حفلت المكتبات العربية وكتب التراث العربي بالمؤلفات والدواوين التي تتحدث عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت الأشهر منها الدواوين الخاصة بالمديح النبوي، وكذا عدد من المؤلفات التي جمعت قصائد في مدح صفاته وأخلاقه ونسبه وحياته.
هو محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى العالمين، من أكثر الشخصيات تأثيراً في التاريخ، كيف لا؟.. وهو رسول الإنسانية أرسله الله رحمة للعالمين، يخرجهم من الظلمات إلى النور ويعلمهم العلم والحكمة ويهديهم طريق الهداية والسلام والعلم.
أصبح صلى الله عليه وسلم الشخصية العظيمة والأولى لدى المسلمين، يقتدون به ويسيرون على نهجه، يأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه، فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحي.
تأثر به المفكرون والمبدعون والفلاسفة والمصلحون في كل زمان ومكان، كتبوا سيرته، ومشوا على نهجه وطريقته، وقد نظم فيه الشعراء عبر الأزمان القصائد الكثيرة في مدحه وتبجيله، وأصبحت هذه القصائد تسمى بالمدائح النبوية، واعتبرت فرعاً مستقلاً من فروع الشعر، كما أن لهذا الفرع مصطلحاته الخاصة، واستعاراته الفريدة، وقد برز هذا المذهب الشعري، مع فجر الإسلام وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته، وكان من أوائل من نظم الشعر ممجداً الإسلام وهاجياً أعداءه شاعر النبي حسان بن ثابت والذي رثاه بقصيدة بديعة ومعروفة.
سنتطرق في الأسطر التالية إلى بعض أشهر الدواوين والمؤلفات التي طرقت هذا المجال مساهمة في إحياء فعاليات المولد النبوي الشريف، واستعراض أبرز قصائد المديح النبوي:
مفهوم المديح النبوي
المديح النبوي: هو ذلك الشعر الذي ينصب على مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعداد صفاته الخلقية والخلقية وإظهار الشوق لرؤيته وزيارة قبره والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، مع ذكر معجزاته المادية والمعنوية ونظم سيرته شعرا والإشادة بغزواته وصفاته المثلى والصلاة عليه تقديرا وتعظيما.
ويظهر الشاعر المادح في هذا النوع من الشعر الديني تقصيره في أداء واجباته الدينية والدنيوية، ويذكر عيوبه وزلاته المشينة وكثرة ذنوبه في الدنيا، مناجيا الله بصدق وخوف مستعطفا إياه طالبا منه التوبة والمغفرة. وينتقل بعد ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طامعا في وساطته وشفاعته يوم القيامة، وغالبا ما يتداخل المديح النبوي مع قصائد التصوف وقصائد المولد النبوي.
وتعرف المدائح النبوية كما يقول الدكتور زكي مبارك بأنها فن: “من فنون الشعر التي أذاعها التصوف، فهي لون من التعبير عن العواطف الدينية، وباب من الأدب الرفيع؛ لأنها لا تصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص”.
ومن المعهود أن هذا المدح النبوي الخالص لا يشبه ذلك المدح الذي كان يسمى بالمدح التكسبي أو مدح التملق الموجه إلى السلاطين والأمراء والوزراء، وإنما هذا المدح خاص بأفضل خلق ألا وهو محمد صلى الله عليه وسلم ويتسم بالصدق والمحبة والوفاء والإخلاص والتضحية والعشق الروحاني.
ظهــور المديح النبوي
ظهر المديح النبوي في المشرق العربي مبكراً مع مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأذيع بعد ذلك مع انطلاق الدعوة الإسلامية وشعر الفتوحات الإسلامية إلى أن ارتبط بالشعر الصوفي مع ابن الفارض والشريف الرضي. ولكن هذا المديح النبوي لم ينتعش ويزدهر ويترك بصماته إلا مع الشعراء المتأخرين وخاصة مع الشاعر البوصيري في القرن السابع الهجري الذي عارضه كثير من الشعراء الذين جايلوه أو جاءوا بعده، ولا ننسى في هذا المضمار الشعراء المغاربة والأندلسيين الذين كان لهم باع كبير في المديح النبوي منذ الدولة المرينية.
وهناك اختلاف بين الباحثين حول نشأة المديح النبوي، فهناك من يقول بأنه إبداع شعري قديم ظهر في المشرق العربي مع الدعوة النبوية والفتوحات الإسلامية مع حسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة.
وهناك من يذهب إلى أن هذا المديح فن مستحدث لم يظهر إلا في القرن السابع الهجري مع البوصيري وابن دقيق العيد.
بردية المديح
من أهم المؤلفات التي تناولت المدائح النبوي والقصائد في مدح ووصف الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو “بردية المديح” لرائد المدائح النبوية -كما يسميه النقاد والأدباء- شرف الدين محمد بن سعيد البويصري رحمه الله تعالى، ويحتوي الكتاب على عشرة فصول وبلغ عدد أبيات القصيدة 160 بيتاً ذكرها “البويصري” في آخر الأبيات الأخيرة من القصيدة:
وهذه بردة المختار قد ختمت
والحمد لله في بدء وفي ختم
أبياتها قد أتت ستين مع مائة
فرج بها كربنا يا واسع الكرم
وتعد قصيدته الشهيرة “الكواكب الدرية في مدح خير البرية” والمعروفة باسم “البردة” من عيون الشعر العربي، ومن أروع قصائد المدائح النبوية، ودرة ديوان شعر المديح في الإسلام، الذي جادت به قرائح الشعراء على مر العصور ومطلعها من أبرع مطالع القصائد العربية.
وقد تم تقسيم الكتاب إلى عشرة فصول، الأول في ذكر عشق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والثاني في منع هوى النفس، والثالث في مدح الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وجاء الفصل الرابع في مولده صلى الله عليه وسلم، والخامس في معجزاته، والسادس في ذكر شرف القرآن، والسابع في ذكر معراجه صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء الفصل الثامن في ذكر جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتاسع في طلب مغفرة من الله وشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفصل العاشر والأخير في المناجاة وعرض الحاجات.
المدائح النبوية
كتاب “المدائح النبوية” من تأليف الدكتور محمود علي مكي وفيه سياحة قام بها المؤلف من عالم المدائح النبوية، التي بدأت في حياة رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، في أوائل القرن السابع الميلادي حتى أمير شعراء العربية في القرن العشرين أحمد شوقي (المتوفى سنة 1932م)، أي على مدى ثلاثة عشر قرناً، ولم تنقطع هذه المدائح بعد أحمد شوقي، بل استمرت بعده وخصص لها بعض شعرائنا المعاصرين دواوين كاملة.
المدائح النبوية حتى نهاية العصر المملوكي
يعتبر كتاب “المدائح النبوية حتى نهاية العصر المملوكي” من أهم الكتب التي أرخت لقصائد المديح النبوي حتى نهاية العصر المملوكي وهو من تأليف الدكتور محمود سالم محمد وقد احتوى على أربعة أبواب.
جاء الباب الأول تحت عنوان “بواعث ازدهار المديح النبوي وانتشاره” وأشار إلى الأسباب التي أدت إلى ذلك ومنها السياسية والاجتماعية والدينية، أما الباب الثاني فقد خصصه لنشأة المديح النبوي وحدوده، وقد تضمن عدة فصول أولها نشأة المديح النبوي في حياة الرسول وفي عصر الخلفاء الراشدين والعصور الإسلامية “الأموي، العباسي، الفاطمي والأيوبي وحتى العصر المملوكي.
أما الباب الثاني فقد خصصه المؤلف لأنواع المديح، وفيه عدة فصول تطرق فيها إلى نشأة المديح النبوي، واستعرض المديح والرثاء في حياة الرسول وفي العصور الإسلامية التي تلت فترة النبوة، وأشار إلى حدود المديح النبوي من الشعر التقليدي ومدح آل البيت والشعر الصوفي والتشوق إلى المقدسات والمولد النبوي.
وتحدث المؤلف في الباب الثالث عن المدحة النبوية حيث استعرض المضمون والمعاني والأسلوب والشكل الشعري وكذا طريقة المدح بالقيم التقليدية وكذا مدحه صلى الله عليه وسلم من خلال (محبته، فضائله، هديه، سيرته معجزاته، وفضائله).
وبينَّ في الباب الرابع آثار المدائح النبوية في المجتمع من الناحية الاجتماعية والارشادية والثقافية من جهة، والأثر التعليمي لها على الشباب والنشء من خلال اظهار صفات الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وتشجيع الشباب على جعله صلى الله عليه وآله وسلم قدوة في الأخلاق والمعاملات.
المدائح النبوية في أدب القرنين السادس والسابع للهجرة
وقد خصص بعض المؤلفين فترات زمنية معينة للكتاب عن أدب المدائح في تلك الفترات ومنها كتاب “المدائح النبوية في أدب القرنين السادس والسابع للهجرة” لمؤلفه ناظم رشيد، وقد صدرت الطبعة الأولى عام 1423هـ، وقد خصص المؤلف الكتاب للحديث عن المدائح النبوية في هذه الفترة وتضمن الكتاب مختارات من المدائح النبوية لأبرز شعراء المديح النبوي خلال تلك الفترة.
وهناك الكثير من المؤلفات التي خصصها الباحثون والأدباء عن المدائح النبوية ومنها العقود اللؤلؤية فى المدائح المحمدية ليوسف بن إسماعيل النبهاني، وقد جمع فيها كما يقول في مقدمة الكتاب كل حسن من القصائد وما تم نظمه في مدح الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وكذا المطالع الشمسية في المدائح النبوية للنواجي، وكذا ديوان “نفائس المنح وعرائس المدح لمؤلفه محمد بن أحمد بن جابر الأندلسي المتوفي في القرن السابع الهجري.
وكذا ديوان الكتاني في المعارف والمدح النبوي للشيخ أبي الفيض محمد بن عبدالكريم الكتاني، والذي قام بجمعه وتحقيقه الدكتور إسماعيل المساوى وقام بجمع على عدة مراحل ويحتوي على آلاف الأبيات في مدح خير البرية صلى الله عليه وسلم.
وهناك الكثير من المؤلفات في المدائح النبوية، ومؤلفات أخرى لشرح عدد من القصائد المشهورة في مدح الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
تطور قصائد المديح النبوي
وتعود أشعار المديح النبوي إلى بداية الدعوة الإسلامية مع قصيدة “طلع البدر علينا”، وقصائد شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة وكعب بن زهير صاحب اللامية المشهورة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبـــول
متيم إثرها لم يفـــد مكبـــول
وقد استحقت هذه القصيدة المدحية المباركة أن تسمى بالبردة النبوية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كسا صاحبها ببردة مطهرة تكريما لكعب بن زهير وتشجيعا للشعر الإسلامي الملتزم الذي ينافح عن الحق وينصر الإسلام وينشر الدين الرباني.
ونستحضر قصائد شعرية أخرى في هذا الباب كقصيدة الدالية للأعشى التي مطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلـــة أرمدا
وعاداك ماعاد السليم المسهدا
ومن أهم قصائد حسان بن ثابت في مدح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عينيته المشهورة في الرد على خطيب قريش عطارد بن حاجب:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
قد بينوا سنة للنـــاس تـــــتبع
ولا ننسى همزيته المشهورة في تصوير بسالة المسلمين ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم والإشادة بالمهاجرين والأنصار والتي مطلعها:
عفت ذات الأصابــــع فالجــواء
إلى عذراء منـــزلها خــــلاء
ومن أهم شعراء المديح النبوي في العصر الأموي الفرزدق ولاسيما في قصيدته الرائعة الميمية التي نوه فيها بآل البيت واستعرض سمو أخلاق النبي الكريم وفضائله الرائعة، ويقول في مطلع القصيدة:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيـت يعرفه والحل والحـرم
وقد ارتبط مدح النبي صلى الله عليه وسلم بمدح أهل البيت وتعداد مناقب بني هاشم وأبناء فاطمة كما وجدنا ذلك عند الفرزدق والشاعر الشيعي الكميت الذي قال في بائيته:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
ولا لعبا مني وذو الشوق يلعب
وتندرج ضمن هذا النوع من المدح تائية الشاعر الشيعي دعبل التي مدح فيها أهل البيت قائلا في مطلعها:
مدارس آيات خلـــت من تلاوة
ومنزل حي مقفـــــــر العرصات
ويذهب الشريف الرضي مذهب التصوف في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر مناقب أهل البيت وخاصة أبناء فاطمة الذين رفعهم الشاعر إلى مرتبة كبيرة من التقوى والمجد والسؤدد كما في داليته:
شغل الدموع عن الديار بكاؤنا
لبكاء فاطمــة على أولادها
ويقول أيضا في لاميته الزهدية المشهورة التي مطلعها:
راجل أنـــــــت والليالي نزول
ومضر بك البقــاء الطويـــل
وللشاعر العباسي مهيار الديلمي عشرات من القصائد الشعرية في مدح أهل البيت والإشادة بأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته الحميدة التي لا تضاهى ولا تحاكى.
ولكن يبقى البويصري الذي عاش في القرن السابع الهجري من أهم شعراء المديح النبوي ومن المؤسسين الفعليين للقصيدة المدحية النبوية والقصيدة المولدية كما في قصيدته الميمية الرائعة التي مطلعها:
أمن تذكر جيــــــران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلــــة بـــدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة
وأومض البرق في الظلماء من إضم
وقد كان الشعراء المغاربة سباقين إلى الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونظم الكثير من القصائد في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتعداد مناقبه الفاضلة وذكر صفاته الحميدة وذكر سيرته النبوية الشريفة وذكر الأمكنة المقدسة التي وطأها نبينا المحبوب، وكان الشعراء يستفتحون القصيدة النبوية بمقدمة غزلية صوفية يتشوقون فيها إلى رؤية الشفيع وزيارة الأمكنة المقدسة ومزارات الحرم النبوي الشريف، وبعد ذلك يصف الشعراء المطية ورحال المواكب الذاهبة لزيارة مقام النبي الزكي، وينتقل الشعراء بعد ذلك إلى وصف الأماكن المقدسة ومدح النبي صلى الله عليه وسلم مع عرضهم لذنوبهم الكثيرة وسيئاتهم العديدة طالبين من الحبيب الكريم الشفاعة يوم القيامة لتنتهي القصيدة النبوية بالدعاء.
ومن أهم الشعراء المغاربة الذين اشتهروا بالمديح النبوي نستحضر مالك بن المرحل كما في ميميته المشهورة التي يعارض فيها قصيدة البويصري الميمية:
شوق كما رفعت نار على علم
تشب بين فروع الضال والسلـــم
وأما في العصر الحديث فالمتأمل لدواوين شعراء خطاب البعث والإحياء أو ما يسموا بشعراء التيار الكلاسيكي أو الاتجاه التراثي فإنه سيلفي مجموعة من القصائد في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تستند إلى المعارضة تارة أو إلى الإبداع والتجديد تارة أخرى. ومن الشعراء الذين برعوا في المديح النبوي نذكر: محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد الحلوي وآخرين كثيرين…
فمن قصائد محمود سامي البارودي قصيدته الجيمية التي يقول فيها:
يا صارم اللحظ من أغراك بالمهج
حتى فتكت بها ظلما بلا حـرج
مازال يخدع نفسي وهي لاهية
حتى أصاب سواد القلب بالدعج