المزارع سويد:الزكاة نقاوة مال وطهرة نفس، والصدقة بركة في المال، وصلة الأرحام بركة في الأعمار
المواطن القيسي: الجفاف يقضي على الزرع، والمنظمات لا توزع سوى الغذاء والكساء
الصيادون:البركة موجودة وسمي السمك بالمبروكة لأن فيه بركة
نظمت مؤسسة بنيان التنموية بالشراكة مع اللجنة الزراعية والسمكية العليا والسلطات المحلية في محافظات: المحويت وحجة والحديدة وريمة، زيارة توعوية وتفقدية إلى 16 مديرية تم اختيارها مديريات نموذجية ضمن 50 مديرية على مستوى الجمهورية.
إيضاح الخطوط العريضة في موجهات القيادة الثورية المباركة والسياسية العليا نحو إحداث ثورة زراعية تنموية على نطاق واسع من المشاركة المجتمعية مثلت أولويات أهداف الزيارة التي تتخذ من ايحاءات الدروس الرمضانية للسيد العلم عبدالملك الحوثي -رضوان الله- عليه مسارا ومنهجا يهتدى به في تبديد ظلمات ما أوغرته العقود الماضية من المفاهيم المغلوطة والعقائد الفاسدة في المجتمع الريفي سواء عبر الإهمال والفساد الداخلي أو بسياسات التدمير الممنهج عبر المنظمات العاملة تحت ما يسمى بالعمل الإنساني.. “الثورة” شاركت في الفريق الإعلامي للزيارة، ومن عمق الحدث تسرد الحكاية الكاملة للرحلة خطوة بخطوة، فإلى التفاصيل:
الثورة / يحيى الربيعي
لا نزال نعيش مع برنامج “عيد يا سعيد”، عقب الوقوف المتكرر في عقبة المغربة ومنحنيات عرقوب القدم المؤدي إلى قاع الوادي. غاصت السيارة في رمال الوادي بسرعة قوية مصحوبة بالرياح المحملة بالرمال حتى وصلنا مفرق الاسفلت ومررنا بسوق “….”، ومن منتصفه اتجهنا يسارا نحو مفرق الوديان في طريق رملي يمر من وسط مناطق زراعية ارتسمت بلون الحراثة البني الغامق.
ما هي سوى لحظات، وإذا بنا ندخل على منطقة رائعة في جمالها الطبيعي الخلاب المكتسي بالخضرة والماء الجاري.. إنه ملتقى وادي مور مع وداي لاعة.. هناك قررت قيادة الفريق إقامة مخيم الاستراحة على إحدى ضفاف الوادي إلى جوار إحدى مزارع الموز والمانجو.
كان خيار الاعتذار لصاحب المزرعة الذي حاول جاهدا استضافة الفريق بكامل أعضائه دون أن يعرف هوية الفريق هو الأقرب.. نعرف أنها خصال الإنسان اليمني الأصيل في كرم الضيافة وحسن الوفادة، لكن الفريق لديه سياسة حازمة في عدم إزعاج أي طرف رسمي أو شعبي، جاهز بمطبخه وأدواته والكل لوجستي محسن، لا نحتاج سوى برحة نخيم عليها، فكانت للفريق حرية أن يخيم حيث يشاء فاستقر قرار القيادة تحت ظل شجرة مانجو معمرة.
ثنائي القيادة حمل المجارف التي أحُضرت من المزرعة وباشرا في تبريح الساحة من الشوك والأوساخ، وانطلق معهما الأعضاء المتواجدون في ذات الإحسان.
الجو كان حارا بعض الشيء، والشوق يشدنا بقوة للغوص في مياه الوادي الباردة.. يا شيبه، اقفز أنت والشباب افعلوا لكم غطسة في الماء قد العرق يتصبب منكم مثل المشنة.. كنا نفضل أن تكون الأولوية لهما، لكنهما أصرا البقاء إلى جانب الأمتعة حتى نعود.
معاهدة صداقة
عقب العودة من الغطسة الباردة جلسنا إلى ظل الشجرة، بالصدفة مر بنا الحاج محمد شوعي القيسي، من أبناء منطقة الجلعوص وادي مور، بني قيس.
الحاج على رأسه ظلة البدوي المعروفة، حاولت ممازحته بأخذ الكوفية، لكنه أبى (حين قرر الجلوس إلى جواري ساكتا).. طرحت الكوفية أمامه، وشغلت المسجلة وبدأت في استنطاقه حال الزمان والمكان وكيف يتعاملان معه، وكيف هي علاقة الإنسان هنا مع زواحف الأرض وغدر الصاحب وقساوة الظرف وعبء المعيشة.. أجاب على كل سؤال على حدة، لكن لحال السياق اضطررنا إلى جمعها في قالب واحد:
الزمان صعب، والحال يعلم به ربي، والجعلوص منطقة زراعية من زمان، وعاش عليها الآباء والأجداد، ومن مدخول الزراعة والرعي كانوا يعيشون، ونحن منهم تعلمنا مهرة الزراعة والرعي.
نعيش في العشش، والذي معه فلوس يبني له بيت، أنا ما قدرت أبني، أعيش في العشة.. العشة فيها “براد” أحسن من البيوت الاسمنتية، لكن إذا “هتمن” خلاص تدخل فيها الحنشان والعقارب، متعايشين مع الزواحف والحشرات الضارة.. لا يوجد أي معاهدة صداقة بينا وبينهن، لكن الحمدلله ما قد سمعت أن أحدا مات من لدغة حنش أو عقرب، الحنشان ما عليها رقيب ولا حسيب، معها إذن دخول حتى في الحجارة ما بالك بالبيوت.
هذه المنطقة مشهوره بتواجد “الحنشان”، و”العقارب”، فيها حنشان يصل سمك الواحد إلى مثل الساق حق الشجرة.. في يوم من الأيام، واحد تلاقى مع حية كبيرة، وقاتلها حتى ماتت، الله ساتر، وهو من جعل الأرض، وصلح أهلها أشد منها.. تخيل، عندنا واحد يمسك الحنش، ويلاعبه لما يتعبه، وبعدها يتركه يروح في حال سبيله.
الزراعة هذه الأيام لم تعد فيها بركة، الجحر (الجفاف) يقضي على الزرع، موسم نحصل حب، ومواسم ما نحصل، إذا ما جاء المطر يسقيه في وقته يجحر ويموت، والوادي بعيد عن الزراعة ما نقدر نسقي منه، والبئر يحتاج ماطور، والذي ما عنده ماطور يطلع من البئر يموت زرعه.
والحليب ما هو إلا في الأبقار والأبل أما الغنم والضأن ما تحلب، والبقر بعض الأحيان نحصل منها، وبعضها ما نحصل على شيء.
شوف (راعي هذه المزرعة ما هو من الأرض، اشتراها العام، اشتراها وحفر لها بئر، وطلع فيها زراعة.. أقول لك: إنسان قوي عنده فلوس يقدر يفعل مثل هذه المزارع. هو يزرع موز ومانجو وأحيانا يزرع حب، ونشتغل معه أحيانا، وأحيانا كثيرة ما نحصل عنده عمل، معه ناس يعملون بشكل رسمي، وهم من المنطقة).
قلت نشكل جمعية؟ كيف نشكلها، والناس هنا ما فيهم خير (غشمان)؛ ما يتفقوا بينهم البين على مشورة، كل واحد شوره له، لا يوجد عاقل يجمع شورهم، ولا من يوعيهم.. الشيخ عاقل نفسه، حيره حير مصالحه، ما هو حير أحد.
ما نقدر نعمل جمعية، ولا هناك عاقل بصير يبصر الناس بما يصلح حالهم، معانا شيخ.. الجمعية تمام.. فقط، نريد عقول زاكية، أما كل واحد يدبر نفسه، فالله ما يصلح عمل المتفرقين.
لا أحد قد حضر إلينا يدربنا ولا يعلمنا، هذه منطقة لا يصل إليها أحد إلا ألطاف الله.. بعض الأحيان تحضر إلينا منظمة، وإذا جاءت فهي توزع لنا مساعدات غذائية أو خيام وناموسيات، وصابون أحيانا.. مرة واحدة: قالت منظمة إنها تريد تحفر لنا بئر لمياه الشرب، هبوا عليها العقال كلهم كل واحد يريد المشروع له، ما اتفقوا.. والمنظمة عطّفت وراحت لها.
(سكت قليلا.. حس مفيش فايدة.. شل كوفيته وانطلق في صمت).
الأرض العامرة
وعلى إثره مر الحاج محمد علي سويد راكباً على حمار ويجر بعده جمل محمل عجور يابس، الفضول قال بالله نستوقفه ونجابره مثل ما جابرنا (القيسي)، بعد محاولات تمكنا من تهدئته وتفهمنا، واقتنع يكلمنا واقفا وعلى عجل منه قال: ” شوف، هذه المنظمات لا نعتمد عليها البتة، وعني شخصيا ما قد استلمت منه شيء، كل شيء عندي متوفر، الحب من (مالي)، والحليب والسمن والريبة من البقر والأبل والأغنام والضأن، الخضرة أزرعها.
الحمدلله، طالما أرضي عامرة، وجهدي فيها قائم، أحرث، أذبل، أصيف، أصيب.. كلما اعطيتها من جهدي واهتمامي ورعايتي اعطتني من خيرها والبركة من الباري.. الحمدلله ما يخيب من حرث وبذر ثم توكل على الله.. فهو القائل سبحانه وتعالى “ومن يتوكل على الله، فهو حسبه”، هل نقول إن الله الخالق الباري غير قادر على كفاية عباده، ونصدق في المقابل المنظمات وغيرها من المحسنين، حتى لو كانوا صادقين في عطاياهم، فلن يكونوا بكرم الله، ولن يكون عطاؤهم شيئا يذكر أمام عطاء من لا تنفذ خزائنه.
شوف، الله يجري هذه المياه أمامك في الوادي من آلاف السنين، من هو من البشر عنده السخاء في أن يفتح الحنيفة أمام باب بيته هكذا تسير في سبيل الله.. مفيش أحد تطاوعه نفسه، يبذل شيئاً هكذا لله، وهو ما معه غرض يحققه من وراء ما يعطي.. هكذا علمتنا الحياة.. ما مصلي إلا وطالب مغفرة.. المنظمات من حين دخلت البلاد خربت لنا نفوس الناس، وتركوا مزارعهم، واهملوا مواشيهم، والله أوكلهم إليها وجفت آبار بعضهم، ويبس زرعه.
قليل تمسكوا بالله، والله ما فلّت خيره عليهم، الحمدلله: أحرث أرضي وأذبلها وأصيفها وأبذر فيها الصيب، وأترك ما تبقى على القائل: “أفرأيتم ما تحرثون، ْأنتم تزرعون أم نحن الزارعون”، بقلب خالص، ونية صادقة، فلم يخب ظني بربي أبدا، ولا موسم إلا وأجني من أرضي كفايتي وأزكي واتصدق وأهدي، ويبقى في مدافني خير الله واجد.
لا أحتاج من السوق شيء غير الأدوات الزراعية من الحداد، والملبس، أو الفرش.. ما نعرف المستوصف لا أنا ولا أولادي، ولا أرضي تحتاج سمادهم، ولا مبيداتهم على الاطلاق، نأكل ونسمن ونطبخ ونشرب من نتاج الأرض والمواشي، وبها نحرث ونسايب الماء.
أرضي صافية نقية من كل الأمراض والآفات التي تصيب الأراضي والمحاصيل الأخرى، لأني معتمد في سمادي على مخلفات المواشي أجففها في الهواء الطلق عام، واذبل منه، وأزرع في كل موسم محصوله، ابادل بين المحاصيل، ما أزرع الأرض بمحصول واحد متكرر.. الأمراض تأتي من الاستمرار في زراعة محصول واحد بغير حرث جيد، وقلب تربة وذبلها من السماد البلدي، وأهم شيء في الإنسان إنه يؤتي حق الزرع يوم حصاده.. الزكاة نقاوة مال وطهرة نفس، والصدقة بركة في المال، وصلة الأرحام بركة في الأعمار.
إذا أراد الإنسان البركة والصلاح في المال والولد، فما عليه سوى بأداء حق الله ووصل الأرحام، ولا يبخل على محتاج بصدق، هذه ضمانات أكيدة ومجربة.. والدليل، مرت سنوات عجاف، وما خاب زرعي، كان يكفي أن أسايب له كم دبة من الوادي بالحمير وأرشها عليه، وربك يطرح البركة، وينبت زرع وأحصد حَبّ، وكأن المطر موجود.. الله عليم كيف يصلح حال عباده، وما على العبد الناصح سوى اتباع التعاليم في كتاب الله.. (كافيك هدار، خير الكلام ما قل ودل، اسرح دور لك فارغ يهدر معاك، أوجعت رأسي).
الاستزراع السمكي
حضر الظهر، وتجمع شتات الفريق، إنها الصلاة والغداء، فالقيلولة الحرة، اليوم عيد، مفيش محاضرات، ولا ورش.. قبيل المغرب بساعة، دعانا المهندس، وقال: إذا أنتم مستعدون من ذات أنفسكم تسرحون تجابرون الشباب الذين يصطادون السمك.. هم أولئك أمامكم.
انطلقنا فريق الباحثين والإعلام وهناك التقينا الصياد يحيى مرشد ورفيقه محمد درويش.. وبنفس المجابرة أعلاه كانت الحصيلة كالتالي: الشابان يعملان في صيد أسماك المبروكة التي تعيش في المياه العذبة، ويعتبران ما هما فيه مهنة يعيشان منها، ويعولان منها أسرتيهما، وهناك غيرهما ممن يمتهنون هذه المهنة وفي نفس المكان.
لم نستغرب حديثهما، وواصلنا معهما الحديث، حيث قال الصياد (يحيى) أنه يبكر عند السابعة من صباح كل يوم، وحتى الحادية عشرة ظهرا.. يبكر ومعه سنارته وقليل من الطعم، وخلال هذه السويعات يرزقه الله بصيد 20 – 25 حبة من الصيد الصغير الذي لا أعتقد أنه وزن الحبة يزيد عن 70 – 80 جرام، ويقول الصياد محمد: إن طعم السمك لذيذ، وأنه يقلي السمك على زيت، أو يطبخه مع الطبيخ.. وأن المشكل (15 – 20) حبة يباع في السوق بـ 500 ريال.
سألناه ما الذي تأكله من هذا الحجم الصغير، وما إذا كان هناك أحجام أكبر؟ أجاب: البركة موجودة وسمي السمك بالمبروكة لأن فيه بركة.. وهناك أحجام أكبر، وفيه أصغر.
وعما إذا كان هناك إمكانية لاستزراع هذا النوع من السمك في أحواض مائية، كانت الإجابة بإمكانية ذلك إلا أن المشروع يتطلب له رأس مال كبير، وقطعة أرض بعيدة من مجرى السيول والطوفان السيلي عند موسم الأمطار.
قال إنهم حاولوا مرات عديدة حمل أحواض في الوادي، وكانت السمك تتكاثر وتكبر، ولكن بمجرد ما يحضر سيل يجرفه.. واستزراع السمك في الوادي نفسه، يقصد مجر السيل، مستحيل لأن السيل جارٍ، ولابد ان يجرفه معه، لا حل سوى اصطياد الحاصل.
هل من إمكانية لعمل حوض هناك بعيداً عن مجري السيل والطوفان المطري؟ الأرض ما هي أرضنا، والحوض يحتاج إلى تغذية بالماء بشكل متواصل، وهذا يتطلب ماطور يضخ الماء من الوادي إلى الحوض.
إذا ما حصلتم على الأرض (إيجار أو بشراكة صاحبها) هل لديكم الاستعداد لمباشرة تنفيذ مشروع بقرض أبيض (ما عليه أرباح)؟ نعم لدينا الاستعداد لمثل هذه المشروع، لكن ما الضمانة المطلوبة للحصول على مثل هذه القروض، نحن أناس فقراء معدمون، قوت يومنا نطلّع بالكاد.
المطلوب هو تشكيل جمعية من كافة الشباب الذين يعملون في الصيد على الوادي، ألستم تقولون إنها مهنة متوارث أبا عن جد، خلاص تشكلون في جمعية وكونوا لها رأس مال، وهذه الجمعية تضمنكم وتوفر لكم كل متطلبات المشروع، وكذلك تسوق لهم منتجات هذه المزارع.
مستعدون، لكن كيف نشكل هذه الجمعية؟ فرسان التنمية سيحضرون إليكم وهم من يدربونكم على كيفية الاستزراع السمكي في أحواض، ويدربون منكم أعضاء للجمعية.
فاصل
أسدل الليل ستاره، وتوقف الحديث مع الصيادين على أمل أن يأتي فرسان التنمية من مديرية بني قيس، ويقومون بما يلزم من التوعية والإرشاد لجموع الصيادين، وأيضا يتوسع نشاط الفرسان في المنطقة بغرض تحفيز مزارعيها على المشاركة المجتمعية واستنهاض العمل التعاوني وإحياء تراث الآباء والأجداد في مجالات التكافل الاجتماعي بناء على ما تم رسمه من محددات تم الاعداد لها في ورشة مصغرة عقدت في ذات المكان برئاسة المدير التنفيذي/ بينان المهندس محمد المداني، ورئيس الزراعية العليا إبراهيم المداني وأعضاء الفريق.. وبذلك أقفل محضر (عيد يا سعيد) على أمل الانتقال في صباح اليوم التالي نحو الخوبة، وميناء ابن عباس.