الإنسان بالضرورة يريد أن يكون أكثر اكتمالاً, فهو لا يكتفي بالحالة الانعزالية بل يسعى إلى الخروج من جزئيته الفردية إلى كلية يرجوها ويتطلبها, فهو يحلم بعالم أكثر عدلاً وأقرب إلى العقل والمنطق.
وحتى نستطيع – ونحن على أعتاب مرحلة جديدة – أن نرسم خارطة ثقافية – وتلك مهمة غير سهلة – لا بد من التجديد وتجاوز أخطاء الماضي, فالعشوائية لا يمكنها إلا إعادة إنتاج ذات الصراع, والتجديد لا يتم إلا من خلال إعادة البناء وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها الذي يرتبط بالتطور المادي الحضاري لمجتمعاتنا بما يحفظ هوية الأمكنة والأفراد والجماعات .
فالتنافر في البنية العمرانية الذي حدث في الحواضر الجنوبية بعد الوحدة مثلاً، ترك بعداً مغترباً عند الإنسان , وهو ما نجد التعبير عنه في مضمون العبارة (الاحتلال اليمني), وتلك العبارة يتحمل وزرها السياسي الذي مال إلى التغطرس والانفراد، فلم يكن جهده إلا ذلك التنافر الثقافي والسياسي والحضاري والتاريخي في النسيج الوطني.
ومن الثابت أن طبيعة الأحداث الكبيرة الثورية التي تمس بنية المجتمعات, قد تعمل على التفكيك وتقوم بإعادة البناء وفقاً لظروف ومناخات المراحل وتأثيرات الآخر وظلاله، لذلك فالقول بالشعارات السياسية قد لا يكون تعبيراً صادقاً عن التكوين البنائي الذي يأخذ مسارات عدة لم تكن تخطر ببال السياسي الذي يطلق الشعار على عواهنه ولا يدرك تأثيراته وتفاعلاته التي ينتج عنها معادلة جديدة تصوغها المنظومة العقائدية والاجتماعية والثقافية، كما حدث ويحدث في تاريخ الثورات وفي مساراتها.
فالسياسي الذي ذهب إلى مناخات الربيع العربي بشعارات ثورية, وشعارات تحررية، وشعارات مكافحة الفساد والتداول السلمي للسلطة, كان يبطن في كوامن نفسه الوصول إلى السلطة تحت مبرر القاعدة البراغماتية : الغاية تبرر الوسيلة, ولكنه بمجرد أن وصل إلى غاياته وأهدافه السياسية انقلب على عقبيه وأراد أن يفسح لتجارب الماضي كي تتكرر في واقعه, فلم يستمر أمده طويلاً حتى وجد نفسه يغرد خارج سرب الربيع العربي – حدث ذلك في مصر، وفي اليمن واليوم في تونس – ولم يدرك أنه بشعاراته وبمظلاته الثورية قد ساهم في تفكيك البنى الثقافية والاجتماعية المساندة للاستبداد , وانه أصبح يتعامل مع واقع أكثر تعدداً وأكثر تمايزاً ولا يمكنه أن يكون فيه حاكماً ابداً.
لقد كنا نسمع بالأمس القريب مثلاً أن الحاكم العربي المستبد يهيمن على أدوات السلطة , فالقوة بيده, والمال بيده, والإعلام بيده، ومثل تلك التبريرات ظلت ردحاً من الزمن حتى ماج الربيع واستيقظت الشعوب , فإذا الجيوش لا تكاد تدفع عن الحكام شيئاً , وظل تدفق الجماهير إلى الشوارع هو الأقوى والأكثر فاعلية، وتمايز الناس , فأصبحوا جماعات وكيانات وأحزاباَ, وأصبح كل أولئك يملكون المال ويملكون الإعلام وما نكاد نرى جماعة دون أن يكون لها وسيلة إعلامية، فالكل أصبح يملك المال والإعلام , وأصبح التعدد سمة مرحلة ما بعد عام 2011م , وحين تتمايز الجماعات والكيانات , وتصبح ذات وجود وذات نفوذ وقوة وذات مال وإعلام , لا يمكن التعامل مع مجالاتها الانتقالية والمتغايرة الجديدة بنفس الثقافة القديمة، بل قد يصبح الاعتراف بالتعدد وبحقه في الوجود والتمثيل وفي صناعة التاريخ شرطاً جوهرياً وأساسياً في الاستمرار.
القضية لم تعد في الشكل, بل تكاد أن تكون قد تجاوزته , إذ أن اكثر ما يهدد المجتمعات في الوقت الذي نعيش هو حالات الانقسام ,وحالات التشظي، في ظل ما تشهده المجتمعات من تحيزات فكرية ومن تخندق وادعاءات في امتلاك الحقيقة، ومن مشاعر الانتقاص وفقدان القيمة للآخر، ومن تسفيه المعتقدات والآراء، والقارئ الممعن يجد أن ثمة جماعات تتربص بمن يخالفها الدوائر, وثمة جماعات ترى أن الإسلام في التفجيرات والعبوات الناسفة، وفي استهداف مصالح الناس العامة , فالذي حدث في مارب والجوف وحضرموت هو ذاته الذي حدث في سيناء أو في العريش في مصر فالتناغم والتجانس حالة متصمدة لا تكاد تنفصل.
كما أن حالة من حالات التفكك تكاد أن تكون قد وصلت إلى الجماعات المتجانسة، فالذين يرون جواز فتح عيادات التداوي بالقرآن أو عيادات التداوي بالسنة، هناك من يرى تحريمها، ويرى تحريم حالات التكفف وفرش الشيلان أو وضع المحصلات لدعم حلقات تحفيظ القرآن، في حين يرى فريق من ذات الجماعة جواز ذلك، ومثل ذلك الجدل نتيجة طبيعية لحالات الفرز والتمايز الثقافي والاجتماعي التي بالضرورة قد تفضي إلى التعدد .
إن مشكلة اليمن أن الخواتيم تسوء في حين أن بقية البلدان تحسن خواتيمهم ولليمن في ذلك تاريخ طويل .
ولذلك كنا وما نزال ندعو إلى التجديد في بنية المؤسسة الثقافية حتى تستطيع أن تواكب الحدث الثوري وحالة الانتقال التي تتسارع في إيقاع العصر وفي بنية المجتمع ونسيجه العام وفي التطور التقني .
وندعوا إلى إعادة ترتيب نسق العلاقة بين المثقف والسياسي وهي علاقة جدلية, فعلاقة المثقف بالسياسي هي علاقة احتياج , وعلاقة السياسي بالمثقف هي علاقة ضرورة, فالتطور لا يتكامل إلا به , وذلك من خلال إدراكه الواعي لمصيره ودوره المستقبلي ولواقعه وأبعاده المتعددة، ومن خلال قدرته على التفكيك وإعادة البناء والصياغة, وبما يحقق انزياح مجتمعه وفاعليته فيه , فالواقع الذي تغيب أو تتعطل فيه معظم أشكال سيادة القانون أو الديمقراطية الحقة أو المساواة أو الحرية أو المواطنة, لا يعدو عن كونه واقعاً مشوهاً لا يكاد يتجاوز دوائر الامتثال والطاعة، وثقافة الاستهلاك والتبعية، وأمامه يبرز دور المثقف، وهو دور تاريخي لا يقوم على تبرير الوضع القائم, بل على ممارسة النقد لما هو كائن التزاما لما سوف يكون, وبالوسائط المتاحة وعبر كل أشكال الثقافة والتنويرية التقدمية في الآداب والفنون .