إعداد/ فيصل صالح علي السعيدي
أهمية الماء
نشأت الحياة على الأرض منذ بدء الخليقة ,وستبقى إلى أن يأتي أمر الله مرتبطة بالماء، فالماء هو عصب الحياة ,وأهم مكوِّن من مكوناتها ,وهو النعمة المهداة من الخالق عز وجل إلى مخلوقاته كي تستمر في العيش إلى ما شاء الله لها – وصدق الحق عز وجل حين يقول في محكم كتابه : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ } الأنبياء30، وقد لوحظ منذ أقدم العصور أن الماء هو العنصر الأساسي لاستقرار الإنسان وازدهار حضارته. وأينما وجد الماء وجدت مظاهر الحياة . ولا عجب إن ارتبطت الحضارات القديمة ارتباطاً وثيقاً بموارد المياه العذبة وليس بالغريب أن يجتمع البدو في الواحات حول عيون الماء ، فالماء لا يمكن الاستغناء عنه لاستحالة استمرار الحياة من دونه , ولارتباط الأنشطة البشرية المختلفة به .
وقد أثبت علم الخلية أن الماء هو المكون الهام في تركيب مادة الخلية حيث يدخل في تكوين جميع خلايا الكائنات الحية بمختلف صورها وأشكالها وأحجامها وأنواعها وهو يكون نحو 90% من أجسام الأحياء في الدنيا ونحو 60-70% من أجسام الاحياء الراقية بما في ذلك الإنسان ، ومن دون الماء لا يمكن لخلايا الجسم الحي أن تحصل على الغذاء فالماء مكون رئيسي لأجهزة نقل الغذاء في الكائنات الحية والفضلات السامة التي تنتج من العمليات الحيوية كالبول والعرق تطرح خارج الجسم الحي ذائبة في الماء ، ومما يجدر بنا ذكره أن الماء -كما خلقه الله تعالى -يحمل من الصفات ما يمكنه من إعالة الحياة على سطح الأرض ، بغض النظر عن كونه عذباً فراتاً أم ملحاً اجاجاً، فالماء العذب والماء المالح هما بيئة كثير من المخلوقات والكائنات الحية يقول الحق عز وجل : {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً}النحل14، أي جعل مياهه صالحة لحياة الأحياء التي تعيش فيه والتي يعتمد عليها الإنسان في غذائه ، فماء المطر ضروري لنمو النباتات التي تتغذى عليها الحيوانات ويتغذى عليها الإنسان ومن دون هذا الماء تكون الأرض مواتا، ولولا الماء لما امكن للنباتات الخضراء والأحياء الأخرى المحتوية على صبغة اليخضور (الكلوروفيل) أن تقوم بصنع الغذاء في عملية البناء الضوئي photosynthesis.. إن الماء بإيجاز – هو وحدة البناء في كل حي نباتاً كان أو حيوان ونظراً لأهمية الماء جعله الله حقاً شائعاً بين البشر جميعاً، فحق الانتفاع به مكفول للجميع بلا احتكار ولا إفساد ولا تعطيل، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم:(الناس شركاء في ثلاث الماء – والكلأ – النار) وهذا يعني أن مصادر الماء لا يجوز لأحد أن يحتكرها أو يمنعها عن الآخرين ولو أدرك الناس أهمية هذا الحديث لانتهت الصراعات التي تدور بسبب موارد الماء .
تلوث الماء
يتلوث الماء بكل ما يفسد خصائصه أو يغير طبيعته .. وتلوث الماء من أوائل الموضوعات التي أهتم بها العلماء والمتخصصون في مجال حماية البيئة وليس من الغريب اذن أن يكون حجم الدراسات التي تناولت هذا الموضوع أكبر من حجم الدراسات الأخرى التي تناولت باقي فروع التلوث .. ويعرف تلوث الماء بأنه إحداث تلف أو إفساد لنوعية المياه مما يؤدي إلى حدوث خلل في نظامها الإيكولوجي بصورة أو بأخرى بما يقلل من قدرتها على أداء دورها الطبيعي بل تصبح ضارة ومؤذية عند استعمالها أو تفقد الكثير من قيمتها الاقتصادية وبصفة خاصة مواردها من الأحياء المائية .
وهناك عدة صور لتلوث الماء منها:
1. استنزاف كميات كبيرة من الأكسجين الذائب في مياه المحيطات والأنهار مما يؤدي إلى تناقص أعداد الأحياء المائية .
2. زيادة نسبة المواد الكيميائية في المياه مما يجعلها سامة للأحياء .
3. ازدهار ونمو البكتيريا والطفيليات والأحياء الدقيقة في المياه مما يقلل من قيمتها كمصدر للشرب أو ري المحاصيل الزراعية (( إذا كانت عذبة )) أو السباحة والترفيه .
4. قلة الضوء الذي يعد ضرورياً لنمو الأحياء النباتية.
ويتلوث الماء عن طريق المخلفات الإنسانية أو النباتية أو الحيوانية أو المعدنية أو الكيميائية التي تلقى أو تصب في المسطحات المائية .. كما تتلوث المياه الجوفية نتيجة لتسرب مياه المجاري ومياه التصريف اليها بما فيها من بكتيريا ومركبات كيميائية .
ويمكن تقسيم تلوث الماء إلى ثلاثة أنواع رئيسية :
أولاً : التلوث الطبيعي:
المقصود به التلوث الذي يغير خصائص الماء الطبيعية فيجعله غير مستساغ للاستعمال الآدمي مثل اكتسابه الرائحة الكريهة أو اللون أو المذاق .
ثانياً : التلوث الكيميائي:
وهو يعني أن يصبح للماء تأثير سام نتيجة وجود مواد كيميائية خطرة مثل مركبات الرصاص أو الزئبق أو المبيدات الحشرية .. ويعد التلوث الكيميائي واحداً من أهم وأخطر المشاكل التي تواجه الإنسان المعاصر ومنها جائحة كورونا التي أصبحت تهدد اليوم كل دول العالم ومنها اليمن .. فمن المسلّم أن للتلوث الكيميائي للمسطحات المائية آثاراً ضارة على مختلف الأحياء ، ومنها إمكانية الإصابة بفيروس كورونا المستجد ومما يزيد من صعوبة الأمر أن عدد الملوثات الكيميائية التي أفرزتها الحضارة الحديثة يقدر بالآلاف وتزداد اعداد المنتجات الكيميائية الجديدة بمعدل يفوق عدد الدراسات التي تبحث في مخاطر هذه المنتجات وسمِّيَّتها .. ومما يعقٍّد هذه القضية أن صعوبات كثيرة تكتنف عملية الحصول على معلومات وافية تتعلق بالفضلات الصناعية بسبب براءات الاختراع والأسرار الصناعية أو المخاوف من ملاحقة السلطات والجهات المسؤولة عن حماية البيئة وتكون نتيجة ذلك اكتشاف الآثار الضارة للمنتجات الكيميائية أو في البيئات المائية قبل أن يتم اكتشافها في المعامل الكيميائية والبيولوجية .. ومن المعروف أن المواد الكيمائية يمكن تقسيمها من حيث قابليتها للذوبان في الماء إلى نوعين رئيسيين : نوع قابل للانحلال ونوع قابل للتراكم والتجمع في الكائنات الحية التي تعيش في الماء والنوع الثاني أشد خطراَ وتنتمي إليها المعادن الثقيلة كالرصاص والزئبق والمبيدات الحشرية والمنتجات النفطية والمواد العضوية المركبة كاللدائن (( البلاستيك )) .
ثالثاً : التلوث البيولوجي :
وهو يعني وجود ميكروبات مسببة للأمراض بالمياه أو طفيليات كالبلهارسيا وفيروس كورونا وديدان الاسكارس والأنكلوستوما وغيرها أو وجود أحياء مائية كالطحالب أو نباتات أخرى بكميات كبيرة تتسبب في تغير طبيعة المياه ونوعيتها وتؤثر في سلامة استخدامها .
أهم ملوثات الماء:
1. المخلفات الصناعية :
تشمل المخلفات الصناعية كافة المواد المتخلفة عن الصناعات الكيميائية والتعدينية والتحويلية والزراعية والغذائية التي يتم تصريفها إلى المسطحات المائية والتي تؤدي إلى تلوث الماء بالأحماض والقلويات والأصباغ والمركبات الهيدروكربونية والأملاح السامة والدهون والدم والبكتيريا وغير ذلك.
2. مياه المجاري:
ثمة دول كثيرة تقوم بتصريف مياه المجاري إلى المسطحات المائية على الرغم مما في ذلك من أخطار حيث تكون هذه المياه ملوثة بالمواد العضوية والمواد الكيميائية (( كالصابون والمنظفات الصناعية )) وبعض أنواع البكتيريا والميكروبات الضارة إضافة إلى المعادن الثقيلة السامة والمركبات الهيدروكربونية وتتسبب المواد العضوية الموجودة في مياه المجاري في حدوث ظاهرة تعرف باسم (( الإثراء الغذائي Entrophication )) والتي تعد من أهم الظواهر الطبيعية المحدثة للتلوث في المسطحات المائية إذ يؤدي ارتفاع نسبة المواد العضوية في الماء إلى زيادة في عملية الأيض Metabolism التي تقوم بها الطحالب والتي تؤدي إلى تكاثرها بشكل ملحوظ ..وتبعهاً لذلك تنشط البكتيريا وتزيد من عملية التحلل البيولوجي للطحالب مما تؤدي إلى تقليل نسبة الأكسجين المذاب في الماء وتترتب على ذلك أضرار جسيمة مثل قتل الأحياء المائية وتعفن المياه وعدم صلاحيتها وصدور مواد وروائح كريهة منها .. كذلك يتم انتقال الكثير من الأمراض الخطرة بواسطة مياه المجاري التي يتم تسريبها إلى المسطحات المائية دون معالجة حيث تحتوي هذه المياه على كل مسببات نقل الأمراض إلى الإنسان مثل البكتيريا والفيروسات ومنها فيروس كورونا والتي تتمثل أعرضه بالتالي : حمى شديدة – سعال وصعوبة في التنفس – التهاب الحلق والرئتين – صداع حاد – ألم في العضلات والمفاصل، اما الطفيليات القولونية والبروتوزوا فتنتقل هذه الأحياء الدقيقة المسببة للأمراض إلى الإنسان عن طريق الجلد والجروح والفم عند الاستحمام أو السباحة في المياه الملوثة .. وثمة أمراض كثيرة يمكن أن تصيب الإنسان من جراء تلوث المسطحات المائية بمياه المجاري فعلى سبيل المثال تسبب بكتيريا (( السالمونيلا )) Salmonella في أمرض حمى التيفوئيد والنزلات المعوية كما تسبب بكتيريا ((الشيجلا )) Shigella في أمراض الإسهال ويؤدي وجود بكتيريا (( الاسشريشيا كولاى )) Escherichia coli إلى أمراض الجفاف Dehydration والإسهال والقيء عند الأطفال بصفة خاصة، أما بكتيريا (( اللبتوسبيرا )) Leptospira فينجم عنها حدوث التهابات الكلى والكبد والجهاز العصبي المركزي وتسبب بكتيريا ((الفيبريو )) Vibrio مرض الكوليرا .
3. المبيدات الحشرية:
تنساب المبيدات الحشرية التي ترش على المحاصيل الزراعية مع مياه الصرف إلى المصارف كما تتلوث مياه المستنقعات والقنوات التي تغسل فيها معدات الرش وآلاته بهذه المبيدات ويؤدي ذلك إلى قتل الأسماك والأحياء المائية وأيضاً نفوق المواشي والأنعام التي تشرب من المياه الملوثة بهذه المبيدات .
4. الزئبق:
الزئبق في الحالة العنصرية غير قابل للذوبان في الماء ولكنه في حالته المتأينة يمكن أن يدخل في تركيب المركبات السائلة التي تصرف ضمن مياه الصرف الناتجة عن المعامل الصناعية الكيميائية إلى البيئة ..
ومن اهم المصادر الملوثة للمياه بعنصر الزئبق ما يلي:
أ. المخلفات الكيميائية
ب. محطات تقطير المياه
ج. المخلفات والنفايات
د. مياه الصرف الصحي
هـ . مياه الصرف الزراعية
و. مخلفات مياه المجاري
والمعروف أن الزئبق يهاجم خلايا المخ والجسم ويقتلها ولا يوجد علاج حقيقي لحالات التسمم الناتجة عن الزئبق .
تلوث مياه الأمطار
تتلوث مياه الأمطار وبخاصة في المناطق الصناعية لأنها تجمع في أثناء سقوطها من السماء كل الملوثات الموجودة في الهواء مثل أكاسيد النيتروجين وأكاسيد الكبريت وذرات التراب .. ومن المعروف أن ماء المطر يكون نقياً عند بدء تكوينه، قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}الفرقان48 .
وتذوب الملوثات الغازية التي تنفثها المعامل الصناعية الحديثة في مياه الأمطار أثناء سقوطها مما يؤدي إلى تلوث المسطحات المائية والتربة التي تتساقط عليها هذه المياه .
تلوث المياه الجوفية
تتلوث المياه الجوفية بكافة المواد الكيميائية التي تتسرب إلى أماكن وجود مكامن هذه المياه كما تتلوث أيضاً بفعل تسرب مياه المجاري أو تسلل مياه الأمطار الحمضية إلى الطبقات الجيولوجية التحت سطحية للقشرة الأرضية .. ويمكن أن تتلوث المياه الجوفية ببعض المعادن والاملاح التي تكون في صخور الطبقات الحاملة لهذه المياه.
حماية الماء من التلوث
هناك عدة وسائل واساليب يمكن استعمالها في مكافحة تلوث المياه مثل :
1. معالجة مياه المجاري قبل تصريفها إلى المسطحات المائية .
2. استعمال الوسائل الميكانيكية لتجميع النفط الطافي فوق المسطحات المائية.
3. تطهير مياه الشرب باستعمال الأوزون أو الكلور أو الأشعة فوق البنفسجية.
4. التخلص من الطحالب والنباتات المائية الملوثة بمياه تجمع مصبات المياه بالوسائل الحديثة .
5. معالجة مخلفات المعامل والمصانع قبل تسريبها إلى المسطحات المائية .
غير أن الوسيلة المثلى لحماية الماء من التلوث هي تجنب إلقاء الملوثات فيه ولا شك أن المحافظة على الماء هي أساس المحافظة على الحياة بأشكالها المختلفة لأن الماء -كما سبق ذكره- أصل الحياة وتحفل الشريعة الإسلامية بكثير من النصوص التي تحث على حماية الماء من التلوث قال تعالى : { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} البقرة60، فالإنسان وفقاً لما تقرره هذه الآية الكريمة مطالب بعدم الفساد في الأرض لأن ذلك يؤثر في رزقه وصحته من المأكل والمشرب، ويقول جابر بن عبدالله إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (( غطوا الاناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء )) ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم أوكوا السقاء أي اربطوا فوهات السقاء ما يشرب منه وذلك لحماية الماء من الملوثات التي تنتقل اليه من الهواء أو من الحشرات الناقلة للجراثيم والطفيليات والفئران والنمل والبعوض المسببة لكثير من الأمراض القاتلة مثل فيروس كورونا .
وفي الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه )) ولا يغيب عن ذهن القارئ أن هناك أمراضاً كثيرة تنتج عن الاستحمام في الماء الراكد الذي سبق التبول فيه مثل الكوليرا والبلهارسيا وفيروس كورونا، كما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((أن يبال في الماء الجاري)) وذلك النهي هدفه المحافظة على نظافة الماء من الطفيليات التي تتكون مع البول والتي تتسبب في تلوث الماء .. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : (( اتقوا الملاعن الثلاث : البراز في الماء وفي الظل وفي طريق الناس )) وما يهمنا في هذا المقام هو النهي عن التبرز في الماء الذي جعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أحد الملاعن التي يجب علينا اتقاؤها والمعروف أن تصريف مياه المجاري الصحية في المياه لا يؤدي إلى تلوث المياه بالطفيليات والروائح الكريهة فحسب بل يتسبب في استهلاك الأكسجين الذائب في المياه مما يؤثر في حياة الكائنات التي تعيش فيه كما أن المواد العضوية الموجودة في مياه المجاري تؤدي إلى تكاثر أنواع عديدة من البكتيريا والطفيليات والكائنات الأولية (( البروتوزوا )) التي تسبب تلوث الماء الأمر الذي يتسبب في حالات كثيرة من إزهاق الأرواح ومن قتل الأحياء مثلما هو حاصل الآن مع كورونا الذي تسبب حتى الآن في إصابة مئات الآلاف حول العالم، لذلك فإن درء هذا التلوث واجب وفقاً واستناداً إلى القاعدة الفقهية التي تقول : (( ما أدى إلى الحرام فهو حرام ))، كما أن منع الضرر قبل حدوثه أولى من معالجته بعد حدوثه وتقول القاعدة الفقهية : (( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح )).
* نائب مدير عام المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي بمحافظة إب