حول الرأي العام والإعلام والقضاء .. بعض ما يجوز وما لا يجوز نشره!

عبدالعزيز البغدادي

 

الرأي العام قديم قدم التجمع البشري ، وهو تعبير عن رضى أو سخط المجتمع حول حدث من الأحداث أو قضية من القضايا ، وقد تطور الاهتمام بالرأي العام وقياسه والتعرف عليه وعلى اتجاهاته مع تطور اهتمام سلطات الدولة بأداء واجباتها نحو المواطن وحرص متولي الشأن العام على تحقيق العدالة ، وتبعاً تطورت وسائل الإعلام والصحافة والتواصل الاجتماعي لتصبح أكثر قدرة على اقتحام الحواجز والأطر والجدران والحجب التي يصنعها الحكام استثماراً للجهل وممارسة للتجهيل, ومع هذا التطور ما زال لديهم القدرة على تغيير أشكال الحجب ووسائلها ، وما زال همهم الأكبر -بدلا من السعي لمعرفة الحقائق- منصبّاً نحو محاولة تكميم الأفواه والردع المادي أو المعنوي لكل صاحب رأي حريص على تقديم النصح ونقد الأخطاء ونقل الحقائق وكشف أساليب الزيف والتضليل والممارسات غير السوية ، وأصبح لكبار شاغلي الوظائف العليا جيوش من الذباب الالكتروني والكتبة المستأجَرين يُجَمِّلون وجوه الطغاة ويُضخِّمُون إنجازاتهم الوهمية ، ولأنهم متشبثون بصلاحيات كبار المسؤولين التي ورثوها من نظام وثقافة الفساد تراهم يضيقون من النقد بل وأحياناً يعتبرونه جريمة ، لذلك وبكل جرأة يهدرون ميزانية الدولة المخصصة للإعلام بمعناه العلمي في شراء الذمم ومحترفي التضليل وكسب الولاءات وتضخيم الأشخاص بنشر الصور والمقالات الدعائية ، وهذه من أبرز علامات الدول الأكثر تخلفاً ونفاقاً وهي جرائم تضليل الرأي العام تمارس بصورة واضحة ومكشوفة !؛
وسلطة القضاء هي أكثر سلطات الدولة حساسية في التعامل مع الإعلام والرأي العام نظراً لبعض الالتباس لدى بعض القضاة الذين يخلطون بين حق القاضي في الاحترام الذي يستمده من احترامه للعدالة ولو لم يستحقه ، ومكانة العدالة كقيمة مقدسة ولهذا سيظل الجدل حول ما يجوز ومالا يجوز نشره من أعمال القضاء قائماً بحثاً عن السبيل الأمثل لحفظ التوازن بين حق المواطن في التعامل مع القضاء كسلطة وكل سلطة ملكٌ للشعب ومسؤولة أمامه عن مستوى أدائها لعملها وبين التزامها بواجبها ، وعلاقة المحاكم بحياة الناس علاقة وثيقة ومباشرة ومستمرة ، وأكثر القضايا إثارة للإعلام والرأي العام هي القضايا الجنائية الجسيمة التي توصف بأنها قضايا رأي عام لاستفزازها مشاعر المجتمع ، وفي القضايا غير الجنائية تعد من قضايا الرأي العام القضايا التي تصدر فيها أحكام أو إجراءات باطلة مخالفة للمنطق والقانون والشريعة .
رأي حول كيفية تعامل السلطة القضائية مع الرأي العام:
بصورة مختصرة وبما يناسب حيز اليوميات يمكن إيجاز الملاحظات التالية حول العلاقة المفترضة بين القضاء والإعلام والرأي العام:
1 – لا يجوز تهييج الرأي العام بأي وسيلة إعلامية بأخبار دون التأكد من صحتها (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) سورة يونس آية (36) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) سورة الحجرات آية (12).

2 – كل من أبدى رأياً بصورة مسيئة أو نقل خبراً كاذباً يتحمل المسؤولية القانونية الجنائية أو المدنية تجاه من أُسيء إليه بدون وجه حق سواء كان شخص القاضي أو مؤسسة القضاء محكمة أو أي شخص يعمل بها أو غيرها بالإضافة إلى الحق العام الذي قد يكون الغرامة أو السجن ولكل متضرر حق المطالبة بالتعويض ، ولست مع عقوبة السجن في قضايا الرأي العام ولكن لا بد من التفريق بين الرأي الموضوعي والإساءة الواضحة وبين الخبر الكاذب ، وما تتناوله الصحافة وأي عمل إعلامي خبراً كان أو رأياً ، والخبر كما يقال في علم الصحافة والإعلام مقدس أي لا بد من قيامه على وقائع مُثبتة وتحري صدقه قبل نقله ، أي أن من يُطلقه ليس حُراً ، أما الرأي فلا نقاش حول حريته طالما اتبع الأسلوب اللائق البعيد عن استخدام الألفاظ السوقية الجارحة.
3- السلطة القضائية كأي سلطة يجب ألا تقابل الرأي العام باللامبالاة وأن تعمل بجد على إيجاد آلية لتلقي الآراء والمقترحات بل والبحث عنها سواء حول فساد القضاء عموماً وكيفية إصلاحه ، أو حول قضايا الرأي العام وأن تعمل على مكافحة الفساد وإصلاح الاختلالات.
4- إن عدم التفريق بين الرأي العام الحقيقي والرأي العام الناتج عن حملات التشويه والإساءة يساعد على خلط الأوراق ويؤدي إلى الإهمال واللامبالاة بما ينشر ولا يجوز الإهمال في كل الأحوال.
5- النشر في مرحلة التحقيق يجب ألا يؤدي إلى ضياع الأدلة أو يساعد على هروب متهم وإلا عُدَّ مساهمة في الجريمة إذا توفر الركن المعنوي عند من قام بالنشر أما في مرحلة المحاكمة فالنشر يدخل ضمن مبدأ أن الأصل في المحاكمة العلنية مع مراعاة عدم التأثير على قناعة القاضي بالأكاذيب أو التهييج دون مبرر مقبول.
6- تعامل السلطة القضائية مع قادة الرأي الذين لهم دورهم في مخاطبة الرأي العام بمزيد من الشفافية وإظهار الحقيقة أنسب في تهدئة الرأي العام من لغة الاستنكار والردع واستخدام هيبة القضاء في إخفاء الحقائق وفي غير موضعها.

هو الله قال اصدقوا لتكونوا بمنزلة الأنبياء.

قد يعجبك ايضا