الثورة / محمد شرف
لا يمكن التعبير بسطور أو صفحات عن مدى الخسارة التي فقدناها برحيل العلامة الثائر مفتي محافظة تعز ، عضو دار الإفتاء ورابطة علماء اليمن ، فقد كان رجلا استثنائيا ، في علمه وفهمه ، وسياسته وعطائه وشجاعته على مدى حياته . لكنها مشيئة الله سبحانه وتعالى ، وله الحمد من قبل ومن بعد . لقد كان الخبر فاجعة لنا ، وكان علينا رغم ذلك أن نستعرض بعجالة بعضاً من سيرته ومواقفه .
ولد العلامة الراحل السيد سهل بن إبراهيم عقيل في مدينة الحديدة عام 1940م ، وانتقل إلى الدراسة في المدرسة الأحمدية . وكان والده الذي ولد في قرية المسيلة بحضرموت قد انتقل إلى الحديدة، قبل أن يستقر في مدينة تعز التي عاش بها إلى مات عام 1415 هجرية. ليتولى ابنه العلامة الراحل سهل بن عقيل تغطية الفراغ الذي تركه رحيل والده . فكان منارة للعلم والإفتاء والخلق والتواضع والقرب من هموم الناس ، حتى غدا بحق العالم الثائر ، رغم تصوفه وزهده .
وكان له رؤيته الخاصة حول العلم وطلب العلم ، فهو يفرق ـ كما يقول ـ بين الدراسة من أجل الشهادة والدراسة من أجل العلم، فمن طلب العلم أنتج معرفة، ومن طلب العلم من أجل الدراسة فهو مجرد آلة تسجيل، وشدد على أهمية العلم فهو الذي لا يمل ولا يكل منه العقل، فالعقل هو الشيء الوحيد الذي كلما ملأته اتسع، وبالعقل تتجسد جدوى التخاطب بين المجتمعات.
ومع انطلاق العدوان تعرض العلامة الراحل للمضايقات في مدينة تعز ، لدرجة أنهم آذوه، كفِروه، وحاولوا اغتياله، لكنه ظل ثابتا على مواقفه صامدا في وجه العدوان والتطرف والإرهاب الذي يمارس بدواع تكفيرية، فالتكفير في الغالب مبرر للاغتيالات، وفي كل خطاب يؤكد تبعية السعودية وأذنابها لإسرائيل، وأسماهم أحذية اليهود، ودعا إلى الوقوف ضد المليشيات التابعة للسعودية من حزب الإصلاح التي عاثت في الأرض فسادا ونفذت الاغتيالات ضد مواطنين يمنيين في تعز وصنعاء ومناطق أخرى غيرهما، ودعا اليمنيين للاصطفاف يدا واحدة ضد العدوان ومرتزقته.. وكان العلامة بن عقيل معتزا بيمنيته ، باعتبار اليمن أصل الحضارات وأنهم علّموا العالم الكتابة، وعلموهم الدين والأخلاق، وكان يتساءل دائماً : كيف يحكمهم أولئك الحثالات من الأعراب..
ويحذر دائماً ، ومنذ انطلاق العدوان ، بأن الأمر جلل وعلينا أن نأبى الخنوع والرضوخ للعدوان، فمواجهة العدوان ضرورة شرعية وإنسانية، إنها لمعجزة كبرى -على حد تعبيره- أي المسيرة القرآنية لأنها نفخت الروح من جديد في الأمة، وأن اليمن أصبح قبلة العالم وكان ينظر إلينا كفقراء، إنها بداية التاريخ الحقيقي لهذا البلد، ولذلك علينا التمسك براية الجهاد لتحرير المقدسات التي يحتلها اليهود.
مواقف مبدئية
في مؤتمر حكماء اليمن الذي انعقد في يونيو 2017 ، كان الموقف مهيبا وهو يكبر “الله أكبر” في الجمع الحاشد الذي ضم مشائخ وأعيانا وعقالا ومثقفين وسياسيين وأعضاء من مجلس النواب وأعضاء من مجلس الشورى، من المحافظات، وقال بصوت عال “سنوحد الجزيرة العربية”، السيد سهل بن عقيل له مواقف واضحة وصريحة عبّر عنها في كل خطاباته وكتاباته ضد العدوان، من أهمها رفضه المبادرة الخليجية، ورفض تقسيم اليمن إلى أقاليم، رفض الوصاية على اليمن، رفض التطرف والإرهاب النجدي السعودي، ويؤكد في خطاب له أن الانجلوسكسونية تآمرت على اليمن، وأن النظام السعودي يعرف أن ثورة اليمن مفتاح ثورة الجزيرة العربية، والواقع يقول تقريبا إن كل أنظمة منطقة الجزيرة العربية ملكية باستثناء اليمن جمهوري، لهذا مورس ضد الشعب الظلم والتجهيل، ونهب الثروات، والتقسيم المذهبي شيعة وسنة، ثم التقسيم إلى أقاليم، إنها سياسة فرِّق تسد القادمة من الخارج، أما اليمنيون فهم يد واحدة وكلمة واحدة، ثم قامت ثورة أنصار الله ودخلوا صنعاء فخافت الكثير من الجهات على مصالحها في اليمن، فشنت العدوان.
رأيه في المستعمر
القديم الجديد
هكذا ينظر العلامة سهل بن عقيل لمصير المستعمر الجديد : « إن الأحداث الأخيرة التي تحدث في العراق وسوريا ولبنان، وكذا الأحداث التحضيرية التي تريد أن تصنعها في اليمن وكذا إيران، إنما هي أحداث لا تستطيع أن تغير مجرى سيل المقاومة ضد الاستعمار على مستوى الشرق الأوسط،، بل وعلى مستوى الدول الأخرى في أمريكا اللاتينية وغيرها « . .
ويضيف : « إن هذه الأحداث في مجملها تحكي النزع الأخير للاستعمار القديم في حركته قبل الوفاة، فإنه لا مكان له في القرن الحادي والعشرين على مستوى جميع دول العالم الواقعة على الكرة الأرضية.
إن التآمرات التي تحدث الآن لا تخيف أحداً، وإنما هي تضيء الطريق للمقاومة والممانعة على الطريق المستقيم لأخذ حق الشعوب المظلومة والمضطهدة، سواء داخل دول الممانعة أو خارجها، فما على دول الاستعمار القديم إلا أن تطوي بساطها سريعاً قبل أن يصيبها شرر الثورات التي يتوقعها كل ذي عقل سليم، فإنه إذا وقعت الثورة وانقلب الميزان إلى داخل هذه الدول فإنها ستحرق فيها الأخضر واليابس، ستكون درساً قاسياً لن تستطيع أن تتحمله مهما كان لديها من قوة تسليحية وتقنية، فإن الإنسان هو الأصل في تحريك الأحداث وليست القوة أو التقنية، وهذا معلوم « . .
ويتوقع بحس ملهم : « إذا أضمرت الدول الاستعمارية القديمة أو الحديثة الحرب في هذه المنطقة فسيكون درساً أليماً لن تفيق بعده ولا بعد قرون لأنها ستسحق الأخضر واليابس، وستضعها في موقف كان.
هناك إنسان بلا إنسانية وطواغيت يريدون استعباد بني البشر وعليهم هنا ألا يصدقوا كهنة صهيون فإن الواقع يحكي ذلك « .
وفي مقال له عن الحرب على اليمن والدور الأميركي ، يقول العلامة الراحل سهل بن عقيل :
« كان الأمل الأمريكي في احتلال اليمن سهلاً، وذلك بعد أن خططت للهيكلة في جميع الدوائر الحكومية مع هيكلة الإنسان نفسه ، كي يكون فريسة سهلة لابتلاعه بواسطة دول الخليج التي كان لها الأثر الأكبر في إنجاح هذا المخطط، وجعل اليمن مقسمة بين هذه الدويلات “السعودية والإمارات ومن لف لفها”.
ولقد اصطدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها بصخرة عصيّة هشَّمت رؤوس التحالف، وأظهرت –بعون الله- المستضعفين بصورة جلية، ولقد أظهر هذا العدوان اليمن قِبلةً عظيمة تنحني لها رؤوس الجبابرة ورفعت مكانه إلى مكان لا تستطيع أي دولة في العالم الثالث أن تقوم مقامه ، مع قلة الإمكانيات ..والحمد لله ، وكل يوم تُظهر اليمن انتصاراً جديداً تمرِّغ به أنف أمريكا وتحالفها وجيوشها وعملائها في الشرق الأوسط في التراب، وأصبحت أمريكا وتحالفها في اليمن محط سخرية العالم..
هنا أصبحت أمريكا تبحث عن وجوه جديدة لاستلام الحكم في دول الخليج ولكنها لم تجد الموثوق بهم من العملاء كالذين هم على كراسي الحكم في هذه البلدان وبلدان التحالف ، وتخاف إن سلمت الحكم لأي فئة كانت مهما أظهرت الولاء أنها لن تكون بديلة عن الموجودين الآن وكذلك هي حائرة أشد الحيرة، وكما قال الشاعر: (وقال أصيحابي الفرار أم الردى …. وخُيرت في أمرين أحلاهما مُرٌ) فكلا الأمرين مصيبة ، ولذا ترى (أمريكا)- وهي المسيِّرة لهذه الحرب- إطالتها ،رغم أن فيها الخسارة العظيمة لمصالحها ومصالح حلفائها ،لأنها بلا شك ستكون حاسمة في تدمير كل المصالح في السعودية ودول الخليج ودول الحلفاء بلا استثناء وستخرج ” بخفي حنين”.
وهذا بالنسبة لنظرتها الاستباقية أخف ضرراً من تسليم هذه المقدرات أو ما بقي منها لأصحاب الأرض في الجزيرة العربية ،لأنها تخشى وبلا شك أن تقوم في هذه البلدان دولة عظيمة أتيحت لها الفرصة والعوامل المادية والعلمية لأن تكون دولة عظيمة في “الشرق الأوسط” لبناء تاريخ جديد للأمة العربية والإسلامية ،وكما قال الله تعالى في كتابه على لسان نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، بل يتكلم باسم الله القوي القاهر: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)).
فهذا حسب النظرة الاستباقية للأحداث في نظرها تختار أخف الضررين، وأخف الضررين في نظرها أرض محروقة تماماً ، وكما يقول مثلهم (عليّ وعلى أعدائي)، (أنا وبعدي الطوفان)..
ويسخر العلامة بن عقيل مستخدما المثل : (وأين للحمار عقل كعقل الأمير؟!).. إذ خرج أحد الأمراء في إحدى الليالي المظلمة ،ليتفقد أحوال الرعية ، فمرَّ في طريقه بمعصرة يجرها حمار وفي رقبة الحمار جرس، وصاحب المعصرة نائم على مقعد في رأس المعصرة ،فأخذ الأمير السوط وضرب صاحب المعصرة، فانتبه الرجل وإذا هو بالأمير وإلى جانبه حراسه ، فقال: لِمَ ضربتني بالسوط؟ فقال الأمير :أنت تستحق ذلك، لأنك نائم خلال عملك ، فأجابه صاحب المعصرة :أنا أنام على صوت الجرس فإذا وقف الجرس استيقظت وضربت الحمار ليزاول عمله ، فقال الأمير :افترض أن الحمار وقف وحرَّك رأسه ولم يحرك المعصرة !!؟.. فأجابه صاحب المعصرة :وأنى للحمار عقل ، كعقل الأمير؟!!
ويؤكد : أن دول التحالف هي الحمار، وإن صاحب المعصرة هي أمريكا فأخف الضررين بالنسبة لها تحطيم كل شيء حتى داخل دول التحالف نفسها ،حتى لا تقوم لهم قائمة مستقبلاً ، وعلى الجميع أن يعقل، فالبدار البدار لضرب مصالح كل الدول الاستعمارية داخل هذه الدول ، لأن الخسارة الآنية أخف عليها من الخسارة المستقبلية إن قامت دولة عظيمة ، وذلك كي نكسب التوازن في الرعب .
وسطية الذل
يصف العلامة سهل بن عقيل مفهوم « الوسطية والاعتدال « ويقول : « هذا المصطلح وظف توظيفا سياسيا وسلطويا ويعتبر الوسطية ذلا عند تفشي الظلم والظلام وتسلط قوى الشر ويصف هذه الوسطية بالنفاق فيقول: « ليس هناك وسطية بين الحق والباطل فإما حق وإما باطل ولا بين العدل والظلم فإما عدل تستقيم به شوكة الميزان بين كفتيه تميل إحداهما للحق فنسميه حقاً أو تميل الكفة الأخرى إلى الباطل فنسميه باطلاً إذن فليس هناك وسطية بينهما، وكذلك نقول ليس هناك وسطية بين الإيمان والكفر، فإما إيمان صحيح أو كفر صريح والوسطية بين الإيمان والكفر هو نفاق والنفاق أشد أنواع الكفر، إذ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار» . وهذه العبارة العظيمة تعتبر تصحيحا لمفهوم الوسطية الرائجة في بعض الوسط الشافعي وغيره فيرى الحياد رضا بالمذلة والهوان.
سيرة عطرة
ولد السيد سهل عام 1940م في مدينة الحديدة. سهل بن إبراهيم بن عمر بن عقيل بن يحيى باعلوي الحسيني، تربى يتيم الأم في كنف أبيه العلامة إبراهيم بن عمر بن عقيل ومنذ نعومة أظفاره ينهل من العلوم والآداب من أبيه ما أهله لأن يكون نابغاً منذ صغره، فدرس بالمدرسة الأحمدية الابتدائية والثانوية في مصر والجامعة في بيروت، ولكنه كان قد أخذ العلم الشرعي واللغوي من مشايخ جملة منهم الحبيب إبراهيم، والسيد محمد سليمان الأهدل، والسيد محمد بن سالم بن حفيظ، والسيد علوي بن طاهر، وأخذ منه الإجازة، والشيخ محمد سالم البيحاني؛ والذي عمل معه في المعهد في عدن.
ومنذ نشأته كان صدَّاحاً بالحق لا يرهب أحداً من أهل الباطل فلم يطب له الحال في عدن إلا وكان من أشد المناضلين ضد الإنجليز، بل إنه قاد المظاهرات واعتقل أكثر من ستة أشهرـ وبعد الثورة درس في بيروت وعاد منها وتقلد بعض الوظائف العامة والخاصة وظل على الدوام مركبا شاحنا بالخير والفتوة لم يعط زمام قياده لأحد، قريباً من الناس بعيدا عن المتنفذين، مقارع للظالمين من جميع أطوار وفترات عمره باختصار حتى لحق بركب ثورة 21 سبتمبر موجها وداعياً للخلاص من الباطل والفساد بجميع أطيافه وألوانه، لم يكن يوماً متحزباً قط إلا لوطنه ولشعبه متعرضا لشتى أنواع الضغوط والإغراءات مترفعاً من كل ذلك حتى ما أصابه من بلاء تهجيره قسراً ونزوحه عن مدينته وزاويته ومسجده الزاوية التي تخرج منها العلماء والأدباء وكم كان فيها من ذكر لله وإيواء وإطعام … لم يغير ذلك كله ثباته بل زاده إصراراً على موقفه، وله تلك الخطب العصماء والمقابلات والمقالات والندوات التي تلخص صدق توجهه. .
رحم الله العلامة الثائر سهل بن إبراهيم بن عقيل ، ونسأل الله أن يلهم أهله وذويه وكل محبيه الصبر والسلوان .