مواقف دولية وإقليمية رسمية مشتتة..وتضامن شعبي وإعلامي واسع مع غزة وضد المذابح الصهيونية

قراءة في المواقف الدولية والإقليمية إزاء العدوان الصهيوني على غزة

ترجع أهم الأسباب الرئيسية وخلفيات تفجر الحرب والمواجهات في فلسطين المحتلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى استمرار احتلال إسرائيل لفلسطين المحتلة وخاصة عدم انسحابها من الأراضي التي احتلتها في عام 1967م، وملفات أخرى لم يتم حلها وأصبحت معلقة دون حسم مثل (مصير القدس)، وعودة اللاجئين الفلسطينيين وغيرها .
أما الأسباب المباشرة التي أدت إلى تفجر هذا الصراع والمواجهات الحالية فتتمثل في قيام إسرائيل بتهجير عشرات العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح في مدينة القدس ، ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى باب دمشق وباحات المسجد الأقصى للصلاة ، ومنع تصويت الفلسطينيين المقدسيين في الانتخابات الفلسطينية العامة، ما دفع بالرئيس الفلسطيني إلى أن يقرر تأجيلها إلى أجل غير مسمى .
صلاح القرشي

الموقف الأمريكي
الرئيس الأمريكي بايدن وإدارته يواجهون استحقاقاً متفجراً وخطيراً في فلسطين المحتلة يضعهم في موقف حرج وفي حالة من الصدمة .
فالأمريكيون كانون يعتقدون أنهم بعد أن فرضوا (حلهم المنفرد) لقضية فلسطين المحتلة واعترفوا بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ، ونقلوا سفارتهم إلى القدس وأطلقوا مبادرتهم صفقة القرن للحل كانوا يعتقدون انهم قد انتهوا من تصفية القضية الفلسطينية بنسبة 90% وفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين والعرب .
وبالنسبة لهم أصبحت هذه القضية قضية ثانوية ، وقادوا ورعوا حملة تطبيع للعديد من الدول العربية مع إسرائيل إيذانا بالإعلان الرسمي عن إنهاء القضية الفلسطينية حسبما فرضته الرؤية الأمريكية، و لم يقم الأمريكيون بتعيين ممثل دائم جديد لهم للأزمة والصراع في فلسطين المحتلة بدلاً عن السابق .
ولأن البيت الأبيض لم يعد راعياً لعملية السلام في (الشرق الأوسط) بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، فإن الهبة الشعبية الفلسطينية الحالية وما يحدث هذه الأيام من حرب ومواجهات في فلسطين شكلت صدمة للأمريكيين وجعلتهم في ارتباك إزاء اتخاذ القرارات المناسبة تجاه ذلك .
فهم لم يعد بوسعهم لعب دور كبير ووسيط وراعٍ لأي مفاوضات سياسية جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعدما فرضوا حلهم المنفرد في عهد الرئيس ترامب المنحاز لإسرائيل والذي يخالف كل قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة ، كما انهم كانوا يعتقدون بأنهم وجهوا من خلال انفرادهم رسالة قوية لكل دول العالم وخاصة الكبرى منها، بأنهم أسياد العالم وهم من يتربعون على عرش قيادة العالم والنظام الدولي الأحادي القطبية الذي يقودونه بمفردهم ، وأنهم من يحق لهم أن يفرضوا حلهم المنفرد بخصوص القضية الفلسطينية وعلى الفلسطينيين والعرب وجميع شعوب ودول العالم الخضوع لحلهم وإرادتهم .
وبالتالي لا يستطيعون اليوم التراجع لما لهذا التراجع من تداعيات عليهم في الداخل الأمريكي نفسه من ضغوط من قبل اليمين الأمريكي المتطرف ، ومن قبل اللوبي الصهيوني هناك ومن قبل الحكومة الإسرائيلية نفسها التي ستتضرر في مواجهة الإسرائيليين داخل فلسطين المحتلة وعلى كل المستويات في الشرق الأوسط.
وأن تراجع أمريكا عن قرارات الرئيس ترامب سيؤثر على مستقبل نجاحهم مرة أخرى في فرض رؤاهم وإرادتهم تجاه مختلف بؤر التوتر المفتوحة في بقية دول ومناطق العالم .
لذلك وجدنا موقفاً أمريكياً خجولاً تجاه ما يحدث من تصعيد ، تمثل في ابتعاثهم لهادي عمر إلى فلسطين ليقوم بمهمة (خفض التصعيد ) حسب تعبيرهم ، فقط لحفظ ماء وجههم لكنه موقف بدون أي تأثير .
ولم يجد الأمريكيون أمامهم ما يقومون به إلا خياراً واحداً وهو التموضع إلى جانب الحكومة الإسرائيلية. كشريك قوي للإسرائيليين ومعاد للفلسطينيين، تجلى ذلك في قيامهم بـ:
– التكرار في تصريحاتهم القائلة أنهم مع (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها) تجاه ما يحدث في فلسطين المحتلة .
– عرقلة ومنع أي بيان أو قرار يصدر من مجلس الأمن الدولي يدين الاعتداءات والإجراءات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين .
– تزويد إسرائيل (بقنابل وصواريخ ذكية ) بمبلغ 735 مليون دولار، كما أوردته صحيفة الواشنطن بوست وبصورة مستعجلة.
وهكذا إدارة بايدن أثبتت أنها لا تختلف البتة عن الإدارة السابقة بخصوص قضية فلسطين حيث سارعت إلى اتخاذ الموقف المتطرف والأعمى المنحاز إلى جانب إسرائيل ، وكل ما تهدف إليه من اتصالاتها وتحركها هو وقف المواجهات والهدنة بين الطرفين التي تسبب لها الحرج وتضرب سمعتها وتهدد بتحجيم نفوذها .

الموقف الصيني
أهم ما يميز الموقف الصيني تجاه هذه القضية هو تصريح وزير خارجية الصين عندما دعا أمريكا لتحمل مسؤولياتها وضمان إقامة حل عادل للقضية الفلسطينية التي شغلت المجتمع الدولي منذ أكثر من 70 عاما ..
تصريح الوزير الصيني يعتبر انتقاداً لاذعاً وحاداً وجهه بقوة بخصوص طريقة تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع القضية الفلسطينية ودورها السلبي إزاء ما يحدث ، وهو موقف جيد ومتقدم يوحي بعدم رضا وقبول الصينيين برؤية الإرادة الأمريكية التي انفردت بفرضها في حل قضية فلسطين، وهي إشارة (لمبادرة صفقة القرن ، وأن الصين ليست مع القرار الأمريكي غير العادل باعتبار القدس عاصمة أبدية لإسرائيل).
تعتبر الصين من أهم القوى العملاقة الكبرى الصاعدة في العالم والتي تحاول منافسة أمريكا على قيادة العالم اقتصاديا ..
كما أن الصين تسعى من خلال ذلك إلى الإطاحة بالتفرد الأمريكي (كقطب أوحد) يقود النظام الدولي ، والانتقال إلى نظام متعدد الأقطاب في قيادة العالم .
ويبدو أن الصين ستسعى بالمشاركة مع الدول الكبرى ومنها روسيا إلى محاولة ملء الفراغ التي أحدثته السياسة الأمريكية في قضية فلسطين (الشرق الأوسط) ولم تعد الراعي الوحيد للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين .
كما أن الصين ستعمل كل ما في وسعها على العمل على عدم تنفيذ القرارات الأمريكية المنفردة في حل القضية الفلسطينية التي اعتمدتها أمريكا والمساعدة على إفشالها وعدم تمريرها بأي حال من الأحوال ، وترى أن الهبة الشعبية الفلسطينية الحالية الرافضة لها فرصة كبيرة لها لتحقيق ذلك، لأن الصين تعلم جيدا أنه إذا استطاعت أمريكا فرض رؤيتها المنفردة في فلسطين ، ستكرر القيام بذلك إزاء بؤر التوتر الأخرى في مناطق أخرى من العالم ومن ضمنها منطقة بحر الصين الجنوبي وغيرها، والصين لا ترغب بذلك .
كما أن الصين بهذا الموقف الذي أعلنه وزير خارجيتها تؤكد للأمريكيين أن منطقة الشرق الأوسط تمثل منطقة مصالح حيوية تهم الأمن القومي الصيني ، وليست حكرا فقط على الأمريكيين. وأن موقفها هذا يتماهى مع سعيها لمد نفوذها إلى المنطقة العربية (الشرق الأوسط) والذي تجلى في قيامها بعقد الاتفاقية الأخيرة مع إيران ، وإقامة قاعدة عسكرية لها في جيبوتي بالقرب من باب المندب الممر الجيوسياسي ، والنشاط المتزايد للسياسة الخارجية الصينية الفاعل في الأزمة السورية ، وتوسع الوجود الاقتصادي والسياسي الصيني في قارة إفريقيا وغيرها ، وهو توجه تتوجس منه واشنطن كثيرا وتعمل على الإبقاء على المنطقة العربية أو (الشرق الأوسط) كمنطقة تنفرد هي دون غيرها في الهيمنة عليها .

الموقف الروسي
سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومنذ بداية تفجر المواجهات إلى الإعلان عن الموقف الروسي إزاء هذه القضية عندما أكد بقوله أن ما يحدث في فلسطين المحتلة يمس بشكل مباشر مصالحنا ويهددها ، نظراً لقربها من الحدود الروسية .
كما قام بوتين بطلب عقد اجتماع لمجلس الأمن الروسي الأعلى بصورة عااااجلة لطرح الموقف الرسمي الروسي بخصوص هذه القضية .
الموقف الروسي يتماهى أولاً: مع السياسة الخارجية الروسية التي تسعى إلى الرجوع بقوة للمنطقة وتعزيز مد نفوذها ، وما تقوم به في سوريا وليبيا ليس إلا احد تجليات هذا التوجه .
ثانياً: الموقف الروسي في أهدافه يشبه أهداف بقية الدول الكبرى ومنها الصين التي ترفض القطبية الأحادية في إدارة العالم من قبل أمريكا ، وعدم قبول فرض إرادتها ورؤيتها المنفردة في فرض الحلول تجاه بؤر التوتر في العالم ومنها القضية الفلسطينية ، بالإضافة إلى هدف الروس ملء الفراغ الذي تركته واشنطن بخصوص قضية فلسطين التي لم تعد راعية للسلام فيها.
ثالثاً: يندرج ذلك في إطار سعي الروس للحصول على أوراق قوية أخرى في مواجهة النوايا والضغوط الأمريكية ضدهم في شرق أوروبا وأوكرانيا وجورجيا وشبه جزيرة القرم.
وبالتالي الموقف الروسي يتمثل في مجمله في الدعوة إلى وقف إطلاق النار ووقف استهداف المدنيين ، والدعوة إلى حل القضية الفلسطينية بشكل عادل ووفق قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة ، وإلى تفعيل نشاط اللجنة الرباعية الدولية لرعاية السلام في الشرق الأوسط .

الموقف الأوروبي
الموقف الأوروبي تميّز بأنه بلا دور وبلا صوت مؤثر ، وكما هو معروف ان الموقف الأوروبي لم يخرج عن دائرة الموقف الأمريكي وعما تقرره واشنطن .
ولذلك رأينا أن موقف الاتحاد الأوروبي في مجمله تمثل في تصريحات مسؤولي دوله بالقول ( انهم مع حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ) وأنهم مع الدعوة إلى وقف التصعيد ، وهو موقف مشابه للموقف الأمريكي هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يرجع ضعف التأثير الأوروبي ودوره في هذه القضية إلى أن معظم دوله قد وقعت على قرار اعتبار حركة حماس منظمة إرهابية ولا تملك أي قنوات اتصال معها ، ولذلك لا تستطيع أن تقوم بدور مباشر ووسيط بين حماس وإسرائيل .
لذلك رأينا كيف ان الاتحاد ودوله ومنها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها توجهوا في مساعيهم إلى الاتصال بمصر والأردن وغيرهما .، كما دعوا إلى إدخال المساعدات الإنسانية والمشتقات النفطية للمتضررين والنازحين في غزة لكي لا تتفاقم الأوضاع اكثر مما هي متفاقمة حسب رأيهم.

الموقف التركي
لم نشهد لتركيا أي دور على الأرض منذ اندلاع المواجهات باستثناء التصريح اللافت والمهم الذي أطلقه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان عندما صرح بأن تركيا بدأت تدعم الفلسطينيين بنفس التصميم والدعم الذي قامت به تجاه اذربيجان .
وإذا ما عكست تركيا هذا التصريح على أرض الواقع فعليا سواء بصورة مباشرة أو غير مباسرة، بطريقة سرية أو علنية ، فإنه سيكون له تأثير فعال على خط الأزمة، وعلى مستقبل التوازن في المنطقة، ومستقبل الصراع في فلسطين والذي قد يتصاعد ويتحول إلى حرب شاملة في المنطقة .
وبرأيي قد يكون الأتراك هدفوا من وراء إطلاق هذا الموقف إلى إيصال رسالة للحكومة الإسرائيلية بعدم الذهاب بعيدا في معركتها الحربية ضد غزة إلى مديات بعيدة تعتبرها تركيا خطوطاً حمراء تمس الأمن القومي التركي .

الموقف المصري
الموقف المصري يمثل أهم موقف فعال ونشط ومحوري على الأرض في هذه القضية ، ويرجع إلى مركز وحجم الدولة المصرية ، وعلاقاتها التاريخية المهمة مع الفلسطينيين ، وموقع مصر الجيوسياسي الذي يتوجب عليها ان تلعب هذا الدور .
ثم إن مصر تحولت إلى قبلة لمعظم دول الاتحاد الأوروبي وللإدارة الأمريكية نفسها لتحركات مسؤوليها في الوصول إلى الهدنة ووقف إطلاق النار ، وإن تحقيق ذلك لا يمكن إلا عبر الدور المصري .
ومن هنا كانت أهمية الدور والموقف المصري كأهم عامل مساعد في التأثير على مسار الصراع والسعي للوصول إلى هدنة ووقف المواجهات .
عملت مصر منذ البداية على إرسال وفدين أمنيين إلى غزة وإلى تل أبيب ، وقيادة مباحثات تهدف للوصول إلى هدنة ووقف إطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ثم إن مصر أرسلت مئات سيارات الإسعاف إلى غزة وفتح أبواب المستشفيات المصرية لمعالجة المصابين جراء القصف والعدوان الإسرائيلي ، كما انها خصصت اكثر من 500مليون دولار للمساهمة في إعادة إعمار غزة، وما يزال الدور المصري هو المعول عليه من قبل اكثر دول العالم للتأثير والمساعدة على وقف إطلاق النار ووقف التصعيد .
تقوم مصر بهذا الدور رغم أنها تعاني مثلها مثل معظم الدول العربية من الضغوط والتآمر على دورها ، وإضعافها ، والتآمر على مواردها وأوراق قوتها ، كما تعاني من ضغوط اقتصادية شديدة ومازالت جبهتها الداخلية لم تندمل بعد من جراء تداعيات ما يسمى (ثورات الربيع العربي ).
العرب مفككون وتم تفتيت دولهم من الداخل وتمزيق مجتمعاتهم وإضعاف اقتصاداتهم، وتفشت الحروب الأهلية في دولهم ، وهو توجه وسياسة إجرامية قادتها الكثير من الدول الاقليمية والدولية ضدهم .
ولذلك جاء الموقف العربي ضعيفاً تجاه ما يحدث من مواجهات في فلسطين المحتلة ، ولذلك نقول إن الموقف والدور المصري هذه الأيام يعتبر متقدماً وجيداً رغم هذه الظروف .

الخلاصة
— أثبتت هذه الأحداث أن القضية الفلسطينية مازالت قضية محورية دولية تهدد الأمن والسلم الدوليين ، ولا يمكن لأي دولة عظمى مثل (أمريكا) أن تقوم بكل بساطة بتصفية هذه القضية بشكل منفرد وبجرة قلم وتستبيح الحقوق المشروعة للفلسطينيين في تحرير أراضيهم ونيل حقوقهم المشروعة في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشريف والقفز على حق العودة لكل اللاجئين الفلسطينيين .
— أثبتت هذه الانتفاضة والحرب الحقيقة التي بانت بوضوح للعالم وهي أن القضية الفلسطينية لم يعد لها راعٍ للسلام كما كانت أمريكا تلعب هذا الدور ، وان أمريكا فقط تحولت إلى شريك كامل للاحتلال الإسرائيلي ومعاد للفلسطينيين ، ولا يمكن لها إلا أن تلعب هذا الدور .
— إن الدول الكبرى ومنها الصين وروسيا وجدت من الهبة الشعبية الفلسطينيين وتفجر الحرب والمواجهات في فلسطين الفرصة المناسبة لمحاولة ملء الفراغ الذي تركته واشنطن في هذه القضية ، ومحاولة مد نفوذها بقوة للمنطقة ، والسعي إلى إسقاط القطبية الأحادية واستبدالها بنظام دولي متعدد الأقطاب .
— أثبتت هذه الحرب والمواجهات أن الفلسطينيين يتمتعون بإرادة صلبة وجبارة لا تلين ، وأنهم مستعدون الذهاب إلى التضحية بحياتهم وبكل ممتلكاتهم ومصالحهم والصمود في مواجهة القصف المدمر لجيش الاحتلال والقمع العنيف لشرطة الاحتلال ضدهم وكل ذلك في سبيل عدم التخلي عن القدس عاصمة للدولة الفلسطينية.
— أثبتت الهبة الشعبية الفلسطينية، أن الفلسطينيين في داخل (الخط الأخضر) أو في أراضي 48 يشكلون عاملاً مقرراً ومؤثراً في مصير القدس ، وفي أية تسوية وحلاً للقضية الفلسطينية، وأنهم يشكلون عاملاً خطيراً في تماسك (الجبهة الداخلية للدولة الإسرائيلية) وما حصلت من مواجهات عنيفة بين العرب والإسرائيليين في مدن ( اللد ، وحيفا ، والرملة ، ويافا ، وأم الفحم ) وغيرها ، زعزعت كيان العدو بدرجة كبير حتى أن بنيامين نتنياهو وصفها بقوله ( ما يحصل في المدن الإسرائيلية خطير جدا) لدرجة أن العديد من الصحف الإسرائيلية وصفتها بالحرب الأهلية، كما أنها طرحت العديد من الأسئلة حول مصير التعايش بين الطرفين.
— إن المجتمع (الإسرائيلي) أصيب بالصدمة واعتبر أن حكومته كانت تكذب عليه بالقول انها استطاعت تصفية القضية الفلسطينية وأنها حسمت مصير القدس كعاصمة أبدية لها ، وانه لم يعد للفلسطينيين أي قوة أو أي تأثير ، وان الدول العربية تتسابق في التطبيع مع إسرائيل ..الخ ، وأن كل ما كانت تسوقه لهم تبخر في هذه المواجهات .
— بدوره بنيامين نتنياهو استغل تفجر هذه المواجهات والحرب لتعزيز شعبيته لكي يحسم أي انتخابات قادمة تؤهله لتشكيل الحكومة، فقد فشلت ثلاث مرات من عقد الانتخابات في حصول أي حزب على أغلبية مريحة لتشكيل الحكومة ، كما انه يريد ان يتخلص من ضغوط تهم الفساد التي تطارده هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى الحكومة الإسرائيلية تريد فرض كل المكاسب السياسية التي حصلت عليها من واشنطن على ارض الواقع وخاصة الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة أبدية وموحدة لإسرائيل ، وأن التراجع والفشل في ذلك يضع مستقبلها ومستقبل الأحزاب الإسرائيلية في مهب الريح أمام المجتمع الإسرائيلي وأمام حلفائها وأولهم الأمريكيون، وانه يعيد مسار الصراع مع الفلسطينيين للمربع الأول حسب تصورها.
مما يجعل الوصول إلى الحلول بين الفلسطينيين والإسرائيليين في غاية التعقيد، نظرا لهذه المعطيات وهذه الخلفيات وهذه العوامل ، فما نشاهده اليوم هو أن كل دول العالم المتداخلة في هذه القضية جميعها غايتها وطرحها هو الوصول إلى هدنة بين الطرفين ووقف إطلاق النار فقط، ولا تستطيع أي منها تقديم وطرح حلول حقيقية وعادلة وشاملة لحل القضية يقبل بها الطرفان.
— أما الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حماس فقد كانت تعاني من ضغوط شعبية في غزة جراء الحصار والأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية للسكان في القطاع ، وبالتالي تضررت شعبيتها كثيرا ، ولذلك كانت تأمل حماس تجديد شرعيتها في غزة والضفة من خلال خوض الانتخابات التي كانت ستعقد لتحقيق أغلبية في البرلمان الفلسطيني ، ولذلك كان موقفها رافضاً لقرار أبو مازن تأجيل الانتخابات .
لذلك اعتبرت حماس تفجر المواجهات في القدس والهبة الشعبية الفلسطينية فرصة للانخراط في حرب مع إسرائيل وقصف المستوطنات والمدن الإسرائيلية ، أولا لتثبت انها تحمل الهم الشعبي الفلسطيني وأنها جزء أصيل معبّر عن تطلعات وهموم الفلسطينيين .
ثانياً: لتحقق مزيداً من المكاسب السياسية والشعبية أن نجاحها في استهداف تل أبيب وتحقيق توازن ردع معين مع إسرائيل يعطيها مزيداً من رفع سقف مطالبها وفرض مزيد من الشروط في مواجهة إسرائيل ، ورأينا كيف أن حماس كان من ضمن اهم شروطها لوقف إطلاق صواريخها التراجع عن إخلاء الفلسطينيين من حي الشيخ جراح ، والتراجع عن كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية في القدس وهو تطور كبير ومهم ، بالإضافة إلى تجديد شرعية حكمها لغزة والتخلص من الضغوط السابقة .
وبرأيي لقد تصرفت حركة حماس بطريقة ناجعة في تحقيق أهدافها وتعتبر منتصرة في هذه المعركة إلى حد الآن، طالما لم يستطع الجيش الإسرائيلي احتلال غزة والإطاحة بحكمها للقطاع .
أخيراً نقول: ليست المشكلة الرئيسية إزاء ما يحدث من حرب وتصعيد في فلسطين والهدف هو (وقف القصف المتبادل ووقف إطلاق النار بين الطرفين وعقد هدنة بينهم بحسب ما يصوره الأمريكيون والإسرائيليون والأوروبيون هذه الأيام في محاولة منهم لحرف الأنظار عن القضية الرئيسية والمشكلة الحقيقية وتمييعها، وإنما القضية الرئيسية والحقيقية هي في وقف كل الإجراءات والقرارات الإسرائيلية التي أتخذتها في القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، والاقتناع بأنه لا يمكن التنازل عنها لإسرائيل، وكذلك استمرار إسرائيل احتلال الأراضي الفلسطينية وخاصة التي احتلتها عام 1967م ، واستمرار الاستيطان الإسرائيلي في الصفة الغربية وعدم تفكيك المستوطنات التي أقيمت سابقا ، وكذلك عدم حسم قضية اللاجئين وحقهم في العودة إلى وطنهم فلسطين .
بدون التطرق لهذه الملفات وتحقيق حل لذلك ، فلا أعتقد أن الهدنة وخفض التصعيد سيحل الخلاف ويعمل على وقف وإنهاء حقيقي ودائم للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين .

قد يعجبك ايضا