(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ)، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَ?لِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).. ان الاحتفال بالمباهج والسعادات والأفراح والمسرات فطرة في الإنسان والاحتفال إشهار وتذكير واستحضار وتثبيت للفؤاد وتجديد للعهد والموالاة، ولذلك فإن ذكرى المولد النبوي تجدد الشعور وتجدد الفرح بالمناسبة المتمثلة في ذكرى ميلاد منقذ البشرية، والرحمة المهداة للعالمين، وإن من فقه المناسبات أن نجعلها محطات تزودنا بالعبرة والمعرفة والاستفادة من واقعها .. والاحتفال بسيد الكونين وإمام الثقلين فطرة لدى القلب السليم الذي يعرف أنه يحتفل بميلاد من يستحق الاحتفال لذاته ولعطائه وفضله وبما جاء به، فيتذكر كل رحمة حلت عليه فيعلم أنها بواسطته وبسببه وبه صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون على وجه الخصوص يعلمون أن الاحتفال والفرح بمن دلهم على الله وبمن أخرجهم من الظلمات التي كانوا يعيشونها إلى النور إنما هي بسبب هذا النبي الكريم الذي حررهم من العبودية والذل والاسترقاق، هذا هو النبي الذي وحَّدَهم وجعلهم أمة عظيمة قوية، تمتد من غرب الصين إلى غرب أفريقيا، هو النبي الكامل صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
إن القلوب العامرة بالمعرفة، ولو ببعض الحب وبعض المعرفة بالنبي، لهي التي ستحتفل بكل وسيلة تظهر التبجيل والإعظام والاحتفال .. أما المتنطعون الذين يرون البدعة فقط في تعظيم سيدنا محمد، فهم الذين ابتعدوا عن فهم قوله تعالى :(وتعزروه وتوقروه)، وقوله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) .. هؤلاء الذين لم نسمع منهم دعوى البدعة في تولي اليهود والنصارى، وسباق حكامهم لعقد اتفاقات السلام معهم على حساب الانخلاع من الدين بالكلية، وعلى حساب القضايا العربية والإسلامية.. ولم نرهم يملأون مسامعنا بحديث (كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) في مسألة قصف وقتل وحصار بني جنسهم ودينهم، لم نسمعهم ينكرون إغلاق المساجد وتعطيل الصلوات، لم نشاهدهم أو نسمعهم ينهون عن الاحتفال بتأسيس حزب أو تسييس دين.
اليوم، عاد لليمانيين النور، واستفاقوا من غفلتهم، وتكميمهم بقيود التبديع والتشريك بغير حق، عادوا إلى دائرة الحكمة والإيمان، وجددوا العهد لرسول الله فرحاً به وتسليماً له ..
فيا محب رسول الله احتفل وافرح واظهر سرورك، والبس الأخضر، وأطعم الطعام وتصدق، وزيِّن دارك وسيارتك وأبناءَك، وانشد في ذكره ووصفه والصلاةِ عليه بكل لسان ونغم ولحن، وارفع ذلك عالياً لأنه مأذون لك (ورفعنا لك ذكرك) فإنك، بذلك تنفذ أمر الله ومراد الله وتطيع الله وتتقرب إليه .. وإن لك في النبي الكريم أسوة حسنة، فهو صلى الله عليه وآله احتفل بميلاده، ليس كل عام فقط، بل في كل يوم إثنين ، ( ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم روي أنه يكثر صيام يوم الإثنين، فقال: ذلك يوم ولدتُ فيه ) .. فالحكم يدور مع العلة .. ومن ذلك ما ورد عن أبي بريدة الأسلمي الصحابي أن رسول الله صلى عليه وعلى آله وسلم عاد من بعض مغازٍ له فجاءته جارية تحمل دفا تستأذن أن تضرب بالدف، وقالت : نذرتُ لئن أعادك الله إلينا سالماً أن أضرب على رأسك بالدف فرحاً بعودتك، فقال لها: (أوفي بنذرك)، فضربت بالدف على رأسه الشريف فرحاً بقدومه صلى الله عليه وسلم، رواه ُ الترمذي وابن حبان والبيهقي وغيرهم.
وقد احتفل علماء الأمة بالنبي صلى الله عليه وآله، وبمولده وألفوا الكتب المتخصصة التي تحكي شمائله وصفاته وسيرته، وكانت تتلى على العوام، خصوصاً في ربيع الأنوار، فرحاً بميلاده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومنها :(شمائل البيهقي )، وكتاب الواقدي، و(الشفاء) لابن عياض ..
وأول ما بدأت الاحتفالات بيوم مولد النبي، بما يسمى المولد المذكور المخصوص بالاحتفال والإطعام والإنشاد، على أيدي أواخر عصر العباسيين والفاطميين، وألفت بذلك الموالد والقصائد والمحافل.
ونحن اليمانيون لنا تاريخ في الاحتفال وبالفرح بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتُبَع أسعد الكامل الحميري (اسكن) من قومه في يثرب ..في رحلته المشهورة التي حكم بها العالم القديم للعرب 300عام قبل الهجرة وعمّر بهم يثرب ينتظرون النبي الخاتم، وبنى للنبي صلى الله عليه وسلم دارًا، وترك رسالة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تتناقلها الأجيال، حتى وصلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ..أي استبشار هذا وفرح حتى حقق الله رجاءَه ..!! ووصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يوم دخوله المدينة يوماً مشهوداً بالفرح به، وضربت له الدفوف وتعالت أصوات المستبشرين: (طلع البدرُ علينا من ثنيات الوداع) .. وسكن في دار أبي أيوب الأنصاري، ويقال إنه الدار الذي بناه تبع له، وسلم له رسالة الملك تبع ومنها :-
شهدتُ على أحمد انهُ
رسول من الله باري النسم
فلو مدَ عمري إلى عمره
لكنتُ نصيراً له وابن عم
وجالدتُ بالسيفِ أعداءَهُ
وفرجت عن صدره كل غم
وهكذا بعد الإسلام احتفل الأنصار اليمانيون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعدهم التابعون، وانتشرت وتوسعت الاحتفالات عند دخول آل بيت رسول الله إلى اليمن، فظهر المنشدون في جميع الطوائف والقبائل، يتنافسون بالاحتفال بالنبي في كل حين، خصوصاً في شهر ميلاده، وأخذ طابعاً للدولة في عصر الدولة الرسولية والملك المظفر، ولا تزال إلى يومنا هذا قلوب اليمنيين متعلقة بالاحتفال بالمولد في كل قرى ونواحي وبيوت أهل اليمن شرقاً وغرباً، حتى عصرنا هذا، الذي جمع خلاله السيد العلم/ عبدالملك بدر الدين الحوثي جميع اليمنيين بكل طوائفهم وميولهم إلى الاحتفال الكبير، بشمولية عظيمة، جمعت المحبين تحت راية: (ورفعنا لك ذكرك) .. فأظهر أقوى سبب لوحدة الأمة وانسجامها وارتباطها الوثيق بعضها ببعض، بأقوى سبب، وهو الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، إلا من أبى.
اليمانيون اليوم يدهشون العالم أجمع، وسيباهي الله بهم ملائكته، لتجمعهم في ساحات الاحتفال، في جميع المحافظات .. وسترتفع رايات النصر بمن يرفع رايات وأعلام الفرح برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم… والأيام القادمة ستكون أكثر فرحاً وسروراً وعزاً لليمنيين .
*مفتي محافظة تعز