إنها الحرية والثورة المتجاوزة في مخيلته حدود المكان، فهي التي تهبّ من فلسطين، ومن لبنان، ومن سوريا، وكذلك من طهران.
أن تكون مشاركته في عمليّة فيينا في العام 1975م معلومة غير رائجة في الماضي كثيراً، فذلك وحده دليل كافٍ على أنّ الشّاب، ابن الرابعة والعشرين ربيعاً، لم يكن يبحث عن مجدٍ فرديّ. إنه ببساطة يتنفّس الحرية والثورة، ويفعل كلّ ما يمكن فعله لانتصارها، منتظراً أن يقطف نتائج مبادرته فلاح فلسطينيّ متعب في الخليل، أو لبناني أتعبه صوت الطائرات الحائمة في سماء بيروت، وكلّ عربي يشعر بالعجز عن اقتلاع الكيان المزروع عنوةً في أرضه. إنها الحرية والثورة المتجاوزة في مخيلته حدود المكان، فهي التي تهبّ من فلسطين، ومن لبنان، ومن سوريا، وكذلك من طهران.
لقد كانت عمليّة فيينا حدثاً يصلح بجدارة لعمل سينمائي جذاب. لم يبحث فيه النقاش عن لقطة عابرة أو مستحوذة، رغم أنه يستحقّ الاستحواذ على المشاهد كاملة، ولكنه فضّل العيش حتى لحظته الأخيرة في واقع الناس، وليس واقع الكاميرا. لم ينظر إلى نفسه بمرآة المجد الّذي استحقّه بشكل مؤكد. كان يرى في المرآة هموم الناس ومشروع الثورة والانتصار على الإمبريالية والظلم العالمي.
إنَّ النقاش بتجربته العميقة عصيّ على التصنيف. هو عضو الكتيبة الطلابية في فتح، ومؤسّس مقاومة الجنوب في العام 1978م، ونصير الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979م. يصعب تمرير تصنيف أحادي البعد في تفسير شخصية متشابكة حدّ التعقيد مثل أنيس. إنه باختصار ابن بارّ لمبدأ الثورة العادلة والمقاومة المحقّة. وبتجاوزه المكاني والزماني هذا، كان يضع إصبعه المتجمّد في هذه اللحظة على موضع الألم في منطقتنا؛ الوحدة في مواجهة الاستعمار بأثوابه المتعدّدة وألاعيبه المتنوعة.
تحمل محاولة النّقاش اغتيال شابور بختيار معاني كثيرة، فالانحياز إلى الثورة الإسلامية التي حاصرها العالم منذ يومها الأول، والتي راهنت القوى الكبرى على إجهاضها في مراحلها الجنينيّة، ما هو إلا مغامرة واعية لا تحركها إلا حساسيّة المثقف وعناد المقاتل، وكان أنيس الاثنين معاً.
إنَّ محاولة اغتيال بختيار لمنع أيّ شكل من أشكال الانقلاب على الثورة، لم تكن حماية لإيران فحسب، وإنما كانت حماية أيضاً لكلّ العرب من عودة شرطيّ أمريكيّ جديد على المنطقة. أيّ صور كانت تدور في رأسه لحظة التنفيذ؟ ونيابة عمن قاتل؟ فلسطين؟ طهران؟ سوريا؟ لبنان؟ العراق؟ العرب؟ نحن نعلق في دوامة التصنيف الصعب مجدداً!
أمضى النقاش 10 سنوات في السجن، في واحد من أكثر سجون العالم عتمةً وإيلاماً. إنَّها فرنسا، رائدة الاعتقال والتعذيب بخبرة قرون، من الجزائر إلى سوريا إلى فيتنام، وكأنَّه يريد تصفية حسابه معها أيضاً بأثر رجعيّ هذه المرة. إنها صورة التاريخ في رأس من يقرأه!
خرج النقاش من السّجن معافى وسليماً وصلباً وأكثر عناداً. في أدب السّجون، كثيراً ما يخرج المناضلون السياسيون ليمضوا ما تبقّى من عمرهم مع مونولوغ الروح في سرد ذكريات السجن، والارتداد إلى معنى الوجود الفردي ومناخات الفلسفة اليائسة. سار النقاش على سكّة مختلفة، منفتحاً على أحلامه القديمة في عالم جديد.
كانت الثورة الفلسطينية في تراجعٍ لم يرق له، وكانت مشاريع التسوية تخطّ مساراتها الأولى، وكانت الولايات المتحدة تتأهَّب للاستفراد بالعالم، ولكن الثورة الإسلامية كانتنت تنمو، وسوريا تعضّ على الجرح وتصبر وتصمد، والمقاومة تبني نفسها وعينها على المستقبل، فكان طليقاً هناك كعادته، كما كان عقله وروحه في سجون فرنسا. من الرصاص الحيّ إلى رصاص الكلمات، واصل الرجل مسيرته.
لم يعر النقاش ظروف فيروس كورونا اهتماماً مفرطاً، ولسان حاله يقول: “لا يمكن لشيء أن يوقفنا”، لأنَّه، ببساطة، كان يؤمن بأن أساس هذا العالم هو الحركة، وذلك أيضاً هو أساس الثورة والمقاومة، فتحرك بنشاط دائم بين عواصم المقاومة؛ بيروت ودمشق وطهران.
لا يمكن اختصار ظاهرة النقّاش في زاوية التحليل السياسي العميق الذي شهدنااه وراقبناه واسترشدنا به باستمرار، وفي عمل فكري دؤوب ونشط، واجتهاد استثنائي موضوعي ومتفائل في تفسير الوقائع، إلى جانب الجد والاجتهاد الفكريين. كانت الكلمة محمّلة بالتجربة العميقة والفريدة. كانت محمّلة بتجربة السلاح في الميدان وبمعاينة متكررة للألم. إن متابعي النقاش يعجبون بتحليله ويقتنعون بفكرته، وهم كذلك يصدقونه، لأن كلماته ببساطة ليست عارية، بل مغمّسة بالتعب والدم والمثابرة.
هدأ جسد النقّاش إلى الأبد، ولن يهدأ صوت الثورة الذي صدح به ومارسه كذلك إلى الأبد.
قد يعجبك ايضا