حين جعلت هذه الحلقة هي الأخيرة فذلك لا يعني أني قد أشبعت الموضوع وإنما لأني خشيت أن أكون قد أثقلت على القارئ الذي يطلب من اليوميات ما لا يطلبه من المواضيع الجافة ومواضيع القانون والقضاء من أثقل المواضيع على القراء إن لم تجد من يلبسها ثوباً يجمع بين روح القانون وفلسفته ويحاول جعلها تلامس معاناة الناس من أوضاع القضاء بأسلوب أكثر سلاسة وبما يظهر الحقيقة ويحافظ على مكانة هذه المؤسسة كحارس لمبدأ سيادة القانون ، لذلك سيبقى موضوع الإعلام القضائي كمصطلح جديد محل دراسة جادة تحيط بجوانبه تعريفاً ومضموناً ، وما قدمته للقارئ في الحلقات السابقة لم يكن سوى إيماءات وتساؤلات سريعة يمكن الاستفادة منها لبحث معمق مستقبلاً من أي مهتم ، إنها محاولة لفتح الباب لا أكثر.
وهذه الحلقة وجدت من المناسب تخصيصها للبحث عن إجابة على سؤال يطرح نفسه بإلحاح : هل بالإمكان بناء جسور الثقة بين المواطن والقضاء في ظل كل ما نسمع ونرى وكيف ؟؟!! : مضمون السؤال بالتأكيد لا يعجب القضاة المتعامين عن رؤية الحقيقة لأنه يقوم على فرضية أن هذه الثقة مفقودة وقد قلت فرضية مراعاة لهذا البعض من القضاة ، أما المواطن وأصحاب البصيرة من القضاة الشرفاء في المقابل وبالذات من يعاني من ممارسات القسم الأول فيرون أن انعدام الثقة حقيقة لا ريب فيها وليست فرضية قابلة للنقاش إلا في مستواها لا في حقيقة وجودها !، ولا يوجد مواطن بعيد عن المعاناة من أوضاع القضاء ، ولهذا فللجميع صفة ومصلحة في تناول هذا الهم المشتعل لذلك فمواجهة هذه المعاناة بكل الطرق القانونية حقٌ في القانون وفي الدين الإسلامي يدخل ضمن الحق العام في ممارسة فريضة :(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) التي يفترض كذلك أنها تُبقي المسلم المتمسك بها في أعلى مستويات الإحساس بمسؤولياته ، صحيح أن الجدل حول ما هو معروف وما هو منكر لم يحسم ولن يحسم إلا حول المبدأ العام وبعض المسلمات مثل إنكار الظلم مطلقاً واعتبار العدالة أساس شرعية ومشروعية أي نظام سياسي أو اجتماعي ولكن هذه الدرجة العالية من الإحساس بالمسؤولية يُفترض أن تكون دائمة الحضور واليقظة في ضمير كل مسلم وحيال جميع القضايا المتعلقة بالشأن العام ، وكل ما يتعلق بتسيير سلطات الدولة وأوضاعها يحسب شأناً عاماً وأي خلل في أدائها لواجباتها منكراً لا يجوز أن نقول لمن يناقشه : توقف ، والقضاء هو أكثر أنشطة المؤسسات العامة صلة بدماء الناس وأموالهم وأعراضهم وكل شؤون حياتهم ، لذا لا يواجه من يناقش شأناً من شؤونه أو شؤون العدالة عموماً بالقول : (من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه )، لأن النأي بالنفس عنوانٌ براق يراد منه تضييع حقوق الأفراد والجماعات في الداخل والتهاون في التمسك بسيادة دولهم أمام تدخل الخارج ولكل مواطن الحق في مناقشته واتخاذ ما يلزم بشأن إسماع صوته ومتابعة ما تم بشأن الاختلالات التي عانى منها أو رآها أو لمسها ، ومن غير المعقول أو المقبول وفق هذا المبدأ أن تدعو مواطن : عليك للضرب عرض الحائط بما يمس شؤون حياته وتدعوه لعدم الخوف على صحته وأمنه واستقراره والحفاظ على أمواله وممتلكاته وكل تفاصيل حياته وهو يرى على أرض الواقع ما يهدد كل ذلك.
والمواطن يعبر عن هذا القلق عبر وسائل الإعلام المتاحة إما بكلمات غاضبة أو متوسلة ، بعيدة النظر أو قصيرة ، محبة أو مبغضة ، وأيا كان مستوى حرارة نبضها ولغتها لا بد أن تجد لدى راسم السياسة القضائية قلباً نابضاً وعقلاً راجحاً وروحاً متيقظة بالتقوى والوعي مستعد لاستيعاب كل الحقيقة عن كل التفاصيل أياً كانت فهذه إلى جانب توفير الحصانة والحماية للقاضي المحترم للعدالة من محاولات التأثير على قناعاته ومن أي نوع من التدخل يهدف إلى التأثير على قناعاته بما يمس العدالة ، والقاضي الحر الشريف قادر بسلوكه على حماية نفسه وانتزاع ما يستحقه من الاحترام من خلال إجراءاته الصحيحة الشفافة وأحكامه الحريصة ووفق القانون على أن تكون ناطقة بالعدل والحكمة ونفاذ البصيرة ،وهذه هي الغاية من وجود القاضي والقضاء وواجب المؤسسة في توفير الشروط الموضوعية والقانونية لحماية القاضي الملتزم ببذل جهده في تحقيق العدل وسيلة مهمة لتحقيق تلك الغاية ولهذا وجدت لتجعله غير آبه بأي سلطة تحاول قهره أو تتدخل بمحاولة التأثير على تكوين قناعاته؛
إذا فعلاقة أي مواطن بالإعلام والرأي العام علاقة حياة أو موت، والسعي لإسكاته كالسعي لقتله وإنكار لمبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .
ويمكن الحد من البلبلة وتعمد تشويه سمعة القضاء بدون وجه حق من خلال الإجراءات الملموسة والشفافية في التعامل وليس بالقمع لأن القمع لا يولد سوى مزيدا من الحقد والضجيج والتوتر والغموض الذي لا يقود إلا إلى الريبة وعدم الثقة بين المواطن ومؤسسته القضائية كما هو الحال مع كل مؤسسات سلطات الدولة.
استعادة ثقة المواطن بالقضاء تتطلب من المؤسسة القضائية الاعتراف أولاً بحقيقة انعدام الثقة والاستعداد الواعي لإجراء حوار علمي جاد وهادئ معزز بروح التواضع والمسؤولية وجدية العمل على استعادة الثقة وبنائها على الصدق والموضوعية والحفاظ عليها كأساس لعمل هذه المؤسسة.
واحة العارفين التواضع
جنة الأتقياء السكون مع العزم
نبضه يغلب كل البراكين .