خليل المعلمي
يعتبر كتاب “الطبقة الوسطى في العالم العربي “محاولة جريئة لاستقراء الحاضر واستشراف آفاق المستقبل، ويتميز الكتاب بالجوانب المعرفية والمنهجية، وهو كذلك مرجعاً أساسيا في الدراسات التاريخية المعاصرة وبخاصة في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
لقد اعتمد مؤلف الكتاب الدكتور عبدالمالك التميمي باعتباره مؤرخـا وناقـدا علـى ثلاث قواعـد أساسـيـة هـي: الانتقال من النظرية إلى الواقع، ومن العام إلى الخاص، ومن التحليل والمقارنة إلـى التعليق والنقد، وهذا ما يلمسـه القارئ في فصول الكتاب السبعة والذي يشكل مسـاهمة متميزة في حقل الدراسات الإنسـانية والاجتماعية عموما، وفي الكتابـة التاريخية العربيـة المعاصرة بوجه خاص.
الأسباب
يبدأ المؤلف بتقديم الأسباب الموجبة لمعالجة موضوع الطبقة الوسـطى، ويلخصها في أربعة أسـباب متصلة بدور هذه الطبقة وما لحق بها مـن تحولات اجتماعية واقتصادية تعود بشـكل أساســـي إلى دور التعليم وأثره الكبير في مصير هذه الطبقة، ثم يطرح بعد ذلك إشكاليته المتمثلة في جملة من الأسئلة المتمحورة حول حجم هذه الطبقة ومشـكلاتها الاقتصاديـة والاجتماعية كالبطالـة والتهميش، وعلاقتهـا ببقية طبقات المجتمع، وذلك بغرض تجلية دورها التاريخي في عملية التنمية الشاملة في العالم العربي.
تعريف المفهوم
يقدم المؤلف في الفصل الأول تعريفا لمفهوم الطبقة الوسطى، وتساءل عن العامل المحدد لهذه الطبقة: هل هو الاقتصاد أم الوعي؟ مشيرا في السياق ذاته إلى أننا «نعيش اليوم إشـكالية المصطلح في ثقافتنا وفكرنا المعاصـر»، ولذا نجده لا يتردد في طرح هذا السـؤال: هل هنالك مفهوم عربي للطبقة الوسـطى؟ وكان جوابه واضحا ومحددا وجليا وهـو: لا يمكن إلباس الطبقة الوسـطى عباءة عربيـة كما يفعل الكثير من مثقفي العالم العربـي «المغرمـين بتوطـين وتعريب وأسـلمة المصطلحـات والمفاهيم»، وإنما الطبقة الوسطى «تتكون من فئات لها أوضاع اقتصادية واجتماعية شـأنها شـأن الفئـات الأخرى في المجتمعات غيـر العربية، وأنهـا تتميز وتتحدد اجتماعيـا واقتصاديا، وأن دخلها الأساسـي ناجم عن العمل الذي يغلب عليه الطابع الذهني والتقنـي».
وبهذا المعنى فـإن الطبقة الوسـطى تغطـي شـرائح اجتماعيـة عديدة ومتنوعـة يصل حجمها إلى حدود 30 % من مجموع السكان في العالم العربي، حيث يلعب التعليم دورا محددا في تكوينها.
الطبقة الوسطى في العالم الثالث
فـي الفصل الثانـي خص المؤلف التميمي الطبقة الوسطى في العالم الثالث بتحليل بعض وجوهها، وبخاصة ما يتعلق بصلتهـا بالانقلابـات العسـكرية، ودورها في عملية التنمية بعد الاستقلال، ومشـاركتها في العملية الديمقراطية لكونها تتكون من شـرائح تسعى دائما إلى الديمقراطية، وبخاصة عند فئة المثقفين.
ويـرى المؤلف أن «المثقفين من أبنـاء الطبقة الوسـطى لم يستغلوا الفرص التاريخية لممارسة الحرية، بعد الانفتاح على العالم.
الطبقة الوسطى في العالم العربي
أما الفصل الثالث، فقد خصصه للطبقة الوسـطى في العالم العربي ويعد بلا شـك أهم إسـهام قدمـه المؤلف حول هذه الطبقـة، لأنه يبين من جهة التشـكل التاريخي لهذه الطبقة، مبينا الأسـباب الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى ظهورها، والاتجاهات الفكرية والسياسـة الأساسية لها الطبقة وهي: الليبراليـة التحديثية، والتوجه القومي العربي، والاتجاه اليسـاري الماركسـي، والاتجاه الديني الإسـلامي السياسي، وعلاقة القوى السياسية العربية بالطبقة الوسطى قبل الاستقلال وبعد الاستقلال مع أمثلة تاريخية عن الطبقة الوسطى في العالم العربي شملت مصر واليمن والعراق وسـوريا والجزائر والأردن وتونس والمغرب ولبنان وفلسطين والخليج العربي.
وتوقف المؤلف عند بعض المظاهر المميزة للطبقة الوسطى، وبخاصة دورهـا في بنـاء الدولـة الوطنيـة وعلاقتها، بالهجـرة وزيادة النمو السـكاني ودور المرأة في هذه الطبقة، حيث أشـار إلـى الدور الذي لعبته الطبقة الوسطى في تحرير المرأة، مقارنة بالقوى المحافظة أو المتزمتة وفقا لعبارته، ليخلص من ثم إلى تقييم عام لدور الطبقة الوسطى في العالم العربـي بين حدي الفشـل والنجـاح، حيث بين بعض مظاهر النجـاح المتمثلة في وصول بعض الفئات من الطبقة الوسـطى إلى الحكم سـواء عن طريق الثـورات أو الانقلابات العسـكرية، ولتفرض بعد ذلك نظما سياسـية اسـتبدادية، كما ساهمت هذه في تشكيل الأحزاب السياسية وفي دعم الممارسة الديمقراطية.
أما مظاهر الفشل، فتظهر في سيطرة العسـكر على السلطة وثقافة الاستبداد، وتحويل السـلطة إلى هدف وغايـة، وليس إلى وسيلة لتحقيق سياسات ديمقراطية وعادلة، كما غلبت الانتهازية على قياداتها إلى أن «خسـروا فـي النهاية مواقعهم وخسـر المجتمـع دورهم المأمول منهم»..
ويظهر هذا الجانب السلبي أو الفاشل للطبقة الوسـطى أكثر ما يظهر في الفصل الرابع الذي خصه المؤلف للطبقة الوسـطي والبطالة والفقر، وسـوء توزيـع الدخـل القومـي، ومستوى دخل الفرد في الطبقة الوسطى، مشيرا إلـى الصعوبات التي يواجههـا الباحث في هذا الموضـوع، والمتمثلة في نقـص المعلومات وعدم دقتها وقدمها.
قيم الطبقة الوسطى
فيما عالج المؤلف فـي الفصل الخامس قيم الطبقة الوسـطي التي تعكـس الجانب الثقافي والفكـري والسياسـي لهـذه الطبقـة، أو مـا يصطلـح عليه بالوعي الطبقـي، ومن أهم هذه القيم التي حللها نشير إلى قيم الريف والبادية وقيم المدينة، والقيم الموروثة والمكتسـبة، والقيم الفرديـة والجماعية، ومن بين أهـم القيم التي توقف عندها بالتحليل والدراسـة قيمة الحرية وأهميتهـا في الثقافة العربيـة المعاصرة، مبينا أنـه لما «كانـت الطبقات الوسـطى ضعيفة في مجتمعاتنـا ومضطهـدة مع الطبقات الفقيرة والكادحة كان همها وشعارها وقضيتها الحرية، وبخاصة حرية الرأي وحرية الكسب وحرية العمل والاعتقاد».
كما تعتبر قيمة العمل من أهم القيم عند الطبقة الوسطى، وذلك لأن هذه الطبقة تسـعى دائما للحصول على مؤهل علمي بغيـة الحصول على عمل وظيفي يوفر لها دخلا محترما. ومن هنا ارتبطت هذه الطبقة بظاهرة الهجرة بحثا عن العمل والوظيفة المناسـبة، كما تتميـز هذ الطبقة بمطلـب العدالة الاجتماعية الـذي يعتبر بالنسـبة لها مطلبـاً حيوياً، إلا أن المـؤلف يلاحظ أمـرا في غاية الأهمية وهـو أن بعض فئات هذه الطبقة الوسـطى ما إن يتحسـن وضعها الطبقي حتـى تتنكر لقيمة العدالـة الاجتماعية.
تدمير الطبقة الوسطى
وفـي محاولتـه لتشـخيص وضـع الطبقة الوسـطى قام المؤلف بتحليل مـا اصطلح عليه في الفصل السـادس بـ«تدمير الطبقة الوسـطى»، وذلك بسـبب ما تواجهه من صراع مـع النظام الرأسـمالي وتحولاته العالمية المجسدة في العولمة بمظاهرها الأساسية المتمثلة في التقدم التكنولوجي وتطور التعليم ومخرجاته وعدم استغلال الطبقة الوسطى لما يسميه المؤرخ التميمي بالفرص التاريخية الضائعة، ودخولها في صراعات أيديولوجية هامشية أضعفت من قدرتها على مسـايرة الواقع، وأدى بها إلى التخلف الذي يظهر في علامات أساسية متصلة بالدور السلبي لبعض قيمها وغياب علاقـة تحالفية من الطبقات والآثار السلبية للنظم السياسية، وبخاصة النظم الاستبدادية التي دمرت الطبقة الوسطى في بعض البلدان العربية.
مستقبل الطبقة الوسطى
في خاتمة الكتاب يطرح المؤلف سؤالا وهو: ما مستقبل الطبقة الوسطى في ظل هذه الظروف؟ ويجيب عن ذلك وفقـا لمنهجه القائم على تصـور لعلم التاريخ بما هو دراسـة لوقائع الماضي المستمرة في الحاضر والمؤثرة في المسـتقبل، أو كما قال: «عندما نحلل ونقيم أوضاع الطبقة الوسـطى في العالم العربي فـي الماضي القريب فنحن نقيـم جزءا كبيرا من مشـكلاتها في الحاضر، وسيكون من دون شك لهذه الأوضاع القائمة تأثير على المستقبل»، وعملا على استشـراف مستقبل هذه الطبقة فإن المـؤلف والكاتـب التميمـي يرى أن التوجه العام للوضع الطبقي يسير باتجاه التقسيم الحاد للمجتمع إلـى طبقتين غنية وفقيرة، وذلك نظرا للدور الذي تمارسـه العولمة في عملية هذا التقسيم.
ومما سبق يتضح لنا أن هذا الكتاب هو معالجة شـاملة لإشكالية هذه الطبقة باعتبارها قضية أساسية لفهم طبيعة وحاضر ومستقبل المجتمعات العربية الحديثة، وذلك نظرا للدور المحوري الذي تقوم به هذه الطبقة في المجتمع، ونظرا لارتباطها بشـكل أساسـي بمجالي التعليم والعمل، وهو ما يجعلها أساس وعماد نمو المجتمع وتقدمه وازدهاره.
وما أضفـى على هـذا الكتاب من أهميـة علمية هو المنهجية التي اعتمدها، والمقاربة التاريخية النقدية التي طبقها في معالجة موضوع الطبقة الوسطى في العالـم العربي، والقيم الإنسـانية والتنويرية التي بثهـا في ثنايـا نصه، والتي تحمل رسـالة مفادها أن الطبقة الوسـطى مهمة وأساسـية في المجتمع، وأن الاهتمام بها عامل أساسـي في إحداث التطور والتقدم في مجتمعاتنا.