عند بعض شعراء القرن الرابع الهجري في اليمن

الصورة الشعرية في قصائد المديح

بعد أن دب الوهن في جسد الدولة الإسلامية، وبدأت عوامل الفرقة والانقسام تشق طريقها في تلك المتاهات الحالكة ساد الفكر العربي، ثقافة القطرية أو ثقافة التعصب التي قادت إلى انفراد الأمة وإعلان الاستقلالية السياسية في أكثر من مكان أو اقليم.
بُروز تلك القناعات الفكرية في أوساط مثقفي الأمة كان له تأثير مباشر على عناصر ومقومات الحضارة الإسلامية التي كانت قد تربعت على العرش إبان فترة الاستقرار السياسي .
عبد الرحمن مراد

وقد تهيأ لها المناخ في القرن الرابع الهجري وما تلاه من القرون، ويمكن القول أن عوامل التمدن والاختلاط مع الأجناس الأخرى كان لها تأثير سلبي في بلورة فكر عربي قادر على الصمود، ولعلّ ظهور القصة المترجمة من الآداب الأخرى كالفارسية والهندية قد خلخل الوجدان العربي وبدأت عوامل الابتكار تتلاشى مفسحة المجال للاجترار، فظهرت قصص: الزير سالم، وعنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن … تلك الظاهرة الأدبية المتأثرة بغيرها، كانت تمجد ماضيها هروباً من حاضرها الذي دبّ الضعف في جسده وأنهكه، حتى جعله عرضة لأفعال المغول والتتار، ومهما تكن هناك من إيجابية فذةٍ لهذه الظاهرة يبقى لها جانبها السلبي المماثل يقول جورج زيدان في كتابه ( تاريخ آداب اللغة العربية ) : ” لما شاعت الترجمات الفارسية في العالم العربي أخذ الأدباء في القرنين الثالث والرابع الهجري يجمعون مما بين ايديهم ما يشبهها، ولذلك أصبح لدى المثقف العربي مجموعة من القصص، كان يجتمع عليها العامة للتسامر، والتغني بالبطولات وبدأت لغة تلك القصص تأخذ في الانحدار مبلغاً غير مسبوق، كي تقترب من عامة الناس، حتى استطاعت بلورة النواة الأولى للهجة الدراجة في القرن السابع الهجري وربما قبله “.
تلك العوامل الجديدة كانت تحمل بين طياتها مبدأ التصالح بين لغة الخواص، ولغة العوالم، وقد هيأت المناخ بشكل مباشر أو غير مباشر، لوجود بيئة ثقافية ذات طابع خاص، ووصفها البعض الآخر بالانحطاطية .
أما بالنسية لليمن – محور حديثنا – (فقد كان الشعر يصور الحروب الداخلية، والنزاع على السلطة، فكان في كل صقع إمام ولكل إمام شاعر أو أكثر .. بل كان أكثر الأئمة شعراء تجليات أو نوبات لأنهم فقهاء طمحوا إلى الأدب على أن منهم من أجاد الفن القولي كعبد الله بن حمزة، والهادي بن يحيى بن الحسين .. المهم أن الأصالة تضاءلت كثيراً إلا من القليل … ) (1) وتلك الحالة الاجتماعية والسياسية المضطربة جعلت الحنين إلى الماضي والاعتصام به بمثابة الهروب من ألم اللحظة، وقد تجلى ذلك في بعض المقطوعات كقول علي محمد العنسي :-
يا سميري وللفتوةِ قومُ
خلقوا من سلالة الانسجام
بطراز ” الرفاء ” بتشبيب ” مهيار ”
بلطف ” البهاء ” بطبع ” السلامي”
ثم عرّج بنا على مرقص الشعر
وفتش بنا طريق الغرام
” كعيون المها ” و ” يا ظبية البان ”
ألا فاسقني ” أدر يا غلامي ”
***
وهذه النزعة تعبير عن رفض الواقع، والحنين إلى الماضي، ولعل تلك الصيحة قد سبقها ما يمثلها واتى بعدها ما يشبهها .
***
قلنا فيما أسلفنا إن هناك عدة عوامل بدأت في القرن الرابع الهجري كي تورق في القرون التي تليه، كان لها دور فاعل في خلق مناخٍ مغاير عما كانت عليه الثقافة العربية من القوة والتمكن ولعلها – أي تلك العوامل – كانت أكثر إيناعاً وبروزاً في بداية القرن السابع الهجري خاصة في الأدب اليمني الذي تأثر بشكل أو بآخر بعوامل الانحطاط والفرقة والانقسامات والصراعات السياسية .
ولعلّ قصيدة المدح – وهي محور حديثنا – قد تأثرت بالبيئة الثقافية من حولها، وقصيدة المدح -كما هو شائع- تصور فلسفة الإنسان للآخر، وتنسج العلاقة الجدلية به، وتبدع الصفات الجميلة التي يجب أن يتحلى بها حسب معطيات البيئة .
ويجدر بنا قبل الولوج إلى لبّ الموضوع القول ” إن الصورة الشعرية بناء فني، وطريقة أداء المشاعر والافكار والشعر ارتياد وكشف وتجسيد بالصورة ” (2)
يقول عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ” إن الشعر يصنع من المادة الخسيسة إبداعاً يغلو في القيمة “.
ونستطيع القول إن الصورة الشعرية في العصور الوسطى كانت انعكاساً لإفرازات الواقع الثقافية، الواقع الذي اقتصر في غالبية نتاجه الفكري على الجانب الفقهي، وعلوم اللغة، لذا فقد برزت المصطلحات الفقهية في قصائد المديح بشكل واضح وجلي .. يقول ابن المقري في مدح الملك الظاهر :-
اجعل زكاة ” سديرك ” المعمور
إصلاح بيتي فهو أي فقيرِ
تجب الزكاة على بيوتك كلها
غير البيوت .. لفضلك المشهورِ
وأحقُّ من أدت إليه زكاتها
بيتي لِماَ لَكَ من هوىً في ضميري
***
تكاد الأبيات الآنفة أن تكون ترجمة واضحة عن كتاب الفقه- باب الزكاة ” اجعل زكاة” ” الفقير ” ” تجب الزكاة ” ” وأحق من أدت إليها زكاتها ”
كل تلك المصطلحات تحرج من عمّة فقيه متأدب .
أما الشاعر أحمد محمد العثماني فيقول :-
واشرب ولا يلحقك خوف عقوبة ٍ
فيها، فربُّ حسابها غفارُ
خذها فإن حُلت أصبت وإن تكن
حَرُمت فمحو ذنوبها استغفارُ
***
ألا يبدو العثماني مفتياً اكثر منه شاعراً .. وإلا فأين هو من أبي نواس حيث يقول :-
تكثر ما استطعت من الخطايا
فإنك بالغا رباً غفورا
سَتُبْصِرُ إنْ وَرَدْتَ عليه عفواً
وتلقى سيّداً ملكاً كبيرا
تعضّ ندامة كفيك ممّا
تركت مخافة الله السرورا
***
ألا ترى أن أبيات أبي نواس أكثر منطقية وسلاسة وإقناعاً من أبيات العثماني الذي تعامل مع أبياته بمنطق الفقهاء البعيد عن فنية الشعر وأساليبه، أما ابن أبي الرجال، فقد كان تقريرياً في مدحه أحد ملوك عصره، وجاءت قصيدته جوفاء.. يقول :-
خليفةٌ خصهُ الباري وأيدهُ
بالفتخ والنصرِ والتوفيقِ والظفرِ
واختاره واجتباه من بريته
لما اصطفاه على علمٍ من البشرِ
سِرُّ النبوة فيه غير مستترٍ
عن ناظر ناظرٍ في الحظ والسفرِ
ورأيته نافذ كالسهم أنفذه
من الرمية ربّ القوس والوترِ
***
تأمل في الابيات الآنفة لا تجد شيئاً غير مألوف، فقد قالت ما كان يقال في إطارِ من الوزن، ولعل الممدوح كان يسمع مثل ذلك من العامة .
***
وليس بجديد القول إنّ قصيدة المدح كانت تقوم مقام وسائل الاتصال الحديثة وكانت تهدف إلى بيان الموقف، وتعبِّر عن ذات الرأي، وفي نفس الوقت تستمطر الهبات . ولعلّ عامل الانقسام والتصارع على السلطة قد عَزّزَ من مكانتها عند الحاكمين وارباب الدويلات الكائنة حينها .. يقول علوان الجحدري( ت660هـ ) :

يقودهم الملك الذي في يمينه
عوارف منهن المنيةُ والرفدُ
تحفّ به القومُ الذين سيوفهم
عقائقُ حمدٍ، لا يلائمها غمدُ
رأوا مورداً عذباً فلما دنوا له
وقد أشرعوا قلن المقادير لا وردُ
فجاش عليهم للمظفر عارضٌ
حواليه أرباب الزعامة والجندُ
بسيوفهم سوق السحاب يحثها
نسيم الصبا حتى ألمّ بنا الوفدُ
***
لعلّ شاعرية الجحدري تجلت في هذه القصيدة بشكل استنفد كل طاقتها فبرزت الصورة الشعرية تستدعي كل عوامل التماثل مع الواقع أو تماثل الواقع مع المعاني الصاخبة المختزنة في اللا وعي :-
فجاش عليهم للمظفر عارضٌ
له البيضُ برقُ والطبول به رعدُ
فالغارة تشبه العارض الماطر، وبرق ذلك العارض هو لمع السيوف وطبول الحرب ورعده، ولعلّ العلاقة الجدلية بين الإغارة التي هدفها الانقاذ والمطر متماثلة، وقد لعبت الاستعارة دوراً مهماً في رسم الصورة الشعرية المألوفة والمثيرة للدهشة في نفس الوقت .
إلا أن ابن هتيمل الذي مدح أبن حمير -وهو أحد أدباء عصره- قد حاول أن يرص الألفاظ رصاً، لأن مدح الأقران لا يصدر عن عاطفة جياشة وعن مشاعر الإكبار:-
جمعت في محمد آلة الفضل
فحارت في وصفه الأفهامُ
الجواد الجوادَ والسيدُ السيدُ
والصارمُ ..الحسامُ ..الحسامُ
راعف السيف واليراعةُ تمضي
بيديه … والسيوف والأقلامُ
إنما لابن حمير قدم السبق
وحيداً، وتستوي الأقدامُ
***
لعل تداعيات الظروف التي أجبرت ابن هتيمل على أن يقول تلك القصيدة قد أخرجته من دائرة الإجادة، لأن الأسباب شكلت سبباً لرفض العوالم الباطنة للشاعر لذا كانت صورته باهته كبهوت الغرض، واستدعت ذلك الرص المنمق للألفاظ دون أن يثير فينا الدهشة، وابن هتيمل شاعر مجيد إلا أن جوّ القصيدة فرض عليه تلك الصورة القاتمة، وهو على نقيض أبي بكر بن دعاس الذي مدح المظفر قائلاً :-
إن غاب أفق الملك عن أفق العلا
فانظر ضياء الشمس قد ملأ الملا
لو كان جفن الملك أمسى أرمدا
فاليوم أصبح بالمظفرِ أكحلا
ما كان رزء الملك إلا غيهباً
عمّ الورى واتاه صبح فانجلى
بالملك عاد الكسر جبراً وانثنى
جيد العلا خالٍ وكان معطلا
***
ما يميز القصيدة الوحدة الموضوعية وسلاستها وعفويتها والمحسنات البديعية التي تداخلت معها وكوّنت نسيجها مثل ( ملأ الملا ) ( أمسى الصبح )
(أرمدا – أكحلا )، (غيهباً – صبحاً )، ( حالٍ – معطلا ) أما الصورة الشعرية فهي مألوفة، وتأخذ من المحيط رونقها وإطارها العام من مثل قولة :-
أمهرتها وافي الصداق فمالها
كفؤ سواك ولا تُريدُ تبدلا
وغير ذلك مما تمنعنا عنه رغبتنا في الاختصار، وخوف التكرار أمّا قصائد النصح التي جاهر بها الشاعر المتصوف / أحمد بن علوان أمراءَ دولة بني رسول فتبدو كأنها بيانات سياسية، تلتقط صورة الواقع الحية دون اللجوء إلى التعقيد المعنوي .. مثال ذلك :-
هذي تهامة لا دينار عندهم
ولحج أبين بل صنعاء بل عدنُ
فما ذنوب مساكين الجبال وهم
جيران بيتك والاحلاف والسكنُ
عار عليك عمارات مشيدةَ
وللرعية دور كلها دِمَنُ
***
أما الشاعر العفيف / عبد الله بن جعفر ( ت 713 ه ) فقد استفاد من تراكيب وأساليب القرآن الكريم، ولعل شعراء العصر الوسيط قد حببوا لأنفسهم مجاراة الصياغة القرآنية وظلالها .. فقد قال يصف إحدى المعارك بين المؤيد والأئمة في أعالي اليمن ويمدح بها المؤيد :-
كأن حصن ظفار تحت لجتها
من الهلاك ابن نوحٍ وهي طوفانُ
حتى تظنوا بأن الأرض قد طويت
وأن موضعها خيل وفرسانُ
ويقول في مكان آخر :-
ترك الجبال الشمّ قاعاً صفصفاً
من وعده ووعيده ما أخلفنا
* * *
ولعلّ قصيدة المدح الفصحى قد حطت رحالها عند نهاية القرن الثامن الهجري مفسحةً المجال للقصيدة الحمينية التي بزغت في القرن السابع الهجري كي تثمر في القرن التاسع الهجري وما تلاه من القرون، فارضةً نفسها كأقوى بديل، لذلك لم نقرأ نصاً شعرياً فصيحاً يزاحمها في الجودة، والقوة، والابتكار، وإن كان ثمة نص هنا أو هناك إلا أنه كان مغرقاً في التقليدية والاجترار ولم يأتِ بجديد .
والباحث في هذه القرون يدرك كيف انصرف شعراؤها إلى القصيدة “الحمينية ” رغم معرفتهم بقواعد اللغة .. وليدرك كيف خلقوا منها فناً جميلاً مازالت حناجر المغنيين تتداوله حتى يومنا هذا .
***
ونخلص الى القول إن قصائد المديح في عصر الانحطاط لم تكن قائمة على فلسفة ينشدها المثقف بقدر ما كانت ترجمة أمينةً، ومحاولة يائسة للتنضيد بقصد الاستمرار والتكسب المادي من حكومات الصراع والانقسامات، وقد غلب على الخطاب الشعري في تلك الفترة المصطلحات الفقهية كثقافة سائدة أتت على ما دونها، وفرضت نفسها على غيرها، لذلك كان الشاعر مجرد ديكور يزين الانظمة السياسية والدويلات المتعاقبة بزخارف تجعلها مقبولة من الناس، ولا يخرج عن رأي العامة و لا يأتي بجديد، وإنما يستهلك ما كان مستهلكاً، ويبيع في سوق الكساد بضاعته التي عفى عليها الزمن .
الهوامش:
(1)- عبدالله البدوني / رحلة في الشعر اليمني
(2)- ساسين عساف / الصورة الشعرية في ابداع ابي نواس.
* النصوص المستشهد بها من كتاب / الادب اليمني عبر العصور / محمد سعيد جرادة، وحياة الأدب اليمني في عهد بني الرسول / عبد الله محمد الحبشي.
– الشعر الحميني هو مسمى الشعر الملحون في اليمن وله أشكال الموشح والمبيت، ويمتاز عن القصيدة العامية بكونه يستخدم الوزن المتعارف عليه وقد يخرج عليه، ومفرداته فصيحة لكنه لا يلتزم قواعد النحو .

قد يعجبك ايضا