قراءة مُتأنيةً لمقال الدكتور عبدالعزيز بن حبتور:العبر والدروس من حديث م/ حيدر العطاس …
جمال عبدالمجيد الجوهري
على غير العادة وفي سبقٍ ليس معهوداً في فنيات كتابة المقالات السياسية، يفاجئنا الكاتب بعنوان مقالة سياسية وازنة، بل لعلها اشتباك مباشر بين جملة من (القضايا والأحداث) التي تناولها بروح حداثية تجديدية، دشَنها بعنوانٍ رصينٍ جعله مقدمةً لهذة المقالة، والتي بعدها نراه مباشرةً يلجُ (متن المقال) متجاوزاً منهجية التراتُبية التقليدية في كتابة المقالات، محطماً لروتينٍ رتيبٍ لرُبما سئم القارئ من مطالعته كطقس ممل من طقوس الكتابة للمقالات على تنوعها، وتلك جُرأة تنمّ عن ثقة أصبح يتوافر عليها بعد مسيرة معتبرة في كتابة المقالات السياسية.
جميل جداً كسر رتابة الروتين من جهته، لذلك دعونا نقتفي أثره في قراءتنا وتعقيبنا على هذه المقالة، المثيرة كاشتباكٍ جدلي كما خطط لها الكاتب أن تكون حسبما نظن، وقديماً قال العرب (إن الكتاب يُفهم من عنوانه).
أولاً:
نجد أن الكاتب هنا قد باشر في تعريف محور أو عقدة المقال بـ ( ١٣ يناير الحدث) ككارثة الكوارث المأساوية، وتأصيلاً لهذا الحُكم العام نراه قد ذهب يُعدد نتائجها وتبعات تداعياتها التي استعرضها بكل حصافةٍ، بل بكثيرٍ من رشاقة قلم انتقى مفردات التوصيف لمجموع تلك النتائج، غير مُوغلٍ في الجلد أو مُتحيزاً لجهةٍ ما بهدف الانتقام، و دليل صدق قولنا أننا وجدنا الكاتب سائراً نحو المزيد من التفنيد لماهية المأساة كونها حدث وقع في مسيرة التجربة الوطنية، مُقللاً من ضخامته موضحاً أنه فقط قمة جبل الجليد، على عكس توصيف العديد ممن تناول كارثة ١٣/ يناير في كتاباتهم حيث قالوا إنها القاصمة والساحقة الماحقة، فالكاتب يرى ببصيرةٍ نافدة أن المهم هو كامل جبل الجليد المغمور تحت سطح الماء الذي يطفو عليه كل موجودات الوطن، والذي هو سبب بلاوي الماضي والحاضر والمستقبل كذلك، وهو المعني بغوص أفذاذ الوطن المتحررين من أي ارتباطاتٍ تُعيق حيادية نتائج غوصهم الباحث عن مكنونات جبل الجليد ذلك الذي قصده، بهدف معالجة تلك المكنونات بضميرٍ وحكمة مُستندة على معرفة كاملة بظروف وملابسات تكوينها التراكمي .
وزيادة من إبداء حسن النوايا وجدنا الكاتب يُمعن بتقديم تأصيلٍ تاريخيٍ لرُبما للبدايات الأولى في بنية الخلاف الذي يصفه كنزق مطامعٍ للبقاء على كراسي السُلطة بين عددٍ من عناصرها، والتي ظهرت بعد استلام الجبهة القومية اعتبارا من نتائج (المؤتمر الرابع للجبهة القومية) المنعقد خلال الفترة من 2ــ 6 مارس عام ١٩٦8م، مستغربا كيف لم يستوعب نفرٌ مِمَن يُسمون ذواتهم بالمثقفين، بأن الأمر لم يكن إلا عبارة عن مسألة توقيتٍ زمني لا غير مؤكداً أنه قضية حتمية بل هو شأن تسلسلي زمني في توقيت الوقوع .
ثانياً:
حيث نرى الكاتب قد مضى في استغرابه ساخراً من أولئك المثقفين من حملة الشهادات العُليا، وما يتم تكريسه في كتاباتهم السياسية والتي لا تختلف عن الكتابات السطحية التي يُسطرها مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي من محدودي الثقافة (العوام)، من خلال مفردات شعبوية مثل (الصف الجنوبي_القضية الجنوبية _ الشعب الجنوبي العربي)، في الوقت الذي كان يُفترض بهم تقديم رأيٍ تنويري لكافة فئات المجتمع لتحصينهم من مآلات انزلاقٍ في المجهول.
ثالثاً:
أما في هذا المحور فقد لاحظنا أن الكاتب قد اهتم بتقديم تحليل يعرض من خلاله شرحاً تفكيكياً يفسر نشوء (العقدة الكارثة) وجذر الإشكالية، وفي هذة الفقرة لا نملك سوى رفع القبعات له احتراماً وتقديراً لإجادة (التنشين) التصويب في قلب الهدف والذي أسماه(استسهال الوصول للسُلطة) عن طريق (بوابة الدم)، إشباعا لشهوة السُلطة وهوس الجلوس على كراسي الحكم، حيث قاد هذا النهج نفر من قيادتي الصف الأول و الثاني وهم المؤسسون للجبهة القومية الذين استرخصوا (دماء وأرواح رفاقهم) المهدورة كمُمهدٍ لطريق اعتلاء كراسي السُلطة، ابتداءً من اغتيالهم (لرئيس الوزراء والسجن المؤبد لرئيس الجمهورية) بعد عامٍ ونصف من يوم الاستقلال، كما استرسل الكاتب بكثير من الحماسة في توضيح تتالي التصفيات والجرائم مستعرضا على عجل أسماء كوكبة من المغدور بهم من الرفاق على أيدي رفاقهم، (لكنه لم يقُل مُلمحاً حتى بشهادة حق تفيد بأن “الزبالة تخلصت من الصفوة” في إطار الجبهة القومية)، لكنه أشار إلى أنهم فقط تكرموا عليهم بتسميتهم شهداء تخفيفا للضغينة في قلوب أبنائهم وأقاربهم.
رابعاً :
أما في المحور الرابع فالكاتب في هذا المحور أراه قد ارتقى مرتقى وجدانٍ عسرٍ يصعُب مجاراته فيه، حيث نجده هنا وقد ذهب يخاطب الوجدان والضمير من خلال عددٍ من التساؤلات الواقعية، حول ما ذهب إليه الرفاق من إيغالٍ في السفك للدماء كما هو الإزهاق للأرواح البريئة، تهديماً لأركان بُنيان المجتمع البشري وأعمدته الحاملة لأُسُس بنيته الروحية/المادية، في ظل جهالة فهم لنهج تطبيق مبادئ بناء الاشتراكية الذي يتوهمون أنهم يشيَدون أركانها، لا أعتقد أن نهجهم ذلك يتلخص فقط في خطأ استيعاب واحد من أهم أُسُس بناء الاشتراكية والذي مضمونه (تحطيم جهاز الدولة القديم)، لذلك فقد رأى الكاتب بعين البصيرة حجم الغلو ليس في تحطيم جهاز الدولة، بل إنهم قد ذهبوا لهدم أركان بُنية المجتمع واجتثاث أعمدته الحاملة للفكر والتنوير بل وقيمه الإنسانية وتقاليده وإرثه الحضاري وعلومه العقديّة وتصوفه الروحاني، فغدا المجتمع خواءً لا روح فيه سوى طنطناتٍ لشعارات الرعب مثل (انتفاضة ورأس الفأس يقطر بدم) أو (سحقاً للكهنوت والأفكار الغيبية، ثورتنا ثورة اشتراكية)، *وهنا لم يُشر الكاتب إلى أن الرفاق هم الآباء الأوائل (لنهج جئناكم بالذبح الداعشي)* …
خامساً :-
نرى الكاتب يمارس الرقص الرشيق على رؤوس مواضيع الكارثة وجوانبها المؤسسة لكينونتها البُنيوية، بدليل أن الكاتب ذهب لتقديم كشوفات جردٍ لخزين حصاد سنوات البؤس، لربما اعتمادا على خلفيته الأكاديمية التي تفترض البناء على موجودات مادية ملموسة تشهد على سلوك اجرامي تم ممارسته أو ضحايا أحياء أو متوفين لهم أولياء دم، أو لقوانينٍ تعسُفيةٍ أضرت بفئات المجتمع لذلك نراه قد ذهب لاستحضارها من عُمق تاريخ ولادة (الكارثة) ليقدمها كأدلة غير قابلة للدحض كونها تشتمل على الأسباب التالية:
أولها: وجود الضحايا أحياء.
ثانيها: وجود شهود عيان،
ثالثها: وجود مرتكبي الجرم أحياء،
رابعها: بقاء بعض نصوص القوانين لازال معمول بها،
لكنني أرى أنه لابد من عودةٍ سريعةٍ إلى ما استهل به الكاتب تناوله للمحور الخامس، وذلك للوقوف على الدلالات التي حرص الكاتب على إبلاغها للقارئ وهي:
أولاً: القول المأثور أو المثل الشهير (المال شقيق الروح)،
ثانياً: تاريخية الحوار الآتية من شخص الرجل (العطاس) ومكانته كـ (ابن لعائلة هاشمية كريمة) تحوز الحب من مجتمعها، وكذلك مكانته المجتمعية كرجل دولة وازن وشخصية غير خلافية ولا يحب الظهور أو كثرة الكلام والتصريحات، وهذا ما أثار جدلاً حزبياً واجتماعياً كبيراً وجعل (الأخوة الأعداء) من المتبقين يجُنُون و تتلبسّهم حالة من (جنون البقر) وهستيريا فقدان البصيرة والبصر، بإطلاق السب والشتائم و سيل الإفك بالتهم والتهديد بالمحاكمات وغيرها من ردات الفعل الصبياني الأهوج في المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي …
كما لاحظنا استرسال الكاتب في تساؤلٍ تم توجيهه للباقين من أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية، ومعهم جوقة المطبلين و(كُتاب الدفع المسبق) مستفسراً منهم لماذا لا يتذكرون ما ارتكبوه من جُرمٍ سياسي/جنائي مكتمل الأركان، المتمثل بنهب الناس ممتلكاتهم وأراضيهم وعقاراتهم هي حصيلة جهد افنوا حياتهم في تجميعه، من خلال انتفاضات دفع بالرعاع للقيام بها تحت مسمى (المعدمين والكادحين) تمت خلالها الكثير من عمليات السحل والقتل بالفؤوس، طبعاً الهدف كان الإرهاب والترويع للمستهدفين المحتملين ومعهم (الأغلبية الصامتة) كيما يضمنون صمتهم و خرسهم نهائياً وإلى أبد الآبدين، *(ملحوظة فاتت الكاتب) وهي أن الرئيس قحطان الشعبي يرحمه الله قد قام بإجراء (إصلاحٍ زراعي) أسموه قانون تحديد الملكية لحيازة الأراضي الزراعية (إنهاء الإقطاع)، تم ذلك بهدوء وأريحية وسلام مجتمعي لأنه كان منصفاً إلى حدٍ ما حيث تم تطبيقه على الأُسر الحاكمة من سلاطينٍ وأُمراء ممن يملكون أراضٍ شاسعة فقط* …
وبالعودة لبقية المحور الخامس فالكاتب قد استتبع الانتفاضات بالإشارة إلى (قانون التأميم) *الذي انتزع العمارة من مالكها تاركاً له شقةً لسكنه الشخصي وأخذوا البقية*، الذي قال الكاتب إنه تم سنُّه في (الغرف المظلمة) *لكنني اختلف معه في تسميتها حيث أنها (صومعة شيطانية) حددت فيها مصارع (علية القوم)، واستبدالهم بطبقة حزبية تتبعها مراكز قوى متنفذة خريجة مدارس (محو الأمية) تمتعوا بالحظوة والامتيازات* ….
واختتم الكاتب هذا المحور بقفلة (من باب الشيش)، متسائلا كذلك (ألم يتذكر هؤلاء الرفاق) ليس اتهاما لهم بالزهايمر ولكن *(بالغلف على قلوبهم)*، كيف نسوا ضنك معيشة الشعب و*بحثه في طوابير عن البصل والبطاطس وانعدام مكانس القمامة في السبعينيات*، وصولا إلى نهاية الثمانينيات والتي شهدت الشحة في كل شيء بسبب خلو خزينة الدولة من العملة الصعبة والإفلاس النقدي وتراكم المديونية، فلم يكن هناك بد من الهروب إلى(سوق الملح) الاسم الأثير على قلوبهم عند النكاية بالوحدة بعد ان انهارت المنظومة الاشتراكية، *طبعاً ذلك أمر لا يحتاج إلى رسوخ في العلم لفهمه لكن الله يزيدهم في طغيانهم يعمهون كم هو الأمر واضح* ….
سادساً:
استهل الكاتب بذكاءٍ محور المقال الأخير، منتقياً مفرداتٍ تؤشر إلى النضج في استعراض الحجج لكليهما (الكاتب و العطاس) ليُبرهن على أن العطاس استغرقه قرار الخوض في الحديث عن الكارثة 35 عاماً، لذلك يُفترض بحُكماء الوطن جنوبه وشماله استيعاب وفهم (عبر ودروس) المآلات من الحدث والحديث، كيما يتم تجنيب وطننا المزيد من الكوارث والنكبات حد قول الكاتب، الذي استرسل موضحاً أن الاهتمام الواسع بحوار العطاس مرده تاريخه السياسي كرجل دولة وكذلك انتماءه لبيتٍ هاشمي محترم في بيئته الاجتماعية، كما أعلن الكاتب عن استغرابه لماذا لم يقم ذلك الجمع من المختلفين مع الرجل أو حتى بعضاً من المهتمين بالشأن العام بطرح (السؤال الأوجه) والقادم من فجر التأسيس للدولة الجنوبية الديمقراطية بحسب تساؤل الكاتب، لأن ذلك السؤال سيجُر خلفه سلسلةً من الأسئلة التي لا حصر لها، برغم مرارتها وقساوة وقعها في نفوس الضحايا وأولياء الدم، لكنها تستوجب إجابات حاسمة وتلك الأسئلة التي تأتي على شاكلة من قتل أمين الجبهة القومية الرفيق/فيصل عبداللطيف الشعبي أول رئيس وزراء للجنوب .؟، ومن أمر بسجن رئيس الجمهورية /قحطان الشعبي ليموت حسرةً في بيته .؟، ثم من أمر باغتيال /محمد علي هيثم ثاني رئيس للوزراء بالجنوب.؟ … وهكذا من كان وراء الاغتيال الجماعي للدبلوماسيين مع وزير الخارجية.؟ …. مروراً بالرفيق / سالمين ثاني رئيس للجنوب و من قتله .؟… وهكذا استمر الكاتب بذلك مُستعرضاً أبرز الضحايا في دورات الدم ومحطات الذبح بالجملة والمفرق، حيث ذهب في عرضها كأدلة وحُجج كما أسلفنا موضحاً حجم صعوبة ذكر كافة الشهداء من الضحايا الأبرياء للرفاق، *لأن ذلك الأمر يحتاج لهيئة وطنية مُحايدة لتُخرج لنا بمجلدات إن هي حرصت على توثيق كل جرائمهم*، إلى أن بلغ الكاتب إلى استخلاص مفاده أن اغتيال الرفيق المثقف الأنيق/عبدالفتاح اسماعيل مؤسس الحزب الاشتراكي اليمني، ليس سوى اجراء لم يشذ عن سياق تقديم القرابين الثمينة وفق تسلسل زمن الذبح تحمله (مصفوفة أسماء المرشحين لتصفيةٍ مُزمنة) بهدف نجاح الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية (متندراً بسُخرية)، ومقدما دعوة للاستفادة من عدم تكرار كل ذلك القتل والترويع بالانتقال إلى ضفاف السلام ومرافئ الأمن والوئام بحلٍ نهائي سلمي وبرؤيةٍ تسامُحية في يمنٍ موحدٍ بالسعادة والأخوة …
الخلاصة:ــ
في الخُلاصة نجد الكاتب يواصل في مخاطبة العقل من خلال طرح العديد من الأسئلة على جميع من في الوطن من قادة و أتباع حزبيين ومثقفين مُستقلين مِمَن حضروا كافة تلك (التجربة) الكارثية، مُشاركين في تلك الأخطاء أو حتى مُتفرجين عليها فقط قائلاً لهم (هل تعلمنا من تلك الأخطاء) التي تجرع مرارتها شعب الجنوب، مستمراً في التساؤل أم أنكم لا تزالون تعتقدون أنها تجربة اشتراكية نموذجية في الوطن العربي أطاح بها شيء من تعثر موضوعي …؟؟؟
كما نراه يختتم المقال مُحذراً من خطورة التجييش للبُسطاء و العوام (للمُطالبة بالانفصال) حيث أن ذلك عبارة عن تكرارٍ سيء ومُعيبٍ لتجربة فاشلة عاشها الوطن، *ولم يقم بتذكيرهم (بتجييش السبعينيات ) الذي دفع المواطنين بالهُتاف (تخفيض الرواتب واجب إحراق الشواذر واجب)، وما جره ذلك من هدم القيَم وإفقار الشعب*، مُسترسلاً بالتوضيح قائلاً إنه مهما حاول البعض ممن يعتقدون ذواتهم مثقفين تزيين وتصويرها كفردوس (للفقراء والكادحين) زوراً وبُهتاناً، لكن الحقيقة هي أن الجميع كانوا متساوين بالفاقة والفقر مطحونين بالبؤس وشظف العيش .
ذلك هو مبلغ إحاطتنا بالمقال …