تأجيل الانتخابات للمرة الثانية لن يكون استثناء

ماهي فرص تنظيم الانتخابات الليبية في المرحلة القادمة؟

 

 

انتظر الليبيون يوم 24 ديسمبر الماضي للانخراط في عملية سياسية لانتخاب برلمان موحد ورئيس للدولة يخرجان ليبيا من نفق الصراع والانقسام الفوضى، مدفوعة بسلاح العقوبات الدولية، غير أن الحسابات السياسية دفعت نحو تأجيلها إلى أجل ينتظر أن يحدده البرلمان، أملا في تسوية ما سمته مفاعيل “القوة القاهرة”، غير أن ما يدور على الأرض لا يشير إلى إمكانية حلحلة المعضلات الكبيرة التي حالت دون تنظيم الانتخابات وسط تراكم للأزمات في دولة مدججة بالمليشيا والمرتزقة والسلاح.

تحليل / أبو بكر عبدالله

لم يكن قرار مفوضية الانتخابات الليبية بتأجيل الانتخابات الرئاسية مفاجئا بقدر ما كان المفاجئ مواقفها ومعها القوى والتيارات السياسية المتصارعة التي التزمت الصمت حيال تحديات العملية الانتخابية، بصورة أشاعت انطباعا أن الهدف كان فقط كبح عجلة الانتخابات وليس العمل على تسوية سريعة للملعب يمنح الليبيين التوجه إلى انتخابات في الموعد الجديد.
وقرار التأجيل لم يمثل صدمة للشعب الليبي وحسب بل للعرب والعالم المترقب لهذه الانتخابات بعد أن حشد المجتمع الدولي كل قواه من أجل تنظيم الانتخابات التي استطاعت نخب سياسية لا يتجاوز تعدادها المئات فرض التأجيل على أكثر مليوني ونصف ليبي تسلموا بطاقاتهم الانتخابية استعدادا للمشاركة في هذا الاستحقاق.
هذا الموقف بدا واضحا في البيان المشترك الذي أصدرته الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والذي طالب بتحديد موعد جديد وملزم للانتخابات الرئاسية والبرلمانية الليبية ودعوته إلى احترام تطلعات الشعب وإصدار القوائم النهائية للمترشحين دون تأخير، فضلا عن التأكيد على استعدادها معاقبة من يهددون الاستقرار أو يقوضون العملية السياسية والانتخابية في ليبيا.
وحتى المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز، بدت محبطة تماما من هذا القرار معتبرة أن حصول 2.5 مليون ليبي على بطاقاتهم الانتخابية يبعث برسالة قوية مفادها أن الشعب الليبي يتوق إلى التغيير والديمقراطية، وتأكيدها أن الانتخابات الليبية هي السبيل الوحيد والأمثل لتحقيق التداول السلمي للسلطة وتحقيق تطلعات الليبيين نحو دولة ديمقراطية آمنة ومستقرة.
كان يمكن لليبيين أن يحصدوا ثمارا مهمة في حال مضوا بالانتخابات رغم العراقيل التي كانت ولا تزال قائمة، وليس أقلها تعزيز الثقة لدى الليبيين بتوحيد المؤسسات الليبية المنقسمة وخضوع جميع الأطراف لمعادلات التنافس الديموقراطي وأكثر من ذلك توفير تفويض وطني للمؤسسات المنتخبة لقطع شوط في تسوية أكثر النزاعات المعقدة في ليبيا، أو على أقل تقدير تحديث المؤسسات التي أنتجها اتفاق جنيف بوجوه جديدة يمكنها إحراز تقدم في المشكلات التي تواجهها الدولة الليبية عوضا عن الحالة الضبابية والانسداد الحاصل اليوم.
ورغم تشدد المجتمع الدولي في فرض عقوبات على معرقلي الانتخابات الليبية، إلا أن هذه الورقة بقيت جامدة دون حراك، فالمعرقل الحقيقي لم يكن شخصيات ليبية في الداخل والخارج، بل كان القواعد الدستورية والقانونية الناظمة للعملية الانتخابية، والتسييس الذي هيمن على خطوة إعلان القوائم النهائية للمرشحين، وهي الإشكالات التي جعلت من المستحيل تنظيم الانتخابات في 24 ديسمبر وفقا لمقررات مؤتمر باريس سيما بعد إعلان مفوضية الانتخابات ألا مشكلة فنية أمام المفوضية تحول دون إجراء الانتخابات في موعدها.
لكن اقتراح المفوضية الوطنية للانتخابات الليبية الموعد الجديد للانتخابات (24 يناير المقبل)، بدا متسرعا واستهدف فقط إلقاء الكرة إلى ملعب البرلمان الليبي الذي يفترض عليه بموجب القانون تحديد الموعد الجديد للانتخابات، وهي الخطوة التي تثير الكثير من الأسئلة عن مدى قدرة البرلمان على إنجاز الاستحقاقات الكبيرة التي تم بموجبها تأجيل الانتخابات، ومدى قدرة المفوضية على تجاوز العقبات السياسية التي أفضت إلى التأجيل.
وهذه الاستحقاقات على صلة بالقواعد الدستورية والقانونية التي تحتاج إلى تعديلات وعملية استفتاء، وعلى صلة أيضا بالتوافقات السياسية الصعبة حول القوائم النهائية للمرشحين ما يجعل من فترة الشهر المقترحة للتأجيل غير كافية لإنجازها، وإن تمت فلن تكون سوى تأسيس لعملية تأجيل ثانية.
معضلة القواعد الدستورية
رغم انتهاء الليبيين من إجراءات إقرار الدستور الليبي بأغلبية الثلثين عبر الهيئة التأسيسية للدستور في يوليو 2017، سارعت الأطراف السياسية المسيطرة على مقاليد الحكم في طرابلس الغرب، لإجهاض العمل به وطالبوا بإخضاعه للاستفتاء العام وفقا لما نص عليه الإعلان الدستوري المؤقت، في مطالب لم تكن بريئة تماما، حيث أملوا أن تقود هذه الخطوة إلى تأجيل الانتخابات التي يتوقع أن تزيحهم عن المشهد السياسي شأنهم في ذلك شأن العديد من الأطراف والقوى المستفيدة من بقاء وضع الانقسام والفوضى والصراع في ليبيا.
ورغم أحقية الدعوات بضرورة الاستفتاء على مسودة الدستور أولا ليكون قاعدة يقف عليها أي عمل سياسي، إلا أن الأطراف الليبية التي ضغطت باتجاه تأجيل الانتخابات لم تقدم تصورا حتى اليوم حول خطة الاستفتاء على الدستور، فكل ما عزز من القناعات بأن ما كان يعنيها فقط هو استخدام الاستفتاء ورقة لتأجيل الانتخابات.
والموقف من مسودة الدستور لم يختلف لدى التيارات السياسية التي تمثل معسكر الشرق والأقليات الثقافية مثل الأمازيغ والتبو التي أعلنت رفضه جملةً وتفصيلا، على خلفية ما تصفه بالمصالح السياسية والاقتصادية والحقوقية للأقليات وغياب التوافق حول المشروع المنجز.
وزاد الأمر تعقيدا بتقديم بعض أعضاء الهيئة التأسيسية – التي أقرت مسودة الدستور بأغلبية 43 صوتا من أصل 57 – طعونا في مشروعية التصويت على مسودة الدستور كون التصويت تم في يوم عطلة رسمية وهو ما أخذ به القضاء الليبي الذي حكم ببطلان قرار إحالة المسودة إلى مجلس النواب، ما عرقل المصادقة عليه من البرلمان.
ومن غير المرجح ما إن كانت الأطراف الليبية مستعدة للاستفتاء على الدستور في الوقت الراهن إذ أن نتيجته ستعنى العودة إلى المربع الأول في ظل انقسام كبير بين القوى السياسية، كما يصعب طرح المشروع الجاهز للاستفتاء قبل الانتخابات المقررة في 24 يناير، فالفترة الزمنية القصيرة حتى لو تم تمديدها لن تكفي لإنجاز هذه الاستحقاقات، مع تعليق البرلمان إجراءات إصدار قانون الاستفتاء العام.
وفقا لذلك فإن المتاح هو العودة إلى مقترح ملتقى الحوار بتعديل الإعلان الدستوري وإضافة مواد انتقالية تجرى على أساسها الانتخابات، وتأجيل الاستفتاء على الدستور إلى ما بعد الانتخابات، وهو المقترح الذي تبناه المبعوث الأممي المستقيل إلى ليبيا بان كوفيتش العام الماضي ولم يحظ بموافقة الأطراف الليبية حينها.
وأكثر نقاط الخلاف حول مسودة الدستور الليبي مرتبطة بطبيعة الصراع السياسي، وهي تتركز حول طريقة انتخاب رئيس الدولة، إذ تؤيد الأطراف السياسية المسيطرة على غرب ليبيا انتخاب الرئيس بطريقة مباشرة، وفقا للنظام الرئاسي، باعتبار أن أكثر من نصف السكان يقطنون في إقليم الغرب، في حين تؤيد الأطراف السياسية المسيطرة على الشرق الليبي انتخاب الرئيس عبر البرلمان وفقا للنظام البرلماني لضمان فرصهم في الفوز وتقليص صلاحيات الرئيس، خصوصا وأن سكان الإقليم الشرقي (برقة) لا يتجاوز عددهم ثلث السكان، بينما يقطن حوالي 10% من السكان في إقليم الجنوب.
ويضاف إلى ذلك رفض الأقليات الثقافية الليبية مشروع الدستور خصوصا أقلية الأمازيغ التي تطالب بأن تكون اللغة الأمازيغية رسمية في الدستور وضمان حمايتها والإنفاق على إنشاء مراكز بحثية خاصة بها لتطويرها.
والحال كذلك مع قومية التبو التي تطالب بأن تكون ليبيا بلدا متعدد القوميات، بينما تطالب أقلية الطوارق بالتوافق والابتعاد عن منطق المغالبة، لإبعاد شبح الفوضى والتقسيم وقطع الطريق أمام القوى التي تتربص بوحدة وأمن واستقرار ليبيا.
قوانين الانتخابات
مشاكل القانون الانتخابي تتعدد في قانون الانتخابات البرلمانية وكذلك قانون الانتخابات الرئاسية والتي بقيت خلال الفترة الماضية موضع جدل وتجاذبات سياسية عميقة لا تبشر بإمكان تنظيم الانتخابات الليبية في موعدها الجديد.
فقانون الانتخابات البرلمانية وضع على أساس تنظيم الانتخابات في 24 ديسمبر الماضي، لانتخاب 200 عضو بطريقة الانتخاب الحر المباشر، وفق النظام الفردي، بعدما أغلق الطريق أمام مشاركة الأحزاب في نظام القوائم، كما خصص 16 من مقاعده للكوتا النسائية.
وأكثر نقاط الخلاف على قانون الانتخابات البرلمانية مرتبطة بمحاولة كل طرف من الأطراف المسيطرة على الأرض في شرق ليبيا وغربها، وتفصيله بالطريقة التي تضمن بقاءه في السلطة.
وقد أثارت المادة 12 من قانون الانتخابات الرئاسية الكثير من اللغط، إذا أشارت إلى إمكان ترشح مسؤول عسكري إذا توقف عن العمل و”ممارسة مهامه قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر، وإذا لم يُنتخب فإنه يعود إلى عمله السابق” حيث اعتبر المنتقدون أن هذه المادة صيغت لتلائم المشير خليفة حفتر، الرجل القوي في شرق ليبيا.
وبالإضافة إلى ذلك فإن القوانين الليبية تمنح جميع الأطراف المشاركة في الانتخابات بمن فيهم رموز النظام السابق، في الوقت الذي ترفض فيه أطراف سياسية كبيرة مشاركة هؤلاء خصوصا بعد تقديم سيف الإسلام القذافي أوراق ترشيحه للانتخابات الرئاسية وحصوله على أمر قضائي بالعودة إلى السباق الانتخابي.
ومن جانب آخر تحظر القوانين الانتخابية على المترشحين من حاملي الجنسية غير الليبية الترشح للانتخابات، في حين أن أكثر المرشحين فرصا للفوز يحملون جنسيات أجنبية مثل المشير خليفة حفتر ورئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة الذي يواجه إشكاليات أخرى بتقديم ترشيحه دون الاستقالة من منصبه قبل ثلاثة أشهر من موعد الانتخابات وفقا لما ينص عليه القانون.
القائمة النهائية للمرشحين
أسفر تفاعل الليبيين مع أول انتخابات رئاسية عن أكبر قائمة مرشحين في التاريخ السياسي الحديث بحوالي 4 آلاف مرشح للانتخابات البرلمانية ونحو 74 مرشحا للانتخابات الرئاسية، بعد أن أعاد القضاء الليبي كلا من المشير المتقاعد خليفة حفتر، وسيف الإسلام القذافي إلى حلبة السباق الرئاسي.
لكن القائمة النهائية للمرشحين – التي رفضت المفوضية الوطنية للانتخابات إعلانها – ظلت تمثل المعضلة الأكبر التي قادت إلى تأجيل الانتخابات في موعدها السابق يوم 24 ديسمبر الماضي، خصوصا أنها احتوت على أهم الأسماء التي تحظى بفرص كبيرة للفوز في الانتخابات الرئاسية، في الوقت الذي يتبنى فيه الليبيون لا سيما من التيارات المنخرطة في ثورة ديسمبر توجهات علنيه برفض ترشحهم بل وإقصائهم كليا من العملية السياسية.
يشار في ذلك إلى سيف الإسلام القذافي نجل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي أقصته المفوضية الوطنية للانتخابات من السباق الرئاسي مبكرا واستطاع الحصول على حكم قضائي بالعودة إلى السباق الرئاسي حتى بعد محاولات المعارضين إغلاق المحاكم، ما مثل فشلا كبيرا للمحاولات السياسية الساعية لإبعاده من العملية الانتخابية.
ومحاولات إزاحة سيف الإسلام القذافي من حلبة التنافس الرئاسي لم تكن هدفا لقوى محلية وحسب بل كانت هدفا للقوى الخارجية المؤثرة في المشهد الليبي، فإقصاء القذافي من الانتخابات كان في الواقع إقصاء لروسيا من المشهد الليبي خصوصا إنها حاولت الحفاظ على وجودها من خلال دعم ترشح سيف القذافي كرجل جديد يحفظ مصالحها على خطى والده بعد أن تحول حفتر إلى شخصية تتجاذبها قوى دولية عدة، ناهيك عن أن ترشحه مع فرص فوزه الكبيرة كان سيشكل حرجا كبيرا للغرب الذي عمل كل ما بوسعه للإطاحة بوالده بالقوة في العام 2011م.
ومن جانب آخر فقد واجهت المفوضية الوطنية للانتخابات في الفترة الماضية ضغوطا كبيرة بشأن القوائم النهائية للمرشحين، خصوصا مع تعارض مقررات مؤتمري برلين وباريس مع نصوص قانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إذ أن تحديد موعد الانتخابات في مؤتمر باريس تم دون الأرضيات الدستورية والقانونية التي كان يفترض إنجازها أولا كما تم إقراره دون إعطاء الفرصة للمترشحين لتلبية الاشتراطات القانونية للترشح.
ويمكن القول، إن مفوضية الانتخابات الليبية استطاعت هذه المرة الفكاك من الضغوط القانونية والسياسية برميها الكرة إلى ملعب البرلمان، إلا أن هذه الخطوة لن تجعلها بعيدة عن الضغوط في المرحلة القادمة.
وأكثر ما تحتاجه للمضي بالعملية الانتخابية هو أن تمارس عملها بمهنية وتنأى بنفسها عن أن تكون طرفا سياسيا، من خلال العمل على تطبيق القوانين في أي قرارات قادمة والاستجابة لأي توافقات داخلية ممكنة، بعيدا عن سطوة الضغوط الداخلية والخارجية، وذلك لا شك سيكون أفضل الخيارات التي يمكن من خلالها أن تترجم تطلعات الليبيين في الاستقرار وتجنيب ليبيا دوامة جديدة من الانقسام والحروب والفوضى.

قد يعجبك ايضا