وعي قرآني:

 

حسين بدرالدين الحوثي

– في خضم هذا الكم الهائل من التضليل وإلباس الباطل بلباس الحق ما هي القاعدة البسيطة التي من خلالها تعرف الحق ولا سواه؟
– ما معنى حرية الفكر في الإسلام؟ وهل شرعها الله سبحانه وتعالى؟ وكيف تتناقض مع أمر الاعتصام بحبل الله؟
وهكذا إذا تأمل الإنسان كم سيجد لتنـزيه الله سبحانه وتعالى من أهمية بالغة مرتبطة بكل القضايا، في كل الميادين، في مواجهة المفسدين، في مواجهة المضلين، في مواجهة أعداء الله، حتى في المواجهة الكلامية في حالات النقاش.. وأنت تنطلق من قواعد ثابتة، مهما نمق الطرف الآخر كلامه أمامك، وزين شبهته لديك، لن تضطرب أبدًا؛ لأنك سترى أن كل هذا الكلام المنمق الذي جاء من جانبه، مبني على أساس فاسد، المسألة من أساسها غير صحيحة.
لو قبلناها كان ذلك يعني: خدشًا في نزاهة الله سبحانه وتعالى، فيما يتعلق بحكمته، فيما يتعلق بعلمه، فيما يتعلق برحمته، فيما يتعلق بتدبيره، فيما يتعلق بأي شيء من كماله سبحانه وتعالى، فلن تهتز أبدًا.
في الأخير يقول لك: هذا الحديث رواه فلان ورواه فلان وأخرجه فلان وتلقاه فلان، وقال الإمام الفلاني ورواه الفلاني، ما هو سيأتي عبارات من هذه زحمة؟ يصوخوه لما احسب قد هو صدْق! لا. ليقل لك ما قال… ورواه فلان وأخرجه فلان وذكره فلان وحكاه فلان، وكان يدين به فلان، إلى آخره. المسألة من أساسها انظر ما هي النتيجة في الأخير؟ مبنية على ماذا؟ ثم ماذا سيترتب عليها؟ هي تخالف مخالفة صريحة مقتضى نزاهة الله سبحانه وتعالى الذي هو معنى تسبيحه وتقديسه.
إذًا لا يمكن أن تقبل مهما كانت الضجة حولها؛ لأن الضجة هنا، أو الكلام الكثير، المؤكد هنا في القرآن الكريم في مجال التسبيح، أو فيما يتعلق بالتسبيح، هو الشيء الذي يجب أن يسيطر أثره على مشاعرك، فلا تتأثر بأي ضجة أخرى مهما كثرت.
كما قلنا: إنها قد تحصل ضجة كثيرة أمامك، وأنت تقرأ مثلًا، أو وأنت تدخل في نقاش مع شخص آخر، ويقول: رواه البخاري ومسلم وذكره الترمذي، وحكاه فلان وذكر فلان، وقال فلان إنه مما أجمع عليه السلف الصالح وحكى… إلى آخره.. كلام كثير.. لكن هؤلاء الذين عرضهم جميعًا – الله بالنسبة لهذه القاعدة عرض ما هو أكثر منهم بكثير {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (الجمعة: من الآية1) ما هؤلاء أكثر من البخاري ومسلم وفلان وفلان إلى آخره؟
فالقاعدة هذه مهمة جدًا.. وإذا أردت أن تعرف أهميتها فانظر إلى القرآن الكريم {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (الجمعة: من الآية1) وسور في القرآن الكريم تتصدر بالتسبيح على هذا النحو: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} أو {سبَّح لله} {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أو {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الحديد: من الآية1) وفي أواخر بعض السور وداخل السور بهذا اللفظ العام {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هذا يدل على أهميته، وأنك بحاجة إلى أن تستشعر أهميته، وتنطلق منه في كل مواقفك.
وأنت طالب علم عندما يقولون لك: [مما امتاز به مذهبنا هو الحرية الفكرية، فالإنسان يقرأ وله حق أن يرجح وينظر، ثم له حق أن يجتهد فيما بعد إذا ما توفرت له آلة الاجتهاد فأصبح يستطيع أن يستنبط، وأن ينظر وأن يرجح وأن يقرر وأن… إلى آخره..] هم يخاطبونك بهذا الكلام بمفردك.
ارجع إلى القاعدة هذه: هل ممكن أن يكون الله سبحانه وتعالى يوكل أمر الهدى إلى الناس؟ أم أنه هو الذي يتولى هذه القضية عندما يقول: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدىْ} (الليل:12) {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيْلِ} (النحل: من الآية 9) وهل النتيجة هذه ممكن أن تكون مقبولة عند الله؟ وهل هي منسجمة مع حكمته؟ مع رحمته؟ مع كونه الملك، الإله، الرب؟
ينسجم مع هذا كله أن ينطلق كل واحد منا – ونحن طلاب علم – فهذا يرجح خلاف ما رجح هذا، وهذا يقرر خلاف ما قرر هذا، وكل واحد منا يدعي بأن ما وصل إليه هو دين الله، وهو شرع الله. فكلما اتسعت دائرة المتعلمين، وكلما اتسعت دائرة المجتهدين، كلما كثرت الأقوال وكثر الاختلاف، فصعد كل شخص لحاله، وتحرك بمفرده، وانطلق كل منهم يدعو إلى ما توصل إليه.. اختلاف شديد، اختلاف رهيب، تعدد أقوال، وكل منها تنسب إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا يخطئ هذا، وهذا يخالف هذا، وتفرق فلا تجتمع لهم كلمة في أغلب الأحوال.
تقول في الأخير: هل يمكن أن يكون دين الله على هذا النحو؟ وهل الله يريد منا أن نكون على هذا النحو، فقدم لنا دينه هكذا؟ وأراد من كل واحد منا أن يتحرك هو بمفرده؟! فما أداه إليه نظره واجتهاده سار عليه.. وهكذا الثاني، وهكذا الثالث، والرابع.. إلى آخر الدائرة. وإن كانوا آلاف المتعلمين، وآلاف العلماء!! وأنت ترى، وتشاهد أن هذه وسيلة من وسائل الاختلاف والتفرق.. فهل الله سبحانه وتعالى الإله، الملك، هل هذا تدبيره لشؤون عباده؟ هل هذا تشريعه لعباده؟ هل هذا ما يتناسب مع توحيده؟ أن ينـزل للناس شرعًا يفرقهم ويشتت شملهم؟ وأن يقبل من كل واحد ما أداه إليه نظره واجتهاده؟
وعندما تنظر إلى داخلهم ترى الأشياء المتباينة المتضادة المتخالفة التي لا يمكن أن تكون كلها حق، نقول: لا، سبحان الله.. سبحان الله أن يكون شرعه على هذا النحو، أن يرضى لعباده هذه الطريقة، أن يكون هذا هو ما يريده منهم، أن تصبح هذه هي ميزة ما شرعه لعباده، ميزة الإسلام، وأنها هي التي يمتاز بها الإسلام، فنقول: حرية الفكر!!
لـو قررنا ذلك لاحتجنا أن نقرره شرعـًا، أي: نحتاج إلى أن نصبغ ما نقرره بصبغة دينية ننسبها إلى الله سبحانه وتعالى، أنه هكذا أراد منا، أن نكون على هذا النحو، أن كل واحد منا ينطلق على هذا النحو بمفرده، إذًا فهو شرع هذا، وهو في نفس الوقت يقول في القرآن الكريم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: من الآية 103) ثم يقول بعد: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (آل عمران: الآية105).
إذًا ستقول: كيف تنهى هنا عن الاختلاف والتفرق، وتهدد بالعذاب العظيم عليه، وتأمر بالاعتصام الموحد الجماعي بحبل واحد، ثم أنت في نفس الوقت تشرِّع ما هو منبع من منابع الاختلاف والتفرق؟! حيث أجزت لكل واحد منا، أو أردت من كل واحد منا أن ينطلق هو بمفرده فيعتمد على ما أداه إليه نظره وترجيحه، ونحن نرى أن الأنظار تختلف، والنتائج تختلف.. ألم يختلف شرع الله هنا؟ ألم يؤد إلى اختلاف؟
نسبح الله، ننـزه الله أن يمكن أن يكون هذا من شرعه، أن يكون في شرعه اختلاف، ويكون في شرعه تناقض {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} (النساء: من الآية 82) ولا يعني الاختلاف هو الاختلاف في ألفاظ النصوص، الاختلاف في الغايات أيضًا، الاختلاف في النتائج أيضًا.. فلا يمكن أن يشرِّع هنا شيئًا ثم يشرِّع أيضًا شيئًا آخر يؤدي في الأخير إلى نتيجة تخالف نتيجة ما شرَّعه هنا. أو يهدي إلى شيء، ثم يهدي إلى شيء آخر يؤدي في الأخير إلى ضرب ذلك الشيء الأول، هذا هو الاختلاف أيضًا، بل هو الاختلاف الحقيقي أكثر من اختلاف النصوص {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} (النساء: من الآية 82) هنا نحتاج – كطلاب علم – أن نسبح الله نقول: سبحانك، لا يمكن أن تتناقض، لا يمكن أن يختلف هداك، لا يمكن أن يتعارض هديك، لا يمكن أن تتعدد طرقك، وأنت الذي تقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوْا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِهِ} (الأنعام: من الآية153).
وهكذا تحتاج إلى تنـزيه الله في كل شيء، وأنت طالب علم، وأنت تاجر، وأنت فلاح، وأنت عالم، وأنت فقير، أو أنت غني، وأنت مجاهد، أو أنت قاعد، وأنت صحيح، أو أنت مريض تحتاج إلى هذه القاعدة، أن تنطلق منها، وهي التي ستحركك، وتوجهك إلى الصواب، فتعرف ما هو الموقف الصحيح الذي يجب أن تقفه في كل الأحوال، وفي كل الظروف.
هذا ما أفهمه بالنسبة لقضية التسبيح.. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المسبحين له، المنـزهين له، وأن يترسخ في أعماق نفوسنا مشاعر عظمته وتنـزيهه وقدسيته إنه على كل شيء قدير.

قد يعجبك ايضا