تعتبر الإدارة العامة نوعاً متخصصاً من الإدارات التي تهتم بكافة النشاطات المرتبطة بالإعمال الحكومية وتسعى إلى تطبيق وتنفيذ السياسة العامة للدولة ففي الأساس الإدارة تهتم وتعتني بتسيير أعمال الحكومة- أي إدارة أجهزة القطاع الحكومي ,وتطورت بالتزامن مع تقدم المجتمعات وتأثر هذا التطور بمجموعة من العوامل من أهمها النهوض الاقتصادي والاجتماعي ووجود أزمات اقتصادية وثبات مفهوم مؤسسات الدولة، ما أدى إلى تراكم أعباء جديدة عليها نتج عنه تطور متسارع, وكون المتغيرات التي تحوم حول الإدارة الحكومية قد تضعفها أكثر وأكثر وستتفاقم في أي وقت وربما تهدد رسالتها ورؤيتها أمام إرهاصات الإدارات العتيقة التي تتمتع بالصلابة وطول البقاء والثبات أمام أي متغيرات,وهناك فرق جوهري بين الإدارة العامة الحكومية وإدارة الأعمال في القطاع الخاص، كالشركات والبنوك والمؤسسات الخاصة من حيث الهدف والسياسات والقرارات، والى حد ما الأنشطة، ولعل الفرق الجوهري بين الإدارتين يبرز ويظهر من خلال الأهداف والإجراءات الإدارية في كلتا الإدارتين، فإدارة الأعمال تهدف إلى الربح أما الإدارة العامة من خلال الوظيفة العامة فتهدف قراراتها الإدارية دوما إلى خدمة أفراد المجتمع بعيدا عن الربحية مع أن المتغيرات المتسارعة لدورها أدى الأمر إلى أن تصل مقادير رسوماً الخدمة إلى مستوى التكلفة أو أكثر حسب الحال، بعد أن كانت رسوماً رمزية، لكن- بكل أسف- غالبا ما تكون تلك الخدمة مصحوبة بالبيروقراطيات العامة والبطء في تقديمها وانعدام التوازن في الأداء وكثرة الاتصالات والاجتماعات لمسؤوليها خارج أوقات وأثناء الدوام وضعف التواصل بين الإدارة وجميع الموظفين وجمهور المستفيدين وضعف الرؤية والسياسات والتوجيهات والجمود في استغلال الفرص الجديدة للتقدم, كنتيجة تحول العمل الحكومي إلى عمل يقوم به أي أحد مهما كانت مؤهلاته العلمية أو العملية وقدراته المهنية، ما أدى إلى الهبوط في المستوى والتراخي الإداري وتدني مستوى الخدمات المقدمة كماً وكيفاً ونوعاً نظراً لتراجع مستوى كفاءة مقدميها وعدم تطوير الخبرات والمهارات بما يتماشى مع متغيرات العصر فأصبحت بذلك النظرة لتعاملاتها وخدماتها المقدمة الروتينية كشر لابد منه وأصبح التهاون والترهل والبيئة السامة في الأداء الذي يؤدي إلى تعطيل العمل واستغلال الموقع الإداري والتدليس والفساد وكثرة الشكاوى الكيدية واقعاً مع استثناءات في ذلك طبعاً.
أدى مثل هذا القصور والنظرة السلبية في مفهوم الإدارة العامة الحكومية من كونه نابع من متلقي الخدمة والمجتمع بشكل عام بدلاً من أن تكون تلك النظرة إيجابية لأن العوامل السلبية ناتجة من عدم التطبيق الصحيح والسليم والعملي للمعايير الإدارية في مكان وبيئة العمل، بل ونجدها في أغلب تعاملاتها الذي يعتمد على معايير وإجراءات أقل ما يقال عنها “أنها قد أكل الزمن عليها” وعديمة الجدوى والفائدة مقابل التقدم الهائل في أدوات الإدارة الحديثة والتكنولوجيا المتسارعة في عصر يسمى عصر السرعة والنهضة في الإنجاز الإداري وتطور بالسياسات والأنشطة والإجراءات الإدارية بما يخدم التنفيذ ومخرجاته ويتسق مع تسارع العصر في شتى المجالات وإيجاد حلول وأفكار وابتكارات إدارية وإجرائية محدثة تعمل على تحسين وتبسيط الأداء وتوحيد وتنسيق الجهود والخطط لتقديم ماهو أفضل، بما يصب في خدمة المجتمع من خلال الارتقاء بالإدارة الحكومية وتفعيل مفهومي التطوير الإداري والتنمية الإدارية لتسهم بشكل مباشر في إنشاء وانطلاق المشاريع التنموية العملاقة والهامة والأساسية ومتابعتها وإنهائها في الوقت المحدد لها وفي نفس الوقت جاذبة ومحفزة ودافعة للمشاريع الاستثمارية الخاصة للحصول على أفضل العوائد وينعكس أثرها على إجمالي الناتج المحلي.
وفي الوقت الذي تسعى معظم دول العالم إلى الانتقال إلى مفهوم الحكومة الالكترونية الحديثة في تعاملاتها ووظائفها العامة وخدماتها المقدمة لأفراد المجتمع كاستجابة للمتغيرات البينية لتتسع وتحتوي كل الاحتمالات وتلفظ المخلفات المضرة والسلبية، فالتعاطي الالكتروني الذي في غيابه أو قبل تصدره الموقف كان السكون والارتخاء والبطء هو الساري في الأداء، لذلك يصبح الغموض سائدا في المناخ الاستثماري أو الخدمي، بينما النظام الالكتروني إلى حد كبير حدد قواعد لينجلي الغموض وتجري وتنجز المهام بانسيابية عالية خارج الإطارات والقوالب السابقة سواء التقليدية أو الجامدة أو المفتعلة، بعد أن باتت منتهية الصلاحية فقد تعززت بدلاً منها الإجراءات عالية الشفافية .
الاتفاق قائم على الحاجة للسيطرة على التغيير السريع والانتقال ليس فقط من الأعمال الورقية إلى الالكترونية لكن أيضا نحو الإدارة الحديثة يبقى السؤال هل من الممكن التأثير في بعض جوانب التغيير لتقوم بتوفير العوامل التي تجعل بيئة العمل بيئة إيجابية وتتمتع بالفعالية والفاعلية.
نظرياً، ذلك ممكن، إذا ما حددنا الإدارات التي بمقدورها أن تقوم بنوع من التغيير والحركة والانتقال نتيجة التطورات المتسارعة بدرجات ملحوظة ومستمرة بكفاءة, من هنا ظهر مصطلح ما يسمى بـ”المنهج السيّال” أو الإدارات والمؤسسات السائلة التي تعني المرونة وتقف في وجه الصلابة ولها القدرة على تحديد الأشياء التي ينبغي فعلها للقيام بالمهام وإيجاد حلول ومن صفاتها أنها تتبنى منهجية مرنه تسمح لها بمراجعة أدائها باستمرار لتحقيق السيولة اللازمة من خلال تبني ركائز متعددة منها المشاركة بعقلية الفريق الواحد في اتخاذ القرار فالعمل التشاركي يقتضي اتاحة المجال للجميع في تحديد الأعمال التي على الإدارة العامة انجازها ,وتحقيق المشاركة يتم اختيارياً أو هيكلياً أو نظامياً في تنفيذها، ويدعم اختيار توزيع الأعمال والتحرك إلى الأمام ,ونظام محاسبي يحدد القيمة والتكلفة الفعلية والعائد لكل إجراء وفعل ومخرجاته ومنظومة اتخاذ قرار مفتوح وواضح ,واعتماد السمعة كقيمة مستقلة.
إن اتباع هذا المنهج يزيد من متانة الروابط التي بينها، كسرعة اتخاذ القرار وقوة التنفيذ بمشاركة واسعة ومفتوحة من القائمين عليها والعاملين بها والمستفيدين من خدماتها أو منتجاتها .
لاشك حتى الآن، أن هذا المنهج متبع في الوحدات الصغيرة ويصعب حتى الآن الحكم على إمكانية تنفيذه في الوحدات الإدارية الكبيرة وعكسها في الوحدات الإدارية التي تعينها على تطبيق هذا المنهج رشيقة وبأحجام معتدلة ومن أهم خصائصها أنها تسعى بقدر الإمكان إلى المحافظة على نشاطها من خلال تبني التقنيات الحديثة، كالذكاء الاصطناعي لتقليص مساحة العمل اليدوي وضبط القرارات والإجراءات المتسرعة أو المتخبطة وتشخيص العديد من الظواهر المتعلقة بالضعف والرتابة والجمود.
ومع ذلك على المؤسسات والإدارات الحكومية أن تبحث عن الأفكار والأشكال القابلة للتطبيق وعن العوامل المناسبة لها من آلياتها وتفعّلها بأدوات متجددة للحد من الجمود الذي يضعف قدرتها على الاستجابة للمتغيرات الكبرى , وهنا يكمن التحدي، لأن الأمر يحتاج إلى الكثير من الاهتمام والعناية بالعاملين ومن الطبيعي أن تعمل الوحدات الإدارية على رفع مستوى كفاءتهم وإكسابهم المهارات العلمية والمهنية التي يتطلبها العمل في الحاضر والمستقبل بغض النظر عن تخصصاتهم ومستوياتهم العلمية أو الأكاديمية من خلال تأهيل وتدريب مختلف عن القوالب والأنماط الجامدة السابقة وبمهارات متعددة بجانب التخصص والمواهب والخبرات لتحقيق انجازات ترتبط بشكل كبير مع السمعة الجيدة لأهميته في هذا العصر المتسارع والمستقبل الجامح معاً، ليتحمل العاملون ذوو الشغف والتفكير التحليلي والإصرار والثقة مهمة ومسؤولية فعل التغيير والتطوير وخلق شكل فعال للمهام والأعمال ومخرجاتها.
باحث في وزارة المالية