في معادلة النصر الإلهي لا قيمة لمعادلات البشر العسكرية، ولا وزن لحساباتهم الحربية وخططهم التكتيكية؛ فهذه العوامل لا تعتمد عليها إرادة الله الخاصة في توطيد دعائم النصر، والتي لا يقف أمامها أي تفوقٍ صناعي ولا أي فارق مادي قد يترتب عليه رسم ملامح النتيجة الأخيرة للمواجهات.
ذلك أن التفوق في هذه المعادلة يعتمد على عوامل جوهرية أخرى لا ترتبط ارتباطاً مباشراً بالعوامل المادية والحسابية وحشد الجنود وبذل الأموال وهذا ما يؤكده قوله تعالى ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنـَّهُم مُّلقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
فالآية تشير إلى كثرة المعارك التي انتصر فيها القلة على الكثرة، والقلة في الآية تشير الى قلة العدد والعتاد، والكثرة فيها أيضا تشير إلى كثرة العدد والعتاد، والآية في معناها العام توضح أن القلة الذين اعتمدوا في مواجهتهم على توفر العوامل المعنوية هم من انتصروا على الكثرة الذين اعتمدوا على العوامل المادية.
لقد خلق الله البشر وأودع فيهم من الأسرار والخفايا العظيمة ما يكفيهم للقيام بدورهم في هذه الحياة إذا ما تحركوا بالحق وعلى الحق، وفي سبيل الحق. وأنزل إليهم القرآن الكريم؛ ليكشف تلك الأسرار، ويظهر تلك الخفايا، في بناء النفوس وتزكيتها، وتطهير الأرواح وتنقية القلوب، وتقوية الأجسام، ويتجسد كل ذلك منهم بمواقف عباده المؤمنين، وفي المواقع التي يحب الله لهم أن يكونوا فيها، ويرضى لهم الانطلاق منها نحو الغايات السامية التي أمرهم ببلوغها وكل ذلك؛ لتحقيق مبادئ القسط على وجه هذه الأرض، ودفع الظلم والجور عن العباد ، ودحر الفساد والمفسدين.
وتلك هي ثمار القرآن الكريم في هذا الإنسان؛ فهو المنهج الذي يوصلهُ إلى هدفه الحقيقي، ويزوده بالقوانين اللازمة في كل شؤون الحياة، وفي ميدان المواجهة والصراع الأزلي بين الحق والباطل صاغت آيات القرآن الكريم أصدق وعود النصر ضمن معادلة إلهية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
فالطرف الأول في هذه المعادلة يتجلى في قول الله سبحانه وتعالى: {ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍۢ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ}. فالنصر لا يكون إلا لمن نصروا الله في إعلاء كلمته ورفع رايته وإحقاق حقه وابطال باطله ودفع الظلم عن المستضعفين؛ وهذا يلزم على المنتصر أن تكون له قضية عادلة يحملها ،ويتحرك فيها ضمن منهجية الحق.
وبالمقابل فمن المستحيل أن يكون النصر حليف من سلبهم الله سلامة التقدير وصحة التدبير؛ فتحركوا على باطل، وأوغلوا في إجرامهم لأن هؤلاء سيكون مصيرهم الانزلاق في مهوى الهزيمة والخزي الأبدي.
والطرف الثاني منها يتضمنها قول الله سبحانه وتعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} ، وهذه الآية تلزم على من يخوضون المواجهة أن يكونوا رجالاً والمرجلة هنا ليست متسمة بعلامات الذكورة ولكنها المرجلة المقرونة بصدق المواقف والثبات على الإيمان والحق وعدم التبديل؛ وهنا علينا أن ندرك أهمية الإعداد النفسي والروحي والجسمي للفرد من خلال تزكية النفوس، وتطهير القلوب، وتنقية الأرواح، وبناء الأجسام القوية القادرة على خوض الصراع والمواجهة؛ وهذا ما صنعهُ القرآن الكريم من خلال تعريف العباد بحقيقة الصراع بين الحق والباطل، وحقيقة هذه الحياة الدنيا وحقارتها ودناءتها، وأنها ليست سوى ممرٍ إلى النعيم الأزلي أو العذاب الأليم، وتوضيح أقصر ممر فيها لبلوغ الرضوان الآلهي للمضي فيه ،وقطع مسافته في أقصر مدة؛ فصدَّق كلام الله الرجال الذين كرهوا الحياة الدنيا الفانية وعشقوا الحياة الآخرة الأبدية وآمنوا بقضيتهم العادلة، وتجسٌدت فيهم قيم الشجاعة، وعشقوا الشهادة في سبيل الله؛ وتنامت فيهم مبادئ الإقدام والثبات والصبر والاحتساب؛ فوهبوا حياتهم لله، وأعمالهم لله، وانطلقوا بدوافع نفسية وروحية قوية تتجلى بفرارهم من حياة فانية إلى حياة خالدة؛ ليستثمروا الموت عند ربهم؛ فخاضوا المواجهات بلا خوفٍ ولا وهنٍ ولا ذلةٍ ولا استكانةٍ ولا تراجع؛ فأفاض الله على من اصطفى منهم بنعمة الشهادة وعلى من تبقى بنعمة التأييد والتمكين وخصهم ببركات النصر المبين…
وبالمقابل فمن المستحيل أيضا أن يكون النصر حليفاً لأشباه الرجال، وجبناء النفوس، وفقراء المبادئ، وعشاق الملذات والنزوات؛ لأنه بمجرد إحداق الخطر بهم لن يستطيعوا الثبات لحظة واحدة وسيهربون مثل الأرانب .
إذاً فالقضية العادلة +الرجال المؤمنين الصادقين = النصر المبين.