إضعاف القاعدة وفي ذات الوقت مساعدة الشعب اليمني، فتحول بذلك دون انفجار البلاد من الداخل، لكن اذا نظرنا للنتائج على الأرض فإن هذه السياسة أسهمت في إضعاف سلطات الدولة اكثر مما أضعفت القاعدة، وفي مفارقة ملفتة بعد ما يقارب عشر سنوات من التدخل الأمريكي لمكافحة الإرهاب في اليمن وبعد أن كان الإرهاب يقتصر على أفراد يتسللون بين القبائل اليمنية، أعلنت القاعدة في 2009م تأسيس تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في اليمن، في تطور ملفت يعاكس الأهداف المعلنة لحرب أمريكا على القاعدة في اليمن، الأمر الذي يثير التساؤل كما لو أن الهدف التحرش بالقاعدة وتحويل اليمن ساحة للعبة مفتوحة معها و نقطة تجميع لعناصرها لأهداف لها علاقة بمطامع الهيمنة على اليمن وصراع القطبية الدولي.
في 2011م تطور الأمر ليصبح اليمن مصدر قلق للمجتمع الدولي، ويقرر مجلس الأمن وضع القضية اليمنية قيد النظر الدولي، وفي 2015م قررت السعودية إعلان الحرب على اليمن بحجة القلق من النفوذ الإيراني وهكذا كان القلق من اليمن بمثابة حصان طروادة الذي تسبب في خرابها.
إن نظرية اليمن الخطر ساهمت في إضعاف الدولة اليمنية عبر مراحلها التاريخية وتحولت إلى نوع من الدعاية السوداء التي شوَّهت صورة اليمن إقليميا ودوليا، وحرضت الخارج والداخل عليه، وحين كان اليمن مستغرقا في مشاكله الداخلية كانت هذه الدعاية غير البريئة تزيد الأوضاع سوءا وتعرقل الإصلاحات الخجولة، بما فيها تلك التي يلح في طلبها المانحون والمقرضون، وكثيرا ما يتلقف الإعلام الغربي والأمريكي أدنى حادثة ويصنع منها فزاعة كبيرة بهدف حشد التأييد الشعبي لحملات الولايات المتحدة العسكرية في العالم واليمن الخطر المسكون بالكائنات الشريرة دون اعتبار لما لها من تداعيات سيئة على اليمن .
إن الفرضية التي تزعم أن الصراع في اليمن قادر على إشاعة فوضى خارج حدوده تتجاهل أن شرارات الصراع الداخلي لم تتطاير خارج حدوده إلا عندما كانت قذائف الخارج تكوي اليمن بألسنتها الحارقة وكل الصراعات التي حدثت في اليمن بقيت تأثيراتها داخلية والأثر المحدود الذي يمكن تخيله لا يقارن بالآثار التي خلّفتها التدخلات الخارجية.
إن القلق الدولي في الحقيقة ناتج عن القلق السعودي والأمريكي وهما من روّجا نظرية اليمن الخطر، وهي هاجس سياسي أكثر مما هي حقيقة سياسية، فاليمن لم يكن مصدر خطر على السعودية وكان اليمن دائما في موقع المعتدى وكل المخاطر التي كان يتم افتراضها لا تقارن بالكوارث التي تسببت بها لليمن، والهواجس التي قد يكون مصدرها توجهات أو تصريحات بعض النخب السياسية سواء القومية أو اليسارية أو الممانعة لا يجب أن تكون مصدر قلق إلا إذا تجاوزت اليمن إلى التدخل في الشؤون الداخلية للسعودية أو التهديد لأمنها القومي وبالمقابل لا تبرر أي تدخلات على حساب الدولة اليمنية وسلطتها المركزية ولا يشترط أن تكون السياسة الخارجية لليمن نسخة أخرى للسياسة السعودية.
الخلاصة: إن استمرار اليمن قيد النظر الدولي أو الإقليمي إنما يعني استمرار أزمة الدولة اليمنية وإبقاءها مشلولة معتمدة بدرجة أساسية على الخارج الذي في النهاية لن يستطيع أن يحل محل الداخل مهما حاول وعندما يقرر الخروج لن يترك خلفه إلا فراغا يتحرك ضد مصالح الداخل والخارج، ومن مصلحة السعودية المساعدة على وجود دولة قوية تستطيع أن تؤّمن الاحتياجات الضرورية للناس حتى لا يتحول جزء كبير من سكان اليمن إلى فائض بيولوجي غير مؤهل إلا للقتال وممارسة العنف وتصدير عمالة رثة تشتغل في التهريب.
وفرضية أن اليمن إن لم يكن قيد نظر الرياض سيذهب لغيرها أو سيشكل تهديدا لأمنها، وأن النخب اليمنية غير قادرة على إقامة علاقات متوازنة مع الأطراف الإقليمية والدولية لا تشكل تهديدا لأحد، مجرد هواجس لا مبرر لها ،ربما أن تدخل عبدالناصر في ثورة سبتمبر ساهم في تعزيزها لكنها كانت حالة استثنائية، فتاريخيا الإمام يحيى استطاع أن يحافظ على استقلال اليمن ولم يسمح أن تكون اليمن ساحة نفوذ لأي جهة رغم المحاولات الحثيثة لكل من بريطانيا وإيطاليا وفرنسا آنذاك ، وثانيا أن السعودية منذ السبعينيات هي من فرضها كخيار دائم على النخب السياسية والدولة اليمنية، وعرقلت أي قوى أو توجهات لبناء دولة قوية ومستقلة، ثالثا أن خيار الاستقلالية لا يعني بالضرورة العداء ولا الخصومة ولا يمنع من إقامة أفضل العلاقات مع السعودية ،واليمن قادر على إقامة علاقات متوازنة مع محيطه العربي والإسلامي ومع كل الأطراف الإقليمية والدولية من مختلف التوجهات في ضوء مصالحه الوطنية واستحقاقات الجوار وواجباته القومية والإسلامية والإنسانية .