ربما كان هذا العام عاما يتيما في مسار الوحدة اليمنية، لكنه في السياق ذاته كان عاما مليئا بالتأمل والتبصر، وأعاد نسق الأمور إلى مكانها الطبيعي الذي ينبغي أن تكون فيه , فخطاب رئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشاط بمناسبة عيد الوحدة اليمنية كان خطابا متبصرا وواعيا , حمل الكثير من الرؤى وهي رؤى تعاملت مع الواقع وفق معطياته وسياقاته العامة , ولم تقفز على حقائق الواقع ولا مقدراته، ولذلك يمكن أن يقال أن ثمة متغير قد حدث في وعي النخب وفي الواقع , فالحياة حركة تبدل دائم ولم تكن مسارا واحدا في كل حقب التاريخ .
أحياناً أصل إلى قناعة مطلقة وأرى أن الذي حدث في اليمن منذ 2011م إلى اليوم كان لابد أن يحدث حتى تصفو الحياة وتذهب العلائق والشوائب التي تشوش الرؤى وتحجب عن الناس الحقائق , فحركة الاضطرابات هذه هي حركة تدافع بين الخير والشر وحركة التدافع من سنن الله في كونه , ولذلك فكل تدافع لا يخلو من فائدة للبشر وللحياة وفق تقديرات الله وتدابيره لشؤون خلقه في الأرض .
ظل الصراع على فكرة الوحدة طويلا قبل أن تتحقق في عام 90م , وكأن حلم التوحد يفضي إلى حلم الانفصال , وحلم الانفصال يفضي إلى حلم التوحد , وهو الأمر الذي ظل ملازما لليمن في تاريخه الممتد عبر الحقب والأزمنة , وشهدنا بعد تحقيق وحدة اليمن صراعا يتوق إلى الانفصال وعودة دولة الجنوب كما يسميها البعض ,وبعد سنين طوال من الصراع ها نحن نرى الذين كانوا ينادون بالانفصال يرون في الوحدة طوق نجاة .
ما يحدث في الجنوب اليوم كشف ما كان غائبا عن الكثير , فحلم التحرر الذي تشدق به من تشدق بعد إعلان العدوان على اليمن أصبح تيها وضياعا , فالجنوب تمزق في الوجدان العام وتاهت مقدراته , وعاث فيه المستعمر فسادا وانتهاكا للأعراض ونهبا للمقدرات حتى رأى دعاة الانفصال واستعادة دولة الجنوب الوحدة خيارا حقيقيا ومنطقيا للوصول للحرية والاستقلال والكرامة والسيادة الوطنية .
لقد شاهدت في الفضائيات المحسوبة على الجنوب واقعا جديدا ومفهوما متغيرا بعد أن أحدث التدافع في أنفسهم تبدلا وتغيرا في موقفهم من الوحدة اليمنية، ولذلك قالت لهم صنعاء لا بد من العودة إلى تحكيم العقل وتغليب مصلحة اليمن على غرور الذات وطموحاتها , وقالت أيضاً أن اليمن تتعرض لحملة تستهدفها كما تستهدف الأمة قاطبة ولا بد من توحيد الجهود والطاقات لمواجهة أعداء اليمن وأعداء الأمة وهي دعوة صادقة من سلطة صنعاء لمن تماهوا في مشاريع العدو حتى يعودوا إلى رشدهم وينبذوا ما كانوا فيه من غي وظلال وتيه .
على مدى سنوات قليلة عرف الإنسان في المحافظات الجنوبية أن مشروع القرية الذي يرفع رايته المجلس الانتقالي المدعوم من الإمارات ليس مشروعا حضريا قادرا على صناعة التحولات، ولكنه مشروع نهب وضياع ودمار ومتاجرة بسيادة اليمن وبكرامة أهلها وقد تحدث الكثير عن ذلك ممن تشيعوا لمشروع الانتقالي فصدمهم الواقع بحقائقه حين قال لهم : أن الانتقالي زمرة قروية لا تحمل مشروعا للجنوب بل تتاجر بالقضية الجنوبية حتى تقتات وتشرب الأنخاب في البارات والعواصم العربية والأجنبية دون أن يكون لهم مشروع حقيقي , فهم عبارة عن أدوات تحركها الإمارات ومن بعدها الصهيونية وأمريكا .
اليوم جزيرة ميون محتلة وجزيرة سقطرة محتلة والموانئ والمنافذ ومصادر الطاقة تحت نير الاحتلال ولا أدري بأي منطق يرى قادة الانتقالي أن ذلك تحرير ؟ رأيت الزبيدي ومن معه يتحركون في مساحات جغرافية محدودة وقد بلغ بهم الوهم مبلغا عظيما وهم في الواقع كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا , تبدل كل شيء وتغير , وقد وجدت قدرا وافرا من الشعور باليقين أن الوحدة أصبحت أكثر ترسخا من ذي قبل , وقد هيأ الله من يجعل قيمتها أعلا وأوفر من خلال سقوط رواد البارات والخانات والملاهي.
الكثير من الفضائيات التي واكبت الحدث وتحدثت عن الوحدة قال المحتوى العام لبرامجها أن الوحدة هي طريق العبور الآمن إلى المستقبل وبمثله جاء موقف صنعاء إذ ورد في خطاب رئيس المجلس السياسي المشير مهدي المشاط قوله :
«ولعَلَّ مِنْ مَزَايَا العيد الثَّاني والعِشْرينَ مِنْ مَايُو أنَّهَا تُذَكِّرُ الجميعَ بطريقِ العُبُورِ الآمِن، وطوقِ النَّجَاةِ الوَحيدِ ألَا وهو العودَةُ إلى وحدَتِنَا وأُلْفَتِنَا، فالوحدَة في حَقِيقَتِهَا قَدَرٌ مُسْتَقِرٌّ في أعْمَاقِ الشُّعُوبِ وصُوتٌ لا يُغَادِرُ وُجْدَانَ الأُمَّةِ مَهْمَا كانَ حجمُ الاختلافِ بينَ أبناءِ الشعبِ الواحِدِ والأُمَّةِ الوَاحِدَة، وهُوَ صَوْتٌ يَشُدُّنَا دائماً وأبداً إلى الرِّسَالةِ المُحَمَّدِيةِ الجَامِعَة، وإلى مَعَالِي الأمورِ والعَودَةِ إلى تَحْكِيمِ العقلِ والضَّمير، وتغليبِ المَصَالِحِ العُلْيَا لِبَلَدِنَا وبُلْدَانِ أُمَّتِنَا قَاطِبَةً » .
لقد عملت حركة التدافع على توحيد الرؤى .. فهل تعمل على توحيد الطاقات ؟
هنا المحك الذي نقيس به الفعل السياسي في النجاح واستغلال المتاح وإعادة ترتيب النسق بما يخدم اليمن ومصالحه العلياء , ولعل الاشتغال على مشروع سياسي جامع هي القضية الأكثر صعوبة في المرحلة الراهنة , وربما كان التحدي في هذا أكثر من غيره , ذلك أن الأهواء قد تعددت وتشابكت الكثير من المصالح وتجذرت تصورات في الأذهان نحتاج إلى العقل والمنطق وتكثيف الخطاب حتى نتمكن من السيطرة على مقاليد المستقبل قبل أن نفقد أزمة الأمور ونذهب إلى التيه مرة أخرى , ولابد أن ندرك أن التيه عقاب الله للأمم التي تشرك وتحيد عن الصراط المستقيم والنهج القويم .
Prev Post