الصحفيّة الفلسطينية سما حسن تروي لـ “الثورة” تفاصيل العدوان على غزة :الشعب الفلسطيني يمتلك إرادة الحياة ولم يبق لديه ما يخسره
“آن الأوان أن نصنع رموزاً للحياة فيها بعيداً عن طاقة الموت والضياع والهدم والتهجير” هكذا كان حديث الصحفية الفلسطينية سما حسن بعد العدوان الأخير على غزة من قبل الاحتلال الإسرائيلي ..
الأسرة / زهور عبدالله
سما حسن تكتب تراتيل النجاة وكيف يمكن للأمل أن يزهر بين شقوق خادشة فمن قلب الموت تولد الحياة هكذا هم سكان غزة عازمون على مواصلة حياتهم الطبيعية فرغم شدة القصف والحصار إلا أنهم مازالوا يؤكدون على أحقيتهم بالعيش في سلام وحرية انتظروا كثيراً كي تتحقق.
العدوان على غزة
تقول سما حسن : يذكر التاريخ أن قطاع غزة تعرّض للتدمير نحو سبع مرات على مر التاريخ، وفي إحدى المرات لم يتبق سوى رجل وكلبه، بحسب الروايات. وفي كل مرة كانت غزة تعود تلك المنطقة الساحلية الأكثر جمالاً وبهاءً وقوةً من سابقتها. ولاسمها الذي يعني أرض الغزاة ما يجعلها عرضة للغزو دائماً، وخصوصاً أنها في موقع يربط بين قارتين، آسيا وأفريقيا.
ما جرى خلال الأيام القليلة السابقة، التي مرت كالشهور على أكثر من مليونيْ مواطن عزّل وفقراء، في أغلبيتهم، لكنهم يمتازون بأنهم شعب فتي، فأعمار أكثريتهم شبابية، وثمة جيل جديد يقاوم هذه المرة، وربما كان هذا الجيل الذي مرت عليه عدة حروب، ابتداء من سنة 2008م، ومنهم أصغر أولادي، من مواليد سنة 2000م، وبلغت العشرين من عمرها قبل أشهر، لكنها تتذكر ما جرى في العدوان الأول على غزة على الرغم من صغر سنها، ولا تتوقف عن الترديد: ماما…. هاي المرة مش زي كل مرة.
قالت ابنتي إن العدوان هذه المرة يختلف، ربما الشعب أصبح أكثر إنهاكاً، لكنه يمتلك إرادة الحياة ولم يبق لديه ما يخسره، فحينما يرتفع صوت القصف نسمع أصوات الأطفال يهللون في كل مكان، ونسمع التكبيرات من البيوت، وأحياناً نسمع الزغاريد، وحين يهدأ القصف يخرج الناس لتشييع الشهداء ويبكون ويتعاطفون ويتساءلون عن القادم، وينتظرون، فمهما كان لم يعد هناك ما يخسرونه.
غزة المنهكة اقتصادياً جرّاء الحصار، والمنهكة من حيث عدم توفّر الرعاية الصحية لمرضاها، وخصوصاً مع توقف التحويلات في الفترة الأخيرة بسبب جائحة كورونا، فلا بد من أن تجد مريضاً في كل بيت ولا حيلة لأهله في توفير العلاج، وفي كل بيت هناك خريجون عاطلون من العمل يقتاتون من مصدر دخل هزيل للأب أو أحد الأبناء، أو من مساعدات من الأقارب.
عندما توقف القصف في اليوم الأول لعيد الفطر كان الأطفال ينطلقون بملابسهم الجديدة الزاهية ويتجولون في الطرقات وهم يلهون ببعض الألعاب البسيطة، ومنها البالونات الملونة، بل حرص بعض الآباء على طرق أبواب الأقرباء المحاذين للتهنئة بالعيد على الرغم مما كابدوه في الليلة السابقة من قلق وخوف وتوتر جرّاء القصف .
لقد مرت ساعات طويلة ولا كهرباء لدينا، وأصبحت الحياة قاسية مع ندرة الماء أيضاً، وعدم قدرتنا على الوصول إلى الأسواق أو حتى إلى محل البقالة القريب من البيت، فالخروج من البيت مغامرة لأن الطائرات التي تحوم فوق رؤوسنا تقصف أي هدف متحرك، وأي شخص ليس بأمان، وكذلك مَن يستقل سيارة خاصة أو عامة، أو مَن يستقل دراجة هوائية أو نارية هذا الشعب عجيب على أرض الغزاة، لديه قدرة على الوقوف، وأنت لا تعرف السر ولن تعرف، لكنها ربما الخبرات المتراكمة منذ عهود وعصور قديمة، وربما لأنه لم يعد لديه ما يخسره، فعلى سبيل المثال هناك منطقة الرمال التي دُمِّرت، هذه المنطقة هي الواجهة السياحية والتجارية لغزة وتقع فيها أجمل المحلات، وفيها الأبراج السكنية، والتي تقع فيها أيضاً المحلات والمؤسسات ومكاتب وكالات الأنباء، وحين كنت تسير في هذا الشارع قبل العدوان لم تكن لتصدق أنك في غزة المحاصرة، نظراً إلى مظاهر الجمال والرقيّ والمحلات التي تعرض في واجهتها أرقى الماركات الأجنبية من الملابس والأحذية والعطور ومستلزمات النساء، لكن هذا الحي ناله الدمار، والموجع أن هناك الكثير من الشباب الذين افتتحوا مشاريع صغيرة في هذا الحي باستئجار محلات صغيرة وإنشاء مشاريع لبيع الهدايا ومستلزمات الأفراح وغيرها من البضائع الرخيصة التي كانوا يأملون بأن تدرّ عليهم دخلاً بعد أن عانوا جرّاء البطالة، وأصحاب هذه المشاريع، في معظمهم، ادخروا المال لأعوام، وبعضهم حصل على قروض، أو على مصوغات أمه أو زوجته كهبة أملاً بفتح باب للرزق، لكن تدمير حي الرمال دمر أحلامهم يمكنك أن تختصر الوضع، هنا موتى أصبحوا لا يعلمون ولا يشعرون، وهناك مرارة فقد أحبتهم وعوائلهم، أو فقد البيت والمأوى الذي يعادل الروح، وهنالك مَن فقدوا مصدر الرزق، ومَن لم يصِبه من كل هذا شيء فهو لا يزال يترقب، لا يعرف ما الذي سيصيبه في الساعات القادمة، ولا يدري كيف سيكون الفقد بالنسبة إليه، الخسائر تطال الجميع، والجميع يرفض العبودية والذل والاحتلال عن بعد. الشعوب تتضامن بحرارة، والدول تقف ما بين عاجزة، أو متواطئة، أو داعمة لعدوان وحشي على شعب أعزل يتعرض للتدمير والموت والتشريد.
نؤرخ لمناسباتنا
وتضيف الصحفية سما حسن : كانت جدتي تقول إنها قد وضعت ابنها فلاناً قبل “المهاجرة” بعامين، وتقصد بالمهاجرة الرحيل من قريتهم في نكبة العام 1948 وحيث كان التهجير حلقة فاصلة في التاريخ الفلسطيني، وحيث استقرت عائلتي التي انحدر منها في احد مخيمات اللاجئين الثمانية في غزة، وطال انتظار العودة وعاشت جدتي حتى بداية الثمانينات من القرن الماضي، وظلت تحسب اعمار أولادها الذين تشتتوا في الغربة بتاريخ “المهاجرة”، وحين تشحذ ذاكرتها فهي تتكلم عن أيام البلاد في حنين منقطع النظير، وتسهب في وصف خير الأرض ونشاطها كفلاحة تساعد زوجها في أعمال الزراعة وتخزين مؤونة العائلة الكبيرة.
وحين كانت خالتي التي لم تدخل المدرسة تريد أن تحدد أعمار أولادها فلديها مناسبة أخرى، فتقول عن احدى بناتها أنها قد ولدتها قبل اليهود، والحقيقة انها حين كانت تقول هذه العبارة كنت أعتقد لصغر سني ان اليهود امرأة تلد وقد ولدت خالتي ابنتها قبلها، وعندما كبرت فهمت وأدركت حسابات خالتي، فهي قد حددت العام 1967م وهو تاريخ احتلال قطاع غزة بأنه حلقة فاصلة جديدة في تاريخ الشعب المهجر في غزة، وحيث كانت تعدد أولادها الذين ولدتهم قبل العام 1967م وبعده، وترى أن الأولاد الذين ولدوا بعد هذا التاريخ لا يزالون أطفالا، وتصفهم بالجهالة، وهكذا كانت تجتمع مع أمي وتستعيدان الذكريات، وكيف ولدت خالتي جيشاً من الأبناء قبل اليهود، في حين أن أمي قد وضعت أولادها بعد اليهود وهناك فارق عمري بين أولاد وبنات الخالة.
ومرت بنا السنوات الأليمة كشعب يقدم التضحيات على مر التاريخ وبدأنا نؤرخ لمناسباتنا بتاريخ انتفاضة الحجارة، ويكفي أن تقول إحداهن إنها تزوجت في العام الذي انطلقت فيه انتفاضة الحجارة لكي يفهم من حولها انها قد تزوجت في العام 1987م، وأنها تزوجت دون حفل زفاف بل إنها لم تحظ بارتداء ثوب الزفاف الأبيض.
كبرنا وتقدم بنا العمر وصرت ألتقي بأمهات حددن تواريخ ولادة أطفالهن، بأن هذا قد ولد خلال عدوان العام 2008م على غزة، وآخر قد ولد بعد العدوان بعام، وهذا قد ولد في العام 2014م خلال العدوان الذي استمر لأكثر من خمسين يوماً على غزة، وبتنا نحفظ تواريخ ومناسبات مع أحداث مريرة مرت بغزة وأهلها خصوصا.
اليوم تجد نفسك جالساً في صمت وانت تتأمل ولادة الصغار إبان أيام العدوان، وذلك المولود الذي حصل على حمامه الأول في مدرسة تابعة للأونروا، وهناك مولود قد فقد بعد قصف بيت عائلته، وهناك طفل اسمه عمر هو الناجي الوحيد من بين اخوته، ولم يبق له سوى الأب المكلوم.
هذه التواريخ التي لا تنسى والتي سجلت بتاريخ المرارة والفقد والألم، والتي يجبرنا التاريخ على استخدامها والتاريخ لمناسباتنا الخاصة بواسطتها بها، لكي تكتشف كم هو مؤلم ذلك وموجع، ولتدرك حجم الألم والمعاناة التي لا زال يكابدها الناس في قطاع غزة، القطاع الشريطي الساحلي الذي يسجل أعلى كثافة سكانية في العالم، ورغم ذلك فقد تحمل ما لم تتحمله أي بقعة في العالم، وأصبح ينادي بأنه يريد حياة آمنة كريمة، والحقيقة أننا نريد ذكريات سعيدة وايجابية لكي نؤرخ لمناسباتنا السعيدة.
اليوم تهدمت البيوت وبدأت إزالة الانقاض وأتمنى ان يتم إحاطة كل بيت سوف يعاد بناؤه ضمن حملة اعمار غزة بسور من الأشجار الخضراء، يجب ان توزع الشتلات الصغيرة مع مواد الإعمار، نريد أن نزرع طاقة الحياة علها تتغلب على طاقة الموت، ونريد أن نخلد مناسباتنا بيوم أن زرعنا شجرة زيتون صغيرة وكبرت مع الطفل الأول أو الثاني للعائلة، أو بشجرة جوافة أو حتى دالية عنب ويجب علينا ان نضع تقويما جديدا لغزة بعد العدوان الأخير، غزة الناهضة التي نزفت وروت الأرض حتى شبعت وتشبعت، وقد آن الأوان أن نصنع رموزا للحياة فيها بعيدا عن طاقة الموت والضياع والهدم .
يوميات ما بعد العدوان
وتقول سما حسن :قررت بعد البقاء في البيت نحو أسبوعين، أن أخرج مع عائلتي إلى شاطئ بحر غزة.
ضع نقطة وانتظر لتسمع ما هو شاطئ بحر غزة، أقول لك وباختصار شديد إنه متنفس فقراء غزة، الجميع يهرع إليه، فهو يكاد يكون مكان تنزه مجاني، لا يكلفك شيئا لأن أي عائلة سوف تحمل معها أي شيء من البيت وسوف تجتمع حوله على الشاطئ كأفخم وجبة، فالشاطئ وهواؤه وجوّه ولون بحره والصوت الذي يهدر في أذنيك، كل ذلك وأشياء كثيرة تكمل اللوحة وتجبرك على أن تلتهم ما يوضع أمامك بشهية مفتوحة، ولذلك لا تتردد ربة أي بيت أن تحمل عدداً مضاعفاً من أرغفة الخبز المنزلي، الخبز الذي أعدته من الدقيق الذي تقوم بتوزيعه وكالة الغوث الدولية “الأونروا”.
هكذا تجد نفسك أمام البحر مباشرة، والزحام الشديد قد يضيق اللوحة قليلاً، ولكنك تلتمس العذر لهؤلاء الأشقياء والأبرياء، المثقلين بالحزن والألم والذين خرجوا من دائرة الموت التي دارت قبل أيام، وترى وجومهم وضحكاتهم التي لا تخرج من القلب، بل من حافة الروح حيث كان الموت أقرب لأرواحهم من رمال الشاطئ الصفراء والتي قد يدوسونها حفاة، ويستمتعون بملمسها.
هكذا وجدت نفسي مع أولادي على الشاطئ، طاولة مستديرة من البلاستيك حولها عدة كراس مثلها وان تهشمت مساند معظمها، ولكنك لا تعترض ولا تعلق فهذا هو المتوفر، وقد تلمح الحرج على وجه الشاب المسؤول عن تأجير هذه المساحة الضيقة التي تعلن للجميع انها مساحته الخاصة، فتجلس مع أهل بيتك ولا أحد يتدخل بك، وإن كان هناك بعض الصبية الصغار الذين ينظرون نحو ما قمت بوضعه فوق الطاولة، وفوق الطاولة بالتأكيد، هناك علبة صغيرة بها بضع كعكات متبقية من كعك العيد مع حافظة للشاي، وكنت تحلم أن تحتفل بالعيد وكعكه بطريقة أخرى، ولكنك اليوم تحمل بقاياه التي لم تتهشم وأنت تنقلها من مكان إلى مكان في البيت، حيث كنت تنتقل أنت نفسك من مكان إلى مكان حسب اتجاه القصف المحيط ببيتك.
الآن أنت تجلس على الشاطئ ملاذك الأوحد وتنظر نحو السماء مرة، ونحو البحر المتلاطم الأمواج مرة ثانية، ولا يثير فضولك الناس المتكدسون لأنك تعرف ما لديهم، فهو ما لديك، فأنت قد حاولت وجاهدت لتغير من مزاجك، وبدلت ملابس البيت بصعوبة، وحاولت أن تحسن من هندامك بصعوبة، وتعففت عن أي زينة مبالغة احتراما لجرح الناس، وتذكرت قول أمك بالطبع “الناس مجروحة ياما”، ولذلك فأنت تبقى هكذا مثلما كنت في البيت، واجماً وبلا تغيير سوى تغيير ملابس البيت وانتعال الحذاء تحمل معك قلبك الراجف وأعصابك المتهالكة التي لن تحتمل صوت فرقعة بالون لطفل يلهو، ولن تحتمل فرقعة إطار سيارة مسرعة على الرصيف القريب اللاهب هكذا أنت ترتجف وأنت تجلس وترى الحفر على الشاطئ بسبب القذائف التي ألقيت من البوارج البحرية خلال أيام الحرب، وترى قوارب الصيادين المهشمة والمدمرة وتشعر بالأسى، وتنظر جيدا وتشعر بأن هذا البحر الجبار قد مرت به أيام عصيبة مثلك، وها هو يمارس عمله المعتاد منذ الأزل ولن يتردد عن ابتلاع شاب أو طفل لا يجيد السباحة بين موجه، ولذلك تقنع نفسك أنك يجب أن تمارس عملك وتمضي في حياتك حتى عندما كنت تسير في الشارع وتركل علبة فارغة نحو الإسفلت، تجد نفسك اليوم بحاجة لأن تفعل ذلك، فالحياة تستمر وشبح الحرب لم يولِّ وأنت تدعو الله أن يولي، أن يبتعد هذا الشبح لكي تشعر ببعض الأمان، تباً لهذه الكلمة العصية، تكتبها من أربعة حروف ولكن الشعور بها لا يقترب ولا يحدث بسهولة ولكنك تحتاج إليها، كل غزة تحتاج إليها.