الثورة/ محمد إبراهيم
فيما تعتبر إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن خروج آخر أفراد القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر من هذا العام، إنجازاً ينهي أطول حرب خاضتها أمريكا في تاريخها، يرى مراقبون دوليون أن واشنطن أبانت بوضوح عن مساعيها لخلق فتنة جديدة وحرب أهلية مستدامة تضمن عودتها إلى البلاد، بذريعة محاربة حركة طالبان، مؤكدين أن مسار السياسة الأمريكية باتت واضحة وجلية في حفاظها على أدوات وذرائع حروبها المستمرة ضد الشعوب، فمن قادت واشنطن ضدهم حرباً 20 عاما هم أنفسهم من تسلمهم وتمكنهم الآن من مواقعها ليخيم شبح عودة تنظيم القاعدة عبر حاضنتها الأم (حركة طالبان) إلى أفغانستان.
خلفية تاريخية
إن الخلفية التاريخية تقتضي الذهاب إلى ظروف ظهور حركة طالبان التي ساهمت واشنطن بشكل أو بآخر في صناعتها يوم أعلنت تضامنها مع أفغانستان البلد المسلم الذي يرزح تحت الاستبداد السوفيتي، ملوحة لحلفائها في الخليج وباكستان وغيرهم من الدول الإسلامية بأن الإسلام قد فرض الجهاد ضد الظلم والطغيان والإلحاد، ما دفع تلك الدول إلى تجنيد الآلاف من الشباب للجهاد ضد الاستعمار السوفيتي الذي كانت تقاومه مختلف الفصائل الأفغانية منذ سبعينيات القرن الماضي، فانتظمت معظم تلك الجماعات الجهادية إلى جانب حركة طالبان، ومنهم ما عرف بتنظيم القاعدة الذي يتزعمه أسامة بن لادن، لتقود أمريكا الحرب مستعرة من وراء الكواليس في زمن الحرب الباردة بين القوتين النوويتين في العالم (أمريكا والاتحاد السوفيتي)، بل غذت أمريكا الحرب الأهلية الأفغانية التي اشتعلت بعد رحيل جيش الاتحاد السوفيتي عام 1988م، عبر حلفائها في الخليج وباكستان، إلى أن سيطرت الحركة على مقاليد الحكم في البلاد 1996م، وفي عام 1997م كانت باكستان والإمارات والسعودية أبرز حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط، أول من اعترف بحركة طالبان حاكما شرعيا لأفغانستان المنهكة تحت ويلات الحروب، لتحكم الحركة البلاد بقبضة من حديد، وبتحالف واضح مع تنظيم القاعدة الذي يتزعمه أسامة بن لادن، معلنا نهجه في استهداف المصالح الأمريكية، منتهكة حقوق الشعب الأفغاني، وغير قادرة على إنقاذ الفقراء من تباعات الكوارث الطبيعية ومن شراسة العوز والفقر والمرض.
وفي أكتوبر من نفس العام أصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 1267 الذي يقضي بفرض عقوبات على حركة طالبان الحاكمة لدعمها أسامة بن لادن الذي تتهمه الولايات المتحدة بالضلوع في تفجير سفارتيها بنيروبي ودار السلام، وفي أواخر العام نفسه ترددت أخبار عن عزم أسامة بن لادن الخروج من أفغانستان، إلا أنه بقي فيها، وفي يناير من العام 2000م اتهمت الأمم المتحدة حركة طالبان بانتهاك حقوق الإنسان وقتل مدنيين في منطقة يقطنها أقلية الهزارة، واستمرت سيطرة طالبان على مقاليد الحكم والتهديدات العلنية لكل مصالح أمريكا في المنطقة بل والوصول إلى العمق الأمريكي، وفي الحادي عشر من سبتمبر عام 2000م اختطفت طائرتان مدنيتان واستهدفتا برجي التجارة العالمية وسط نيويورك، وهو ما اعتبره محللون سياسيون تدبيراً أمريكياً لخلق ذريعة لدخول أفغانستان، مؤكدين أن تنظيم القاعدة الذي أعلن مسؤوليته عن الحادث كان مخترقا من الاستخبارات الأمريكية بعناصر متشددة هي من تحرك التنظيم، لخدمة الإدارة الأمريكية واضفاء مشروعية الحرب التي لا تهدف إلى نهب الثروات واستبداد البلاد، وأن شعارات تحرير أفغانستان من الإرهاب ليس إلا ذريعة واهية.
الحرب ومسار تحولاتها
وفي أكتوبر من 2001م شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها (الناتو) على أفغانستان هجوماً مدمراً طال البنية التحتية في البلاد، وبالرغم من أن أمريكا نجحت في الإطاحة بحركة طالبان بذريعة احتضانها إسامة ابن لادن المسؤول عن تفجيرات 11 سبتمبر، لكنها لم تنجح في القضاء على الحركة، ورغم ذلك فقد أعلنت القوات الأمريكية وقوات الناتو في ديسمبر 2014م رسميا انتهاء مهمتهما القتالية، والانتقال إلى مهام الدعم والتدريب للقوات الأفغانية، والرئيس باراك أوباما يصرح للقوات الأمريكية بتنفيذ عمليات ضد أهداف طالبان والقاعدة، لكن ذلك الإعلان والعمليات لم يكنا سوى ايذان أمريكي لطالبان للاستعداد لاستلام البلاد، واعتراف ضمني بالفشل الذي يبدو أنه فشل امريكي في القضاء على الإرهاب المزعوم، لكن مراقبين اعتبروا ذلك سيناريو جديداً يخفي خلفه تغير استراتيجية أمريكا بالحفاظ على أدواتها ذرائعا لعودتها الى أفغانستان، بحجة مواجهة حركة طالبان التي تصاعدت هجماتها خلال (2015-2018م) بصورة شبه يومية على القوات الأفغانية والأمريكية واستولت على ما يقرب من نصف البلاد، كما ظهرت في الشرق جماعة تابعة لتنظيم ((داعش)).. ومع ذلك وقعت الولايات المتحدة في فبراير 2020م مع طالبان في العاصمة القطرية الدوحة، اتفاقا سياسيا يحدد إطاره جدول زمني لسحب حوالي 13 ألف جندي امريكي لا يزالون في أفغانستان، ويُلزِم مقاتلي طالبان بوقف الهجمات على الأمريكيين، وفي أبريل الماضي أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن القوات الأمريكية المتبقية في أفغانستان -التي يتراوح عددها بين 2500 و 3500 جندي- سيتم سحبها بحلول 11 سبتمبر المقبل، وفي مايو الماضي تسارعت مكاسب حركة طالبان على الأرض، وسيطرت على مناطق متعددة في الشمال، وفي الثاني من يوليو الجاري سلمت الولايات المتحدة قاعدة باغرام الجوية -وهي قلب الوجود العسكري في أفغانستان طوال الحرب- للسيطرة العسكرية الأفغانية بعد مغادرة آخر القوات الموجودة في القاعدة.
تكلفة الحرب
ذلك هو مسار أطول حرب أمريكية في تاريخها استمرت 20 عاما، لكن السؤال الأهم هو كم تكلفة هذه الحرب.؟، وفي سياق الإجابة على هذا السؤال قدرت مراكز أبحاث رصدوية عالمية، أن تكلفة عشرين عاماً من الحرب كانت باهظة جدا، إذ طالت الخسائر الأرواح بين الجيش الوطني والشرطة في أفغانستان راح ضحيتها أكثر من 64100 عنصر منذ أكتوبر 2001م حتى مطلع العام 2019م، ووفقا لبعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان (أوناما) فقد قُتل أو جُرح ما يقرب من 111 ألف مدني منذ أن بدأت في تسجيل الخسائر المدنية بشكل منهجي في عام 2009م، كما تشير بعض التقارير إلى أن أكثر من 60 ألفا من أفراد القوات المسلحة الأفغانية قتلوا في معارك الغزو الأمريكي للبلاد.. ومن القوات الأمريكية ذكرت التقارير الأمريكية أن نحو أكثر من 2400 جندي أمريكي لقوا مصرعهم في مهمة الغزو الاستعمار لأفغانستان، وجُرح أكثر من 20 ألفاً آخرون، إلى جانب مقتل أكثر من 450 بريطانياً والمئات من الجنسيات الأخرى.
كما أن تكلفة عشرين عاماً من الحرب العدوانية على أفغانستان لا يمكن حصرها في الخسائر البشرية والمادية والدمار للبنية التحتية ونهب الثروات، بل إن التكلفة تعني ضياع جيل كامل وتجهيله والقضاء على مستقبله، في البلاد، كما كلفت الحرب الخزانة الامريكية تريليونات الدولارات خلال (2001-2019م)، كنفقات على قواتها العسكرية التي قتلت ما لا يقل عن 100 ألف مدني أفغاني، إلى جانب الضحايا من الأمنيين والعسكرين المشار اليهم سابقا، والأكثر غرابة أن المراقبين الدوليين أكدوا أن الحرب أظهرت أن هناك حدودا لقوة النيران، حيث لا يمكن للقوة أن تحسم الصراع لأي طرف وهي استراتيجية أمريكية تسعى دائما للحفاظ على ذرائع استمرار الحروب بالقدر الذي يمكن شركاتها النفطية المحاطة بالمارينز من استلاب ثروات الشعوب.
أخيرا
قد يكون الانكشاف الكبير لاستراتيجية الإدارة الأمريكية السياسية في حسابات الوقت والإنسان والأرض الأفغانية، من الأهمية بمكان أن يمثل درسا يجب أن تستفيد منه شعوب العالم التي تتعرض للهيمنة والاستبداد الأمريكي تحت شعارات زائفة لا صلة لها بالواقع، لكن الأهم في ملف أفغانستان هو ما يراه خبراء السياسة الدولية ومراقبو قوانين حقوق الإنسان من أن من يحكم أمريكا هم عبارة عن مجموعة من المستبدين واللصوص يصنعون الذرائع وأسباب الحروب ليس لخدمة الشعوب ولا لحماية حلفائهم فلا يعنيهم من يحالفهم بعد وصولهم للغنيمة، وما تتصنع به الإدارة الأمريكية أمام شعبها وأمام العالم ليس سوى تضليل هائل وكبير وتغطية على جرائمها في نهب الثروات واستمرار الهيمنة الاقتصادية العالمية، والدليل الواضح هو خروج أمريكا تحت جنح الظلام دون إعلام مسبق للجانب الأفغاني الذي كان حليفاً لها على امتداد العشرين عاماً، بل كشفت مواقعها ومواقع القوات الأفغانية الحليفة لحركة طالبان للانقضاض عليها غداة مغادرة الجيش الأمريكي، وبطريقة تفضح شعارات الإدارة الأمريكية في السلام وإنهاء الصراعات، وتحرير الشعوب من الدكتاتوريات وغيرها من الشعارات التي ليست سوى ذرائع لكل حرب ظالمة تقودها ضد أي شعب بغية السطو على ثرواته واستبداد أبنائه وممارسة جرائم الإبادة والتنكيل بهم دون رادع من ضمير.