بالتزامن مع حروب صعدة الست، التي شنها النظام اليمني السابق على المواطنين في صعدة، كانت هناك حرب ثقافية أرادت الإغارة على الموروث الثقافي والفكري لشريحة كبيرة من اليمنيين، وطمسها، وإبادتها، وقد سلّطت تلك السلطة مدعومة من النظام السعودي عددا من الأقلام الممولة، والصحف الصفراء، والكتيبات المجانية، للتشكيك في الموروث اليمني الثقافي والفكري، والذي يتعلق بمدرسة أهل البيت في اليمن، ومن ذلك الادعاء بأن التعيد بعيد الولاية وعيد الغدير تعيد مبتدع، ورددوا أن اليمنيين لا يعرفون هذا العيد، إلا من وقت قريب، وادّعت تلك الأقلام الممولة من جنرالات الحرب آنذاك بدعية عيد الغدير، وعدم معرفة اليمنيين له من قبل عصر المتوكل على الله إسماعيل المتوفى سنة (1087هـ)، لكن حقائق تاريخية تدحض هذا الزعم وترده في وجه صاحبه، وهي كثيرة ومنها:
1 – قول المؤرخ أبي الحسن المسعودي مؤلف مروج الذهب المتوفى سنة 346هـ في كتابه (التنبيه والإشراف، ص221، طبعة دار صادر): “ووُلْد علي -رضي الله عنه- وشيعته يعظِّمون هذا اليوم”، علما أنه ألف كتابه هذا في سنة 344هـ ثم نقَّحه في سنة 345هـ، وهو تاريخ يثبت أن أهل البيت -عليهم السلام- وشيعتهم ما فتئوا يحتفلون بهذا اليوم ويعظمونه منذ دهر طويل.
2 – لقد أُثِر عن الإمام الناصر الحسن بن علي الأطروش (ت304هـ)، وهو الإمام الزيدي المعروف قولُه بندبية الصيام في يوم 18 ذي الحجة، وتأكيد من جاء بعده من فقهاء الناصرية لكون حادثة الغدير فيه (شرح الأزهار، ج2، ص55، الهامش)، وقد تم نقل ذلك في كتب الزيدية في اليمن بشكل شائع.
3 – ما هو معروف عن أئمة أهل البيت -عليهم السلام- بدءا من أمير المؤمنين علي -عليه السلام- ومرورا بالإمام زيد والقاسم بن إبراهيم والهادي يحيى بن الحسين، وإلى عصرنا الحاضر، وكونهم لا يزالون يذكّرون بحديث الغدير ويرددونه في المحافل، في هذه المناسبة وغيرها، فهذا أمير المؤمنين علي في أيام خلافته في الكوفة بلغه أن قوما يتهمونه فيما يذكره من تقديم رسول الله إياه على من سواه، فاستنشد من بقي من الصحابة ممن سمع حديث الغدير إلا قام فشهد بما سمع، فقام من كان حاضرا منهم وشهدوا بحديث الغدير، وهذه قضية اشتهرت في كتب المحدثين من أهل السنة بالمناشدة يوم الرحبة. وشعره المشهور في مصادرهم الذي يقول فيه:
فأوجب لي ولايته عليكم … رسول الله يوم غدير خمّ
فويلٌ ثمّ ويلٌ ثمّ ويل … لمن يلقى الاله غداً بظلمي.
(الأميني، الغدير، ج2، ص48 – 49، نقلا عن مصادر عديدة من مصادر أهل السنة).
ومما يفعله اليمنيون في يوم الغدير هو التثقف بثقافة الغدير، ورواية الحادثة، والانتفاع بمضامينها.
4 – كان موضوع الغدير حاضرا في ثقافة اليمنيين وزعمائهم، ومنهم ذلك الزعيم الأرحبي وهو الدعام الهمداني المعاصر للإمام الهادي يحيى بن الحسين (ت298هـ) والمناقض له في بعض الأحيان، وقد ذكر في شعر له موضوع الغدير بما يشير إلى تداول موضوعه في ثقافة زعماء اليمن في ذلك العصر (التحف للعلامة المؤيدي، ص197).
5 – وقبل ذلك كان هناك القاضي عبدالرزاق بن همام الحميري الصنعاني (ت211هـ)، وغيره من علماء الحديث المشهورين في اليمن، لا يزالون يروون حديث الغدير والاستخلاف وغيرهما، وقد نهى بنو العباس القاضي عبدالرزاق، وأنكروا عليه ونالوا منه بسبب أحاديث رواها في فضائل علي -عليه السلام-، وهو أمر يشير إلى ثقافة الغدير التي كانت في اليمنيين وعلماء اليمن حتى منذ ما قبل مجيء الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين.
6 – ذكر أبو جعفر محمد بن يعقوب الهوسمي (ت455هـ)، وهو أحد المهتمين بفقه الإمام الناصر الأطروش آنف الذكر، ومؤلف كتاب الكافي في فقهه، ذكر فيه أنه يستحب صيام يوم الغدير، وروى الاستحباب عن أئمة العترة، كما ذكر أنه يستحب لمن صام أن يصلي ركعتين، يدعو فيها بالشكر لله على نعمه (شرح الأزهار، ج1، ص55، الهامش)، وقد نقل ذلك عنه أيضا القاضي عبدالله بن زيد بن أبي الخير العنسي اليمني المتوفى سنة 667هـ في كتابه (الإرشاد إلى نجاة العباد، ص460)، وذكر فيه أن تلك الصلاة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإمام علي -عليه السلام- وعن الأئمة المتقدمين.
7 – قال أبو مضر شريح بن المؤيد (من أعلام الزيدية في القرن الخامس الهجري)، ومن أصحاب الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (ت411هـ) ذكر أنه يستحب صوم يوم الغدير عند أئمة العترة، ونصّ أنه يوم عيد عندهم، وذكر فضلا عظيما للصلاة فيه، والتي هي صلاة الشكر، وذكر أيضا أن هذا العيد هو يوم العيد الأكبر، وفيه فضل يطول، وقد نقل ذلك عنه في (حواشي كتاب شرح الأزهار، ج2، ص55).
8 – روى الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الشجري (ت499هـ) في الأمالي الخميسية بسنده إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: “الثامن عشر من ذي الحجة عيد الله الأكبر ما طلعت عليه شمس في يوم أفضل عند الله منه، وهو الذي أكمل الله فيه دينه لخلقه، وأتم عليهم نعمه، ورضي لهم الإسلام دينا، وما بعث الله نبيا إلا أقام وصيه في مثل هذا اليوم، ونصبه علما لأمته”، ودعى الصادق -عليه السلام- في هذا الأثر أن يحسن المرء في هذا اليوم إلى نفسه وعياله وما ملكت يمينه في ما قدر عليه، وهي أمور تدل على عيدية الغدير عند أهل البيت المتقدمين.
9 – روى الإمام الحسن بن بدر الدين المتوفى سنة 670هـ من أئمة اليمن في كتابه أنوار اليقين في إمامة أمير المؤمنين (مخطوط) حديث الإمام الصادق السابق والمذكور في الأمالي الخميسية.
10 – ذكر الأمير الحسين بن بدر الدين المتوفى سنة 663هـ في كتابه (شفاء الأوام ج1، ص541، طبعة جمعية علماء اليمن) أنه يستحب صيام يوم غدير خم، ونقل عن أبي مضر قوله: إنه يستحب صيامه عند سائر العترة -عليهم السلام-، وقال: “يوم الغدير يوم عيد عند أهل البيت -عليهم السلام-، ويستحب صيامه”، ونقل ذلك السيد العلامة حمود بن عباس المؤيد -رحمه الله- في تلخيصه (النور الأسنى) لأحاديث الشفاء.
11 – لما توفي الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير أخو السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير في يوم 19 من ذي الحجة سنة 822هـ وكان موته فاجعة لليمانيين حتى أن الدولة اليمنية آنذاك أمرت بالحداد الرسمي عليه، وقد رثاه الفقيه عبد الله بن عتيق الموزعي الشافعي المعروف بالمزّاح، وذكر في قصيدته أن موته كان في أشرف الأعياد إذ قال:
أما الدليل على عظيم ثوابه فمماته في أشرف الأعياد
(مطلع البدور، ج4، ص438)
والشاعر هنا لم يكتف بوصف الغدير بكونه عيدا، بل دعاه (أشرف الأعياد)، وكونه في 19 ذي الحجة لا يضر؛ لأن اليوم الواحد مما يتسامح فيه بسبب عادة اختلاف الناس في مطالع الشهر.
12 – وجاء العلامة الشهير يحيى بن أحمد مظفر المتوفى سنة 875هـ فذكر في كتابه (البيان الشافي) في الفقه الزيدي أنه يستحب صيام يوم الغدير وعلّله بأنه عيد المسلمين، وورد فيه الحديث في ولاية أمير المؤمنين.
13 – وهذا العلامة صلاح بن أحمد المؤيدي المتوفى سنة 1044هـ ذكر في كتابه شرح الهداية في الفقه الزيدي أيضا أنه يستحب الاغتسال في يوم الغدير 18 من ذي الحجة، وكذلك يوم المباهلة وهو يوم 4 شوال من كل عام.
وهكذا نجد أن هذا العدد الكبير من اليمنيين الذين وُجِدوا قبل عصر المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، وبعضهم بمئات السنين يخصّون يوم الغدير بخصوصية مميزة؛ لكونه يحمل ذكرى يوم الولاية فيخصونه بالتعيد، إما بصيام أو صلاة أو اغتسال أو احتفال، أو مجلس تذكير أو فرح وسرور، وأنهم عدوه يوما يفرح فيه المؤمنون بفضل الله ونعمته امتثالا لما أمر الله عز وجل به حيث يقول: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)، وهذا غيض من فيض.
14 – على أنه لو افترضنا أنه لم يكن هذا الاحتفال معروفا في العصور السابقة فإن فعله اليوم لن يكون إلا سنة حسنة لا بدعة سيئة؛ لأنه يندرج تحت عنوان عام وهو الفرح بنعمة الله، وإبلاغ ما أمر الله رسوله بإبلاغه، وكم من الاحتفالات والمناسبات والذكريات الجديدة في عصرنا هذا يفعلها الناس ولا ينكر عليهم فيها أحد، مثل الاجتماعات الحزبية والمهرجانات الانتخابية والتأبين للشهداء والمظاهرات ضد الأنظمة الفاسدة والظالمة، فما كان منها ذا وجه حميد ويندرج تحت عنوان عام من الخير والبر والمعروف فهو سنة حسنة، وما كان منها يندرج تحت عنوان سيئ مثل المهرجانات التي تشتمل على بعض المحظورات الشرعية فهي من البدع السيئة، ليس لكونها مهرجانات ولكن لكونها مشتملة على ما حظره الشارع الحكيم.
15 – يقتدي المحتفلون بيوم الولاية بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويتأسون به، ويحيون سنته، حين جمع المسلمين وهم عشرات آلاف الحجاج العائدين معه منقلبَه من حجة الوداع في غدير خم بالقرب من الجحفة، وأعاد سابقهم، وانتظر متأخرهم، وأعلن فيهم ولاية الإمام – علي عليه السلام – وفِعْلُ رسول الله ولو مرة يدل على الجواز، ويندرج تحت قوله تعالى: (لقد لكم في رسول الله أسوة حسنة …الآية)، وحين يجتمع المسلمون ويسمعون من الخطيب نبأ حديث الغدير ودلالاته إبلاغا لما بلَّغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وروايةً لما أراده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن ذلك من صميم السنة؛ لأن الخطابة في هذا الموضوع، وحشد الناس، واجتماعهم لسماع الموعظة في ذلك، كلُّها أمور فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه فالذي يتأسّى برسول الله من خلال هذه الأمور إنما يسلك سبيل البر والعلم وإبلاغ الحجة التي بلّغها رسول الله، ويشارك في نشر العلم الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نشره، ولا ضير في ذلك ولا بدعة، بل هو مما يؤجَرُ عليه المرء، فيندب إلى فعله.
وفي بعض الحالات كحالة جهالة الناس بموضوع الولاية، وتغلُّب أهل العناد بنشر أفكارهم المناقضة لهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوساط الناس فلا يبعُد أنه يجب إبلاغ حديث رسول الله بولاية الإمام علي عليه السلام على سبيل الكفاية، بالطريقة المناسبة سواء بالخطبة، أو بالندوة، أو بالدرس في الحلقة العلمية، أو بالإجابة على السؤال، أو بالتأليف والنشر، أو بأية وسيلة إعلامية، وربما يكون المرء مخيرا في اختيار الوسيلة في حالة التعدد إذا استوى تأثيرها.
16 – يذكر المفسرون من الشيعة والسنة أن الله أنزل قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) حين أبلغ رسول الله ولاية الإمام علي -عليه السلام- بغدير خم، كما هو ثابت في عشرات المصادر السنية والشيعية، وإذا كان اليوم متعلقا بكمال الدين وتمام النعمة ورضى الله عز وجل فإنه لموجِبٌ عظيم ومقتضٍ كريم من موجبات ومقتضيات الفرح والاحتفال، وهي قضية فطرية واجتماعية وإنسانية، يستعيد الناس فيها الذكريات الموجبة لفرحهم والمستدعية لسرورهم، ولا يزالون يقفون عندها وقوفا خاصا، وأي شيء ينبغي الاحتفاء به والإشادة من يوم إكمال الدين وتمام النعمة، ولهذا قال أحد أهل الكتاب بحضور الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: لو نزلت فينا هذه الآية (اليوم أكملت لكم نعمتي …) لاتخذنا يوم نزولها عيدا، فأقره الحاضرون، وصدر من الخليفة عمر بن الخطاب ما يشبه التقرير له كما ورد ذلك في البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
17 – ومما يدل على كون حادثة الغدير مما يُفْرَح ويحتَفَى بها التهنئةُ التي صدرت من الشيخين وأمهات المؤمنين وغيرهم من الصحابة بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين -عليه السلام- عقيب حادثة الغدير، والتهنئة من خواص الأعياد والأفراح، وقد خرّج العلامة الأميني في كتابه الغدير تهنئتهم من 60 مصدرا معظُمها من مصادر أهل السنة المعتبرة، وزاد محقق كتابه (عيد الغدير في الإسلام) تخريجها من 42 مصدرا أيضا، وكثير منه يتضمن التهنئة مشفوعة بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويذكر المصافقة بالبيعة المذكورة مع ابتهاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (الحمدلله الذي فضّلنا على جميع العالمين)، وهي حالات وظروف لا تكون إلا في الأعياد.
18 – وأخيرا يظهر بوضوح الفطرة ويقين التجربة أن الإنسان أي إنسان يسعَد بالأمر المفرح، ويميل إلى السعادة بالنعمة، والتعبير عن هذا الفرح وتلك السعادة قد يتخذ صورا عديدة وأشكالا مختلفة، وهذا أمر معروف لا مكابرة فيه، فهذه عادة الناس جميعا شعوبا ودولا وأفرادا، فهم يتخذون لأنفسهم ولشعوبهم أعيادا ومناسبات شخصية ووطنية ودينية وقومية وثقافية وفكرية، حتى تلك الدول وتلك الجماعات المشار إليها سابقا والذين يحرصون على (تبديع) الاحتفال بالغدير، نراهم يحتفلون بأعيادهم الوطنية، ويبتدعون لأنفسهم أعيادا ومناسبات جديدة، فبينما هم يولولون ويضجون ويملؤون الدنيا صراخا وعويلا ومؤلفات وأشرطة في تبديع الغدير أو المولد النبوي نجدهم في اليمن وفي السعودية وغيرهما يحتفلون بأعيادهم الوطنية والشخصية، ويهنئون قادة البلدان الأخرى في أعيادهم، بل ويهنئون القادة من أهل الملل المناقضة للدين الإسلامي من اليهود والنصارى والبوذيين والكونفوشيوس والهندوس والوثنيين واللادينيين، ولا تسمع لعلمائهم حسا ولا ركزا حينذاك، ولكن ترتفع عقيرتهم وتبُحُّ حناجرهم تحذيرا فقط من عيد الغدير أو المولد النبوي أو ذكرى الهجرة، وكأنهم يعيشون حالة عداء مع كل ما هو إسلامي، ويعيشون حالة من الانسجام والتناغم مع الجديد من الأعياد في هذا العالم كعيد الميلاد، وعيد العمال، وعيد الشجرة، وعيد الأم، واليوم العالمي للمرأة.