عندما كنت صغيراً وعابقاً بالفرح ومشتعلاً بالبهجة ومتدفقاً بشغب الطفولة.. كنت في كل صباح ارتشف خلسة رشفة من فنجال قهوة البن.. الخاص بأبي .. وأتظاهر بالنوم العميق.. وبالشخير المفتعل.. وحين يغادر المنزل احتضن الفنجال بين أصابعي المتلهفة لعناقه وتلمسه وأمسكه بقوة ..وأتلذذ ببقايا ثمالته.!!
وها أنذا في عمري الطاعن في الشجن.. أنهضُ كل صباحٍ ..فأجد أن كل الصباحات مصابة بالخيبة ولا تحمل نكهة أنفاسنا ولا ملامحنا.. وأن القهوة مرّة كأيامنا المرّة..!!
***
أحلم بأن أحرق كتبي وأمزق كتاباتي وأوراقي وأوزع ملابسي على المساكين والفقراء وأترك كل شيء وأهجر المدن والناس وأذهب إلى مكان قصي..
وأعمل كراعٍ للغنم.. أجل راعي أغنام.. معي زوادة بها بعض الأرغفة ..وقربة ماء وعصا أهشّ بها على غنمي وأيامي وأحزاني..
سأغسل ذاكرتي من كل المواجع والوجوه والأحداث وأطهِر قلبي من كل المنغصات.. والأطماع والأنانية..
وأخلع ملابس الصفات والمجاملات والمظاهر وأرتدي ثوب النقاء والصفاء والبراءة والطفولة.. وسأنسى كل مغريات المدينة والحضارة..
وحين أتعب سأذهب الى تحت ظلال أقرب شجرة وأتوسَّد الأرض والعشب..وأغفو مع إنسانيتي التي أكاد افقدها في عصر المصالح وتجار الحروب والأديان والأوطان والزيف..!!
***
كانت الكتب ضوئي ومنبع فرحي وابتسامتي..
كانت الكتب وطني وكوني..
كانت الكتب تلويحة فجري ونشيد أصابعي..
كانت الكتب قبيلتي وحبرها فصيلة دمي..
كانت الكتب باقة وردي وبستان أمسي ويومي وغدي..
كانت الكتب ينابيع طفولتي وتأملي وعشقي وبهجة عمري..
كانت الكتب سيفي الذي أضرب به جبين الظلام..
كانت الكتب ربيعي الذي يزهر ويثمر ويعبق دوما ولا يرحل..
كانت الكتب حريتي وبرلمان عقلي..
كانت الكتب علامة نصري ومشعل ورمز فخاري..
كانت الكتب هي المطر والأمل والوطن لي..
كانت الكتب حضااااااااااارتي..
صارت الكتب بوابة بؤسي وتعاستي وتعبي وجوعي.