« عثمان » وقسوة الرَّحيل

أحمد يحيى الديلمي

 

أحمد الديلمي
في ظل ظروف سياسية قاهرة وفي ظل تعاقب المآسي والأحزان وموجات المرض العضال وقلَّة ما في اليد ينسدُّ الأفق أمام أي إنسان ويصبح الرحيل عن الحياة خياراً مفضلاً، على الأقل لتخفيف معاناة الأبناء والأهل والأصدقاء فيصير الغياب عالماً رحباً، والهروب ملاذاً وملجأ، هذا ما حدث للفقيد الأستاذ عبده علي عثمان، فلقد تكالبت عليه الظروف خاصة بعد أن تضاعفت التوترات القاهرة وتصاعدت أجواء الحرب الموحشة بما ترتَّبت عليها من مآسٍ وآلام وأحزان، هذا هو خيار كل مناضل شريف قدَّم الكثير لهذا الوطن، وهذه هي المشاعر التي رأيتها في عيون من حضروا مراسم تأبين الشخصية الوطنية المعروفة الأستاذ الجامعي اللامع/ عبده علي عثمان، وهذا هو بالضبط ما شعرت به في نفس اللحظة وأنا أتذكر حياة الرجل بتواضعه الجم وحرصه الشديد على الاقتراب من البشر من كل الفئات والطبقات .
في مراسم حفل التأبين صباح الثلاثاء الماضي بقاعة الزعيم جمال عبدالناصر – جامعة صنعاء، ذلك الصرح العلمي المهيب استوعبنا خلاصة تجارب الفقيد وزبدة معارفه من الكلمات التي توالت، كانت كلها تعكس الصدق وتشكو قسوة الرحيل ومرارة الفقد، والتي اختزلها الأديب والمفكر أستاذ التاريخ الدكتور أحمد قايد الصايدي بقطرات الدموع التي انحدرت من عينيه أثناء إلقاء قصيدته المؤثرة التي حرَّكت الأشجان وجعلت الدموع تترقرق في مآقي الحضور تضامناً مع الدكتور، حيث مثَّلت القصيدة بحثاً فلسفياً واجتماعياً شاملاً لخص مآسي الوطن المتعاقبة، فتركت وقعاً مؤثراً في النفوس وجعلت الدموع تتحرَّك في المآقي، الكلام يطول لأنه واسع ومتنوع، الكل حاول الاقتراب من السيرة الذاتية للفقيد، وهي حافلة ومليئة بالأحداث والأدوار والمواقف الهامة لأنها سعت بصدق إلى اختراق جدران الجهل والتخلُّف، والدلالة على آليات التحوّل الطبيعي للارتقاء بالحياة في اليمن، فحتى وهو يشغل مناصب مرموقة في الدولة، ظل قلبه وباب مكتبه مفتوحين للجميع، فكان بالفعل نبعاً للعطاء يتحرَّك في قلب الوطن، يتلمَّس الهموم ويقرأ التطلعات والآمال في عيون البسطاء من أبناء الشعب، ويتعامل معها برؤية هادئة خالية من التعالي، ومجرَّدة من البيروقراطية التي عاشها خلال سنوات الدراسة وبالذات في أمريكا، فكان بالفعل يمنياً لكل اليمن واليمنيين .
الحيوية عنصر رئيسي وهام في حياته ومن خلالها نسج علاقة هامة متميزة بين المعارف العلمية والمواهب الذاتية وبين العمل العام، حيث واصل العطاء بلا حساب حتى استقر به المطاف في المدرجات الأكاديمية فكان أكثر عطاءً ومعايشة للطلبة من منطلق الرؤية الوطنية الصادقة التي يكتنزها في أعماقه بملامح تنويرية أساسها التضافر العملي بين الثقافة العلمية والثقافة الإنسانية، كونه عالماً موسوعياً ورائداً أصيلاً من رواد التنوير والحداثة، هذا هو الأستاذ القدير عبده علي عثمان الذي فارقنا وكان الحزن يملأ النفوس عليه، فلقد عاش حياة اتصفت بالزهد والتعبِّد الصادق في محراب المعرفة والعلم، كان دقيقاً في مواقفه، متواضعاً في خطواته، شعر به الجميع من خلال سلوكه وممارساته وانحيازه للعلم باعتباره رسالة حضارية تتَّسم بالسمو والتواضع، حيث قال في هذا الجانب: «لا يمكن أن تتطوَّر اليمن ولا يمكن الارتقاء بالحياة وتخليص البلاد من الكابح الجديد المتمثِّل في غول الفساد إلا بإصلاح التعليم، لأن القضاء على هذه العاهة الجديدة يكون ثمرة للدراسة السليمة والتحليل المنطقي، ولا يمكن أن يحدث التطوُّر في أجواء الخوف وانعدام الأمان وكثرة الصراعات، واحتدام الخلاف على أبسط الأشياء وعلى كل اليمنيين التحلِّي بالولاء المطلق والانتماء الصادق للوطن ثم للمهنة، بحيث يكون ولاء كل إنسان الأول والأخير للمهنة، فيتحمَّس للبحث عن الجديد النافع للوطن والمواطن».
هكذا كان الأستاذ عثمان وهذه بعض أفكاره التي أنار بها العقول على مدى نصف قرن من الزمن، واليوم حضر الأهل والأصدقاء والأصحاب لوداع هذا الرجل وكل منهم يتذكر مرحلة من مراحل حياته، كما كان الأمر بالنسبة لي، فلقد تذكّرت بإباء ذلك اليوم العظيم الذي قابلت الرجل فيه لأول مرة، حيث دخلت عليه وهو وزير للبلدية بعد الإعدادية مباشرة، كنا نبحث عن وظائف في العطلة الدراسية للحصول على مصدر دخل، قابلني بكل ترحاب واحترام مع أني لم أكن أعرفه وليست لدي وساطة أو شخصية معروفة قدمتني إليه، إلا أن الرجل كان كريماً بالفعل فلقد أخذ بيدي إلى مدير مكتبه وقال : «الولد من أسرة كريمة، وظِّفوه من اليوم، فأين نجد مثل هذه الشخصية العملاقة؟ شخصية تعالت فوق كل شيء واتحدت مع الوطن كل الوطن، لم يشعر أحد يوماً أنه من مواليد الأحكوم الحجرية، وأن تعز محافظته، عاش لليمن كل اليمن، متبتلاً في محرابها، ناسكاً في العمل من أجلها، متواضعاً في خدمة أبنائها، وهذا هو عزاء أبنائه وكل محبيه، فالرجل ترك له مساحة كبيرة في النفوس ومحبين كُثر، لا أعتقد أن أحداً منهم سينسى يوماً هذا الرجل، من عامل النظافة الذي تعامل معه بكل ودٍّ ومحبّة، إلى طلبة الجامعة بكل أقسامها، الليسانس والبكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وكم يعُزُّ علينا اليوم أن نعيش لحظات الوداع هذه والأحزان تعتصر القلوب والنشيج ينطلق من الصدور والدموع تترقرق في العيون، في موقف عظيم دلَّل على مكانة الرجل وهي أعظم شهادة للمرحوم وأعظم وسام لأبنائه، نسأل الله له الرحمة والمغفرة ولأهله وذويه وأصدقائه الصبر والسلوان .. إنا لله وإنا إليه راجعون .

قد يعجبك ايضا