المقالح عبدالكريم
في طريق الفجر
لي صاحب..
منذ نعومة أبجد هوز لغة الضاد لديه..
وهو صياد نهم.. يطارد فرائس المعرفة بلا هوادة..
وكم وكم كان يكبح جماح غمزات رغباته الطفولية..
التي تنازعه إلى شراء لذائذ الحلويات.. أو اقتناء صنوف الألعاب..
وكل تلك المجاهدات الذاتية خاض مراراتها الطولى..
من أجل مراكمة أرصدة مالية.. كافية ومناسبة.. للفوز بالكنوز الأسمى:
مجلات الأطفال وكتيباتهم من قصص وحكايا وروايات..
وحتى ما يمكننا تسميته بـ ” كتب الكبار”..!
وفي عاشرة صباه..
ذات ظهيرة عيدية.. مموسقة الأباهيج..
مع لفيف من رفقة الحارة.. قاد حملة استكشافية عظمى.. هدفها المكتبة الجديدة..
خارج حارتهم الصغيرة.. على ضفاف البساط الأسفلتي القاتم.
واجهتان زجاجيتان مؤطرتان بالألمونيوم البني.. يتوسطهما مدخل أصغر..
المحتوى المنوع لا يقل روعة عن فنون عرض الأصناف الملونة..
ألعاب الأطفال لا حد لإغراءاتها البراقة.. خاصة على مستوى الجديد فيها والمستحدث..
مرتبة على الرفوف بعناية فائقة.. مدلاة من السقف بذكاء تسويقي محترف..
لا تملك مع أفانينه الواسعة وحيله المراوغة إلا أن تتشهاها كلها..!!
الحيز الأصغر كان للقرطاسية.. يسار المكتبة.. على الفاترينات..
وخلفها على الجدار.. كان ثمة رفوف خشبية.. مطلية بالبيج السكري الفاتح.. وكانت أثمن الكنوز عليها.. في منتصف التموج.. ما بين السقف و الأرضية.. أبرز المعروض.. أغلفة متنوعة وعناوين كثيرة.. الأبرز فيها.. والتي فعلا شنقت بصر صاحبي عليها طويلا: كتب قياسها كروايات الجيب التي يتابعها شهريا صاحبي.. لكن هذه أملى وأشهى: محمود درويش – خليل حاوي – عبدالله البردوني – عبدالعزيز المقالح – بدر شاكر السياب – محمد الفيتوري– سميح القاسم – نازك الملائكة..
إنها الدواوين الشعرية.. ذات الواجهات الورقية الملونة..
التي تغلف المجلدات الحمراء.. بتصاوير أصحابها.. في بورتريهات متقنة التفاصيل..
من إصدارات دار العودة.. بيروت – لبنان
وحدهما.. صاحبي وأخوه من كانا في هذا الحيز.. يلتهمان العناوين بفضول مشبع ببهجة صيّاد سمك وجد نفسه في بحيرة مكتظة الأعاجيب المائية، ولا من منافس حوله أبدا..!
وقرر صاحبي الخطة الشرائية لذلك العيد اللامنسي..
أجرى تعديلات بسيطة على هدف الحملة الاستكشافية..
راجع التفاصيل مع أخيه.. اتفقا على كل شيء.
وسرعان ما لفا انبهارهما بالعناوين الجداد.. بسيماء المستعد للشراء فورا..
عميد المكتبة كان متفرغا بشكل تام لثلة الصحاب.. يجيب عن التساؤلات السعرية..
يستبدل هذا بذاك..يفاوض..يقبض.. يغري…
وصاحبي مستمر في استصراخه أسعار المجلدات الحمراء..!!
وبعد جهد جهيد.. انتزع الرجل نفسه انتزاعا..
وجاءهما وهو يقطر كله انزعاجا وتذمرا من هذين الصبيين الغريبين..
ولم يبهتهما سعر ولم يصدهما عصبية عن مطلوبهما الأثير:
45 – 50 – 60 ريالاً..4 دواوين: 215 ريالاً وساعتاً كاسيو رقميتان: 70 ريال.
وعاد صاحبي للبيت مع أخيه في سعادة منقطعة المسرات..
وهما يترقبان آوان قطفهما عوالم: البردوني والمقالح والسياب والملائكة..!
من أرض بلقيس
لي صاحب..10 سنوات منذ اللقاء البردوني العظيم.. أواخر ثمانينيات القرن العشرين..
وها هو الآن أمامه شخصيا.. في أواخر التسعينيات.. عيد آخر معه..
إنه يعيش الوعد المنتظر الذي عاهد شغفه عليه.. وهو يرتل السمفونيات البردونية سرا وعلانية.. في البيت.. مع الرفاق.. الإذاعة المدرسية..!
وها هو معه..شخصيا.. حسب الاتفاق المبرم بينهما تلفونيا.. ولا يدري من أين يبدأ وكيف..!؟؟
منذ أشهر لمع اسمه في الصحافة الثقافية.. من خلال القصص والخواطر وعروض الكتب.. إنه انجاز كبير بالمقارنة مع سنه ومستواه الدراسي.. من يصدق هذا: لا زال في منتصف الثانوية العامة / أدبي.. ويريد تتويج تلك الانتصارات الصغيرة بأخرى أكبر وأوسع.. يكاتم تلهفه ويصبّره.. الانتقال إلى مستوى أعلى: صحافي ثقافي يجري الحوارات.. ويستكشف القضايا والظواهر في استطلاعات مصورة وتحقيقات ميدانية موسعة..
وها هو يوم الجمعة المتفق عليه بينهما.. بداية الأسبوع.. من هاتف الدكان المقابل لمنزلهم.. أدار القرص الشفاف للجهاز الأخضر الموضوع على الطاولة.. وكله في كله يرتجف انفعالا ورهبة.. هذا رغم تأجيلاته الألف لهذه المكالمة:
– السلام عليكم
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
– منزل الأستاذ عبدالله البردوني..!؟
– أيوه..
– حياكم الله يا أستاذ عبدالله
– عرفتني..!!؟ ( في شبه قهقهة صغيرة )
– أكيد أستاذي القدير.. من الصوت..
– …..
– العفو منكم أستاذ عبدالله..معاكم عبدالكريم المقالح
– حياك الله يا عبدالكريم
– شاعر وقاص وصحفي
– …..
– وأكتب في الملحق الثقافي صحيفة الثورة
– جميل
– وفكرت في الالتقاء بك لإجراء حوار صحفي ينشر في الملحق الثقافي
– …..
– فما رأيك أستاذي القدير..؟!
– في الحوار أو في الملحق..!!؟ ( وعلت قهقهته الساخرة بنكهة المزاح )
– في الحوار أستاذي..!؟؟
– بكل سرور يا عبدالكريم
– طيب أستاذي.. متى أنسب وقت للالتقاء معك وإجراء الحوار..؟!
– الوقت الذي يناسبك
– أيش رأيك أستاذي يوم الجمعة مثلا..!؟
– تمام
– الصباح..!؟؟
– الصباح
– الساعة كم..!؟
– أيش رأيك أنت..!؟
– 10 ..!؟؟
– تمام
– فين..!؟
– عندي في البيت
– طيب
– …..
– لحظة أستاذي.. لكن أين البيت..؟!
– بيتي..!!؟
– أيوه
– معروف
– أيوه لكن أنا…
– تعرف الحي السياسي..!؟
– لا
– تعرف حدة..!؟
– تقريبا
– خلاص.. تعرف الدايري…
– …..
رواغ المصابيح
لي صاحب..
بعد 20 عاما على استضافة البردوني له..
وفي ذات استعادة لحميمية تلك اللقيا.. استوقفته أسراب أسراب من علامات استفهام..
شككته فيه لحد الرهبة.. ولولا وجود اللقاء في أرشيفه الصحفي.. لأيقن أنه لم يكن..
وأن ملاقاة البردوني العظيم في منزله.. هي مجرد خيالات لا أكثر.. وأنها ضرب من تمنيات اضطرمت طي طموحاته.. وتضخمت بفعل استحالة التحقق.. فصار يظن – أو يتوهم لا فرق – أنه زار البردوني العظيم فعلا..!
ورغم جنونيتها المفرطة.. ورغم لامعقولية انبثاقاتها.. إلا أنها صادقة.. واقعية.. والأهم محبطة تماما.. بالنظر إلى مؤشراتها.. كل تلك الأبابيل من التساؤلات المحقة.. التي تنتهي إلى حيرة عظمى: كيف حدث هذا..؟!
لنشرع في تشريح المعطيات الرئيسية:
• طالب ينتظر انتهاء عامه الدراسي الحالي..
ليختم مشوار أعوامه الدراسية.. بالعام الأخير: الثانوية العامة / ثالث ثانوي..
• خارطته اليومية المعتادة مقولبة بصرامة وجمود: البيت –المدرسة.. ذهابا وإيابا.. وخلالهما محطات صغيرة: الكشك –السوق..
• أواخر العام 1995 م نشر أولى محاولاته الأدبية.. في صحيفة الثورة.. صفحة: أدب وثقافة..
• لم يحضر أية فعاليات ثقافية -من أي نوع كان في أي جهة ثقافية أبدا.. سيحدث هذا الشيء بعد انفلاته من القيود الدراسية.. مع تأديته امتحانات الشهادة العامة الثانوية.. العام المقبل..
• لا يعرف أحدا بشكل شخصي من الأسماء المنشورة في الصفحات الثقافية.. سواء شعراء أو قاصين أو نقاد.. لم يلتق أبدا إلا باثنين: محمد القعود و فؤاد عبدالقادر..
وإذن… السؤال المحير: كيف حصل على سداسية هاتف منزل البردوني العظيم..؟!
من هو الشخص الذي من الممكن أن صاحبي وشوشه عن حلمه الأكيد: محاورة البردوني العظيم.. فتكرم هذا الشخص المجهول تماما.. وقال: “طلبك عندي.. ولا ينبئك مثل خبير.. وتأكد هو أنا.. هاك يا صديقي.. هذا هو الهاتف المنزلي للأستاذ عبدالله البردوني..؟!”
من حارته..!!؟ ثمة موجة شاحبة الاندفاع.. تدور حول نفسها ببطء ثقيل..
عله في تفحصها مرارا و تكرارا.. سيتعرف على الوجه والاسم..فعلا..!!
السفر إلى الأيام الخضر
لي صاحب.. أعد عدته ووارى تلهفاته الألف للقاء البردوني العظيم.. وهو يحصي الثواني.. ويشطب المسافات.. مع كل لحظة ينجزها نحو ملاقاة البردوني العظيم.
وإذن الجمعة الموعودة.. دقات قلبه مع كل خطوة يقطعها.. تزداد إيقاعا صاخبا..
ورغم اصطحابه الملف المنوع التصانيف.. إلا أن صاحبي قرر: لقاؤنا الأول هذا سأجعله تعارفيا.. و “س. ج”الحوار.. في لقاء آخر.. وحتى موضوع إهدائه بعضا من كتبه الشعرية والفكرية.. ليس اليوم ميقاتها المناسب.
على جنب.. وترجل صاحبي من الباص الثاني.. في مشواره المنتظر.. يسارا إلى الجنوب شارع فرعي.. هو المبتغى..( المقابل حاليا لسام مول )
وعبرت به أشواقه الشارعين المتقاطعين.. عن ظهر لهفة يلتهم الخارطة البردونية الموشومة في مخيلته.. كنقش ناتىء على حجر:
الحي السياسي.. اسأل عن جامع الصديق.. سر في الشارع الذي خلفه..
سر حتى تصادف شارعا فرعيا على يدك اليمين.
ودخله صاحبي.. خال تماما إلا من رجل خمسيني المظهر..
صباح الخير.. جمعة مباركة..
وأشار الرجل الودود إليه: هذا بيت البردوني.. شكرا.
و تدانى منه صاحبي وهو يتأمله بتمعن.. من طابقين..حجر.. سوره يتطاول لحوالي المترين.. لكن أينه الباب..؟!!
كان صاحبي في ذروة انفعاله.. تحيره تطاغى على تشوقه فأورثه ارتباكا كاد يقرره الانهزام والعودة أدراجه.. لاشى من موقفه فكرة الرجوع إلى الودود الطيب و سؤاله.. سيبدو بلا شك سخيفا جدا..الباب..!؟؟
ثبت نفسه على بساط الأسفلت.. أخذ نفسا عميقا.. أعاده أكثر..كرره أطول.. حتى أمحت رجفاته وكف تصابب عرقه.. ولما لمحه أمام عينيه.. كاد صاحبي ينفجر رغما عنه بضحكة مجلجلة هستيرية رعناء.. ثمة مستطيل على السور.. كيفلم ينتبه له.. باب صغير.. أكيد هو باب خلفي غير البوابة الكبيرة في المقدمة.. لكن أين المقدمة..؟!! لا تهم.. لنجرب هذا أولا.
نقرة متوسطة على زر الجرس..وياالله.. إنه البردوني.. ولمرتين متتاليتين.. صوته عبر المكرفون.. وهو من فتح الباب.. يا رباه… هذا يوم غابت فيه عذاله..!!
ثوب رمادي وفنيلة خضراء “كت”..وملامحه..!؟؟ باقة منداحةالأسارير.. ترحاب حار كمن ألتقى صديق قديم قديم..!
ثمة سلالم درج.. مكسوة بموكيت بني..البردوني العظيم يتقدمه.. وصاحبي خلفه يصعد ببطء.. يتأمل ما حوله.. حتى وصل إلى الأعلى: صالة مربعة..ضوؤها طبيعيا بفعل النافذة الكبيرة أمام الوجه.. إلى اليمين باب.. ربما يؤدي إلى شقة أخرى.. على الجدار لوحة تذكارية مزينة بوجه الملكة الفرعونية نفرتيتي.. ولم ينتبه صاحبي لوجود طقم كنب.. إلا عندما اصطدمت ركبته بمسند الذراع الخشبي..!!
كان يقتفي قامة البردوني العظيم بعيونه.. أما تأملاته فكانت حرة التطواف في أرجاء المكان.. أصبح البردوني العظيم في الغرفة.. التي تقع يسار الصالة.. فلحلقه صاحبي..
متوسطة.. نافذتان كبيرتان.. شرقية وجنوبية.. الأثاث بسيط..و…
– تفضل يا عبدالكريم..
على الطرف الآخر من الغرفة.. ” من تحبه قابله ” تمتم بها سرا صاحبي.. ربما ليقنع نفسه أين يجلس بأيسر الطرق دون التفكير في المكان المناسب.. لا يريد الوقوع في شباك التوتر مجددا..
تجاه البردوني العظيم.. ماسة صغيرة.. عليها كتب وهاتف.. إلى يمينه ثلاجة شاي وصحن فيه أكواب زجاجية.. بجوارهما باكت شاي ليبتون.. وأبريق زجاج ممتلئ ماء.
وجوه دخانية في مرايا الليل
لي صاحب.. سؤاله اللانهائي: من أوصله إلى البردوني العظيم..؟!!
قطعا ليس من الوسط الثقافي.. إذن هو من حارته.. لكن من هو..؟!!
طبعا هذا مع التغاضي التام عن دبابيس محمّاة.. على شاكلة ما يلي:
– قبل الموعد المحدد.. هل قام بطلعات استكشافية للمنطقة.. لتستقر بوصلته القادمة على الخارطة الصحيحة..؟!
– كيف اختار وسيلة المواصلات المناسبة.. عبر الفرزة المناسبة التي أوصلته للبقعة المطلوبة..؟!
– هل استشار أحدا – أو استعان بأحد – من رفقة حارته.. خاصة من اللذين يدرسون في جامعة صنعاء.. ويعرفون طريق الدايري.. فرسم له معالم واتجاهات اهتدى بها.. و أضاءت له المسالك والدروب..؟!
– بعد السلام والتحية وهما يتصافحان.. من الذي أغلق الباب.. البردوني العظيم..!؟ أو هو صاحبي..!؟؟
– خلال المكالمة الثانية.. البردوني العظيم هو من دعا صاحبي إليه.. أو أنه صاحبي من استأذنه الزيارة..!!؟
ترجمة رملية لأعراس الغبار
لي صاحب… التقى البردوني العظيم في منزله مرتين..
في اللقيا الأولى.. أجرى معه حوارا لا يشبه الحوارات السائدة والمعمول بها..
تخير له عنوانا بسيطا من ثلاث كلمات: مع العظيم الأعمى
بعد اللقاء بأيام ثلاثة.. سافر بعد العصر كعاداته أسبوعيا إلى صحيفة الثورة..
وسلم مشرف الملحق الثقافي الأستاذ محمد القعود مخطوطة الحوار.. وانتظر..
وسرعان ما هلت التباشير نهاية الأسبوع.. و أصبح العيد عند صاحبي عيدين..
وأصبح يؤرخ لمسيرته الصحافية بذلك اليوم الأمجد:
الجمعة 18 شوال 1416 هـ – 8 مارس 1996 م.
لكن ثمة تغييرات طرأت عليه..
– العنوان: زيارة خاصة للبردوني.. دردشة عن الفن والأدب
– الخاتمة الغصبى:طوال الباقة الصباحية الروعى.. كانت مسرات صاحبي في أوجها و تتزايد اتساعا مع مرور الوقت.. لكن ومع وصول الظهيرة واستيلائها على عرش المواقيت.. تلبدت مباهج صاحبي حتى كادت لفائف روحه السرية تتحالك بفعل عواصف رماد سوداوية.. غبّرت مزاجه الهادئ.. وكل ذلك ما هو مسببه..؟!! توافد عدد من أصدقاء البردوني العظيم.. من أدباء ومثقفين.. إما فرادى أو جماعات.. طبيعة الأحاديث التي دارت واشترك البردوني العظيم في معمعاتها.. كانت من وجهة نظر صاحبي.. عادية.. هامشية.. من سائد المتداول عند الآخرين.. فلماذا جاؤوا بها إلى هنا..؟!!
ألا يعرف هؤلاء – أيا ومن كانوا – أن وقت البردوني العظيم أثمن من كل هذه الترهات….!؟؟
وطبعا غاب عن بال صاحبي.. أنه يوم الجمعة.. وهي بادرة طيبة من أولئك وغيرهم أن يزوروا البردوني العظيم.. ولو من باب الاطمئنان على صحته.
تاليا مع الأيام.. تعرف صاحبي على بعضهم.. الشاعر عبدالله هاشم الكبسي.. الكاتب أحمد الجرموزي.. وهو خارج منزل البردوني العظيم.. هامس صاحبي: “الأستاذ عبدالله ارتاح لك.. لا تنقطع عنه أبدا.. استمر في زيارته عبدالكريم.”
ولم يقصر صاحبي ” دق صدر الركن “.. وأكد كمن يعد أو يعد كمن يؤكد.. ولم يفعل إلا مرة يتيمة.. وهذا من بين النقاط التي يندم عليها صاحبي.. هذا رغم التواصل هاتفيا بعد مدة مع البردوني العظيم.. بغرض النقاش الثنائي حول شخصية جدلية.. في الموروث الثقافي اليمني..!!
كائنات الشوق الآخر
• ألوهات:
ــ اتصالك الأول بـ البردوني العظيم.. من أكثر التفاصيل المترسخة قعر ذاكرتك الصدئة.. وذلك بفعل توثيقك له تلقائيا.. حيث كنت خلال المكالمة وبلا وعي منك – وربما نتيجة ثورة الانفعال داخلك – تخط ما تقولانه على صفحات في دفترك المدرسي.
ــ صبيحة الجمعة التالية للحوار.. كنت في منطقة باب اليمن.. وتحديدا أمام الكشك المجاور للمؤسسة الاقتصادية.. قلبت صحيفة الثورة حتى وصلت إلى الملحق الثقافي..ويا للحدث الكبير.. المفاجأة الكبرى.. الكنز النادر.. الجائزة الثمينة. ومن فورك عثرت على مركز اتصالات قريب.. متواريا داخل إحدى كبائنه الزجاجية.. أجريت مع البردوني العظيم.. مكالمتك الثانية.. بكل متفجر البهجة في فؤادك.. زففت بشارتك الكونية عبر الأسلاك الباردة.. وربما نصف ساعة.. تزيد أو تنقص قليلا.. كنت في زيارتك الثانية إليه.. أقرأت البردوني العظيم نص المنشور كلمة كلمة.. وتركت له نسخة من الثورة والملحق وعدت مكوكب الانتصارات إلى البيت..!
ــ الحكيم علي بن زائد.. كان هو دافع مكالمتك الثالثة: ما ورد في ” فنون الأدب الشعبي “.. تقصى البردوني العظيم شخصية الحكيم اليماني ابن زائد.. كما قام بتحليل عدد من مقطوعاته المتوارثة في المخيال الجمعي الشعبي.. وخلال البحث والتفسير والشرح والمقارنة.. ظهرت حزمة معتبرة من التساؤلات.. التي اعتبرها البردوني العظيم مهمة وضرورية لتكون منطلقا لأبحاث ميدانية أخرى.
وكنت أنت – يا للمصادفات – ممن تستهويه هذه الرموز الموروثة.. وتسعى خلف ألغازها الثرية حسب ما تسمح به ظروفك وامكانياتك المحدودة.. وكان أن أبحاثك – خاصة في مسقط رأسك ” وادي بنا ” – قد امدتك بمعلومات كثيرة.. لذا بعد الحوار بفترة.. أجريت ثالث “ألوهاتك”..مواعدا البردوني العظيم ضرورة الالتقاء به.. واطلاعه على كل ما لديك.. من أجل غربلة تلك الحصيلة معا.. لكنك لم تفعل.. استبقك 30 أغسطس وخلد البردوني العظيم للأبد.
• الحوار الفريد:
بعد عام على الحوار.. انتهى يومك الدراسي مبكرا.. فقصدت مركز الدراسات والبحوث اليمني.. القريب من مدرستك: ثانوية بغداد.. كان ثمة حدث هناك.. العميد الثقافي / القعود عرفك على كثير منهم.. أحدهم في لقاء آخر.. علوان الجيلاني.. أبدى إعجابه بطريقة محاورتك لـ البردوني العظيم.. أذكره كما أضاف بالصحافي الأديب أنيس منصور: في صالون العقاد.
وتميز الحوار راجع كما أثنى عليه.. إلى استثمار الدهشة وكتابة المجريات بعفوية وتلقائية.. وهو ما فات كثير من الأدباء الذين زاروا البردوني العظيم في بيته.