عبدالوهاب عبدالله سنين
من منا لا يريد الحداثة، أو بالأصح التجديد، والحداثة لا بد أن توائم العصر المعاش، وقبل قرون غابرة قال المأمون العباسي : (الكلام ما شاكل الزمان) صحيح أن التطور يجري جريان الماء لا يستطيع أن يعترضه أحد، ولكن هل نرفض التراث القديم رفضاً مطلقاً؟، بالتأكيد لا فلا بد من التجاور، وتلقيح القديم بالحديث ، لذلك أصبح التراث العربي القديم مثار جدل في الوسط الثقافي العربي وخاصة الأدبي، والغريب أن الدكتور رجاء النقاش عدَّ لفظ الحداثة أيديولوجيا سيكبوتية، ويرى أن اللفظ الأقرب للإنصاف والاعتدال هو التجديد، حيثُ قال عن لفظ الحداثة : (( يتم استخدامها في الحق والباطل، ثم هي قد أصبحت كلمة عدوانية، كثيراً ما يستخدمها بعضهم لإرهاب خصومهم الفكريين، وإلقاء التهمة عليهم بأنهم قد أصبحوا كما نقول في أحاديثنا اليومية(دقة قديمة).))(1)
ولا شك ولا ريب أن البعض من الأدباء يعتقدون أن الشعر العمودي رماد القرون البالية، إذ التجديد إنما كان على الشعر العمودي، وهو الذي قامت عليه ثورة لمحاولة اقتلاعه من جذوره، و هذا بلا شك تيه وبُعد عن مفهوم التجديد، ولكن يتبادر إلى ذهني سؤال: من الذي دفع البعض إلى نشر دعوة الهدم للشعر القديم ، وذلك بحجة قسوة اللغة العربية الفصحى وعدم انسجامها مع العصر الحديث، وما سيأتي بعده من عصور؟
الحقيقة أن المستشرقين هم من سخَّروا جهودهم لخلع وإفراغ المثقف العربي من محتواه الثقافي التليد، وخاصة اللغة العربية الفصحى، حيثُ بذلوا الجهد الوفير بالنفخ في أبواقهم من العرب، وذلك للقيام بتشويه التراث العربي باسم الحداثة، والتنصل عن قيود الماضي الرجعي على حد زعمهم، من أجل الوصول إلى أوج الحداثة، وذلك إنما هو في حقيقة الأمر تبديل وتغيير الأصيل المتقادم بحديث غير مكتمل الرؤية ، لذلك أراد المستشرقون طمس تراث أمة عربية شادخة في سماء الحضارات الماجدة، لكي يحولوا المثقف العربي إلى إناء مفرغ من محتواه العربي الأصيل، وبث الركة والضعف في لغته السامية، وجعله يلوك العُجمة في لسانه، وهذا لويس عوض الذي أظهر بغظه للشعر العمودي قائلاً : (( حطِّموا عمود الشعر، لقد مات الشعر العربي، مات عام 1933م، مات بموت أحمد شوقي مات ميتة الأبد، مات))(2)
وهذه الصرخة الباهتة ، تنم عن بغض للغة العربية برمتها بل هناك غيره ممن لفظوا القديم وعدُّوه من الجمود والتخلف، لذا لا بد من المضي خلف أوروبا النهضوية من أجل تطوير العقل العربي، صحيح لا بد من مواكبة العصر شعراً ونثراً، ولكن ليس على حساب هدم القديم برمته، ولكن من خلال تطوير بنيته الفكرية، ولا يتسنى ذلك إلا من خلال ممارسته، واستيعاب مادته الفكرية والأدبية ، وتناول أصوله بالدرس والتنقيح، وتلقيحه بكل ما هو جديد، وليس رفضه وهدمه، ومن أراد الوصول إلى مراتب الحداثة، فلا بد أن يشرب نقيع القديم ومزجه بالحديث، وهو ما تبناه بعض عمالقة الغرب من الشعراء، كما سيأتي بيانه.
يقول الدكتور الجابري : (( تطوير العقل العربي أو الفكر العربي أو تجديده أو تكسير بنية الفكر القديم يجب أن يتم من خلال ممارسة هذا الفكر القديم نفسه … لا من خلال رفضه رفضاً مطلقاً”.
أمامنا مثلاً تجربة شبلي الشميل، وتجربة سلامة موسى وهما من الذين تعاملوا هذا التعامل الخارجي مع التراث، ورفضوه رفضاً مطلقاً، وبشَّروا بالفكر الأوروبي، الأنواري النهضوي، ولكن ماذا أنتج هؤلاء في حظيرة الفكر العربي؟ سلامة موسى 1910م إلى 1950م وهو يكتب داعياً نفس الدعوة، لكي نحكم عليه في النهاية، لا بأنه لم يجدد المجتمع العربي أو الفكر العربي فقط، ولكن بأنه هو نفسه لم يتجدد ولم يتقدم خطوة واحدة))(3)
والفكر الأوروبي بالنسبة للمثقف العربي غير واضح المعالم ، وهناك قصور كبير في تلقيه ومعرفة أسراره ،إذ لا ريب ولا شك أن المثقف العربي لم يحط إحاطة واسعة بالعديد من الفنون الثقافية والفكرية والفلسفية وعرفها حق معرفة، ويرى بعض جهابذة الأدب أن منهج ديكارت، فيه سعة لحرية الفكر من الجمود، وذلك يتسنى لمن طبَّق المنهج الديكارتي ،ولكن ديكارت نفسه لم يدع لهدم الثوابت في العلوم الإنسانية، ولم يجعل منهجه في الشك كذلك، بل (( يرى أن تطبيق منهجه غير صالح في تجديد الأمور العامة المتصلة بحياة الناس))(5) ويقول الدكتور نجيب البهبيتي: (( ولم يطبِّق ديكارت منهجه هذا في التاريخ ولا في الأدب))(6).
بالطبع ليس هناك فكر مكتمل في الوسط الثقافي العربي المعاصر؛ رغم محاولة الكثيرين التباهي بدعوى الفكر المستنير، المواكب لروَّاد الحداثة في أوروبا، ولكن ذلك الأمر مجرد أوهام مستوردة، ولم نحط بما حاط به العرب الأوائل بعلوم اليونان وغيرها من العلوم، ولذلك قال المؤرخ الإنجليزي ولز في كتابه ( ملخص التاريخ):(( هبَّ العرب يظهرون ما خفي من مواهبهم فبهروا العالم بما أتوا به من معجزات العلم, وأصبح لهم السبق بعد اليونان، فبعثوا كتبهم من مراقدها, ونفخوا فيها من روحهم الحياة والقوة, فجعلوا بذلك سلسلة العلوم متصلة الحلقات مُحكمة السَّردْ لا يمسها انقطاع ولا وهن, فإذا كان اليونان آباء الأبحاث العلمية المبنية على الصراحة والأمانة والوضوح والنقد, فإن العرب مربوها, وما جاءنا العلم والمدنية إلا عن طريقهم لا عن طريق اللاتين))(7), على أن العرب هم عباقرة العلم أيضاً ولهم في كل فنون الحياة الباع الأرحب, ويقول(بترارك) -شاعر إيطاليا العظيم وهو ينعي على قومه تخلفهم في مضمار العلم وقعودهم عن مجاراة العرب -في لهجةٍ مُرة من الإنكار والتعجب: (( ماذا! ماذا! أبعد ديموستين يستطيع شيشرون أن يكون خطيباً, وبعد هوميروس يستطيع فرجيل أن يكون شاعراً, وبعد العرب لا يستطيع أحد أن يكتب؟ لقد ساوينا الاغريق غالباً وشأوناهم حيناً, وإذا شأونا الاغريق فقل شأونا جميع الأمم ولكن ما عدا العرب! يا للجنون! يا للضلال يالعبقرية إيطاليا الراقدة أو الخامدة!!))(6) إذ الفنون الأدبية, والعلوم العربية لها ارتباط وثيق بالتقدم والرقي, ولا تجد فيها انفصاماً, بل إنها مفاخر حضارة متوائمة متماسكة ضاربة في جذور التاريخ على مر العصور، ولكن للأسف عرفها الأعجمي ونهل من حياضها , وتنقص منها العربي ونفر منها! .
وكل من لا يرى سمو الأدب العربي أقول له ما قاله الأستاذ الزيات: (( ليست دراسة الآداب ولا فقه تاريخها مما يدخل في باب التخصص ولا مما يلائم فريقاً دون فريق, لأن الأدب هو الجزء الروحي من كل إنسان))(7)
ولو سفّهنا تراثنا بحجة القِدم لهدمنا منارة متقادمة غائصة في جذور التاريخ، وهذا (بونين) أحد عمالقة الشعراء الروس تأثَّر بمعلقة امرئ القيس، ووظفها في شعره ، أيضاً يوهان جوته عبقري ألمانيا كان محباً للتراث العربي، وكذلك أمير شعراء روسيا الكسندر بوشكين، الذي تأثر بالقرآن ووظف ذلك في شعره الحديث بامتياز ومثله ليرمنتوف، ولا أنسى دانتي اليجيري مؤلف ( الكوميديا الإلهية) التي استقى فكرتها من كتب العرب، وأخص منها (رسالة المعراج) وكذا(رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، فالغرب تناولوا التراث العربي وصاغوه في قوالبهم الحديثة، وكل هؤلاء لم يكونوا مثل الببغاوات، وأما المثقف العربي فليس له إلا أن يستورد الفكر الغربي بمضمراته المبهمة، وما علينا إلا أن نستهلك ما يُصدر لنا، وننبهر بما يراد لنا، ولله درُّ الدكتور محمد عابد الجابري حيثُ قال : (( عندما نأخذ فكر ديكارت وانتقاله إلى العالم العربي سوف نجد أنه لم ينتقل كتيار، وإذا تساءلنا عن أصدائه فسنجد شيئاً منها عند طه حسين في نقد الشعر الجاهلي بشكل غامض، وشيئاً عند عثمان أمين الذي روَّج للديكارتية كي يربط بين ديكارت والغزالي وبرغسون! فالحضور الغربي في فكرنا العربي المعاصر لا زال خافتاً جداً كإنتاج أو كتطبيق … إننا عندم نستورد بضاعة مادية فنحن نستوردها بطابعها المصنعي الأوروبي (ألمانية أو فرنسية) وكذلك عندما نأخذ الأفكار الغربية أو نقتبسها أو ندرسها ندرسها في بيئتها، لا يمكن أن نفصل في الفكر ما بين الفكر كفكر مجرَّد، وبين أرضيته المادية، الاجتماعية الاقتصادية الايديولوجية، فصلاً مطلقاً، لذلك عندما نستورد ونحن نستعمل هنا كلمة استيراد لأننا فعلاً نستورد الفكر بكل مضمراته الايديولوجية وبكل أسسه المادية، وحتى مع بعض تطلعاته لماذا؟ لقد كان من الممكن أن يمر هذا الاستيراد بإعادة تحويل داخل بلدنا لو أننا ننتج العلم لو أننا ننتج الفلسفة، لو أننا ننتج الفكر، إلا أن المشكل هو أننا نستهلك فقط ))(8) وهذه هي الحقيقة الناصعة أننا باختصار ندَّعي الحداثة، أو بمعنى أصح التجديد، ولكن الأمر غير ذلك فنحن للأسف مازلنا نستهلك ما يُراد لا ما نُريد، لأننا في الوقت الراهن لا نملكُ أدوات لتصدير الأبستمولوجيا، بل نهتبل ما يأتي من الغرب ونشرب ذلك الفكر كما هو مضمر مبهم لا نعي أبعاده، كل ذلك كي يُقال عنا متقدمون مواكبون للحداثة، ونحن غير كذلك جملةً وتفصيلاً، والحقيقة المرَّة أننا مثل الاسفنجة نمتص كل سائل كان مفيداً أو ساماً، ومع ذلك لا بد من التجديد والغوص في الفكر الغربي حتى نستطيع مواكبته، وهناك العديد من الدراسات الأكاديمية، التي على المثقف العربي أن ينهل منها، حتى يستطيع أن يكوِّن رؤية أبستمولوجية، من تلك الدراسات المتاحة.
المراجع:
1 – (مقالات رجاء النقاش)، كتاب دبي الثقافية 16، الطبعة الأولى، ص 341.
2 – (آباطيل وأسمار) لمحمود شاكر
3 – (التراث والحداثة) الطبعة الثانية1999م، ص261.
4 – نفس المرجع
5 – (المدخل إلى دراسة الأدب والتاريخ العربيين)ص208
6 – (نفس المرجع)ص209
7 – نقلاً عن( في أصول الأدب) ص95 – 96, تأليف الأستاذ أحمد حسن الزيات.
8 – نفس المرجع.
9 – في أصول الأدب ص1
10 – الجابري ( التراث والحداثة) ص251