انتهج سياسة تجزئة المجتمع وشراء الولاءات.. وانتهى تاريخه بالسجن بتهمة الاختلاس
الكابتن هينس.. جرائمه تؤكد لنا : الشعب هو البطل
يصف المتابعون والموثقون لمراحل من تاريخ اليمن الكابتن هينس بالبلطجي، جاء التوصيف كتلخيص طبيعي لما كان عليه السلوك غير الأخلاقي الذي اتبعه هينس في سبيل تحقيق مآربه، ومثلت تحركاته للسيطرة على عدن شواهد حية وصارخة على هذه البلطجة.
وقد جرى توثيق الكثير من أنشطة الرجل في المنطقة، ليس ابتداء من احتلاله ومن معه لجزيرة سقطرى عام 1835م وليس انتهاء باحتلال عدن عام 1839 لصالح بريطانيا.الثورة/وديع العبسي
– استافورد بيتزورث هينس من مواليد عام 1802م، ويعرف بالكابتن هينس، هو أول من قام قبل الاحتلال البريطاني لعدن عام 1835م بعملية مسح للساحل الجنوبي للجزيرة العربية وقياس أعماق البحر ورسم الخرائط تمهيداً لاحتلال عدن، ويعد هينس أول مبعوث بريطاني لعدن خلال عامي ( 1837م و 1838م)، كان أول من تبنى سياسة فرق تسد بين القبائل اليمنية فإذا ثارت إحدى القبائل على الإنجليز كان يثير قبيلة أخرى عليها فلا تحتاج إلى قوات بريطانية، عمل على تشييد التحصينات اللازمة حول عدن لمقاومة أي هجوم مفاجئ حتى يحقق أهدافه الرئيسية إلى تشييد الأعمال الإنشائية، كما عمد إلى استغلال الأقليات السكانية المقيمة في عدن فاستعان باليهود خاصة – حتى يكونوا عيوناً على السكان – إلى درجة أنه وظفهم رسمياً للعمل في خدمة الحكومة البريطانية، كما عمل على استقطاب القبائل الثائرة وكسب ودهم للعمل معه مقابل المال والجاه.
في اتجاه الاحتلال
ظلت عدن ولا زالت محط أنظار كثير من الدول الطامعة في إرساء قواعد لها على البحر الأحمر والخليج العربي ومن ثَمَّ السيطرة على المحيط الهندي، والحصول على السيطرة الاقتصادية والسياسية في تلك المنطقة، فتوالت على عدن الكثير من القوات والدول المستعمرة.. في 26 فبراير 1548م استولى العثمانيون على عدن بقيادة سليمان القانوني، بغية توفير العثمانيين قاعدة لشن غارات ضد الممتلكات البرتغالية على الساحل الغربي في الهند، وفشل العثمانيون ضد البرتغاليين في حصار ديو في سبتمبر 1538م، ولكن بعد ذلك عادوا إلى عدن حيث أن المدينة محصنة بمئة قطعة من المدفعية. ومن هذه القاعدة، تمكن سليمان باشا من السيطرة على اليمن كاملة، مع صنعاء، وكانت من أهم تلك الدول (بريطانيا)..
بعد عملية المسح التي قام بها هينس تنامى الشعور بأهمية التحرك السريع في اتجاه احتلال خصوصاً مع تنامي الخشية من تحرك محمد علي باشا صوب اليمن في سياق حربه مع الوهابية، ومد نفوذه إلى سواحل البحر الأحمر، وكذا خطاب حاكم بومباي الذي وجهه إلى مجلس شركة الهند الشرقية، والمؤرخ بـ27 فبراير 1838م، ووضح فيه أهمية أن تكون عدن تحت السيطرة البريطانية، فجاء في خطابه: “إن عدن بالنسبة لنا لا تقدر بثمن، فهي تصلح كمخزن للفحم طيلة فصول السنة، ويمكن أن تكون ملتقى عاماً للسفن المستخدِمة طريق البحر الأحمر، وقاعدة عسكرية قوية بواسطتها يمكننا أن نحمي ونستفيد من تجارة الخليج العربي والبحر الأحمر والساحل المصري المحاذي الغني بمنتجاته.. وعدن كجبل طارق، متى أصبحت تحت سيطرتنا فأيدينا ستكون صعبة المنال من البر والبحر، إنني أنظر إلى الموضوع بشمول وعمق أكثر. فهناك أمتان كبريان تتآمران علينا وتودان القضاء على نفوذنا في الشرق: الأولى روسيا القيصرية وتتجه نحونا من خلال إيران، والثانية فرنسا وهي آتية من خلال مصر، وحتى نتصدى لهذه التهديدات يتحتم على بريطانيا أن تعد لنفسها مراكز دفاعية خارج الحدود”.
وهنا تلقي الملكة البريطانية بالمهمة على عاتق أحد جنرالاتها المشهورين للتصرف بالأمر على وجه السرعة، وكان ذلك الرجل هو “ستا فورد بتسورث هينس” الذي أرسلته إلى منطقة خليج عدن في عام 1835م لجمع المعلومات حول مدى صلاحية المنطقة لتكون قاعدة بحرية ومستودعاً للسفن البريطانية وقد أشار هينس في تقريره إلى ضرورة احتلال عدن لأهميتها الاستراتيجية، كانت عدن حينها تحت سيطرة سلطنة لحج السلطان” فضل العبّدلي”، ولذلك بدأ هنيز مفاوضات مع السلطان بقصد إقناعه بعقد معاهدة مع السلطان لأجل شراء عدن والأرض المحيطة بها، إلاَّ أنه لم ينل ما أراد ما جعله يستخدم أسلوبه في المكر والخداع وادعاء موافقة السلطان على العرض البريطاني، وهو ما نفاه سلطان لحج.
كذبة هينس
يذكر مؤرخون أن هينس في محادثاته مع السلطان استعمل طرقاً شتى للمراوغة والخداع والترهيب بقوة بريطانيا العظمى.. وتفنيداً لأكاذيب هينس كتب سلطان لحج رسالة من وفي نوفمبر 1838م جاء فيها:
“أحس في قرارة نفسي أن الكابتن هينس الذي أرسل سكن محياه تصميماً على قتالنا، أنا لم أعده بشيء، وما قال غير ذلك لحكومته كذب.. كل ما يقول سيئ فلا تستمعوا إليه.
أنا عرف انه لن يتركني حتى يقاتلني، أرى ذلك في وجهه، وبعد أن تحدثنا تأكدت لي نيته تلك فحاولت الهروب منه لمدة شهرين”.
وأضاف: “هو يقول: إن لديه وثيقة وصكاً مني وبختمي. ولكني أقول انه كاذب في ذلك. أنا لم أرسل له ذلك أو أتحدث معه حولها.
هذا كله كذب وشيء مخز إن كان لديه هذا الصك دعه يظهره، وإن كان فيه ختمي فسيكون ذلك شهادة ضدي. إذا كان لديه هذا الصك سأذعن لما فيه إذا أراني أنه مختوم بختمي”.
“هذا الكابتن ادّعى ذلك علي. تلك هي أفعاله، ولن نستمع له، لدينا معاهدة مع حكومتكم أود أن أقابلكم وستحكمون بعدها على صحة كلامي، ذلك الرجل يخطط لحكم عدن، ولن يتمكن من ذلك حتى توضع السيوف على رقابنا”.
محاولة أخيرة
لم يهدأ لهينس بال فقد جعل احتلال عدن هدفاً يتقرب به إلى التاج البريطاني، حتى كانت حادثة غرق السفينة الهندية، فعلى إثر ذلك طالب البريطانيون سلطان الحج حيث كانت عدن تابعه وقتئذ لسلطان لحج/ محسن بن فضل العبدلي” (السلطنة العبّدلية) بدفع غرامة وتعويض؛ وذلك مقابل البضائع التي زعمت أن أهالي إحدى المناطق قاموا بنُهبها، ورغم موافقة سلطان لحج على دفع التّعويض للبريطانيين، إلا أن البريطانيين بعد موافقتهم تراجعوا عن رأيهم، وقدموا مُقترحاً آخرَ –غير التعويض– وهو تنازل سلطان لحج عن مدينة عدن للبريطانيين، ويُعتبر تعويضًا لهم عمّا حدث لسفينتهم، ولبضائعهم.. وهو ما لم يلق قبول سلطان لحج لينتهز هينس الفرصة ويقوم بقصف عدن، الأمر الذي تمكن من خلاله البريطانيون من دخول المدينة والسيطرة عليها قبل أن يتوسعوا باستعمارهم كامل المحافظات الجنوبية.
وفي حكمه القمعي لمدينة عدن تبنى هينس سياسة “فرِّق تسد” بين القبائل اليمنية، كما عمل على استقطاب بعضها وكسب ود أبنائها للعمل معه مقابل المال والجاه، فاجتهد في سياسة تمزيق النسيج الاجتماعي لقناعته بأن قوة وجود الاحتلال واستمراره تتوقف على تجزئة المجتمع اليمني وإغراقه في الخلافات والصراعات البينية.
الجزاء المستحق
رغم ما حققه هينس للتاج البريطاني بالسيطرة على مدينة عدن التي سال لها لعاب المحتلين، لتجري محاكمته والحكم بحبسه 6 سنوات لاختلاسه مبلغ 28 ألف روبية من الميزانية الحكومية التي قيل إنه استخدمها لعمل إصلاحات في البنية التحتية لعدن، فيما المبلغ كان من دخل الميناء والضرائب، فتم عزله على إثر ذلك من منصبه وتقديمه للمحاكمة.
على أن المثير هو تبين أن الحكم بالحبس لم يكن على الاختلاس بشكل مباشر، إذ أنه وأثناء المحاكمة برأته لجنتان من المحلفين من تهمة الاختلاس، وإنما -كما تشير المصادر- لأنه خالف القانون وقام باستخدام المال العام للإصلاحات في عدن، وهو ما اعتبرته حكومته خطأ ومخالفة صريحة للقوانين وصدر الحكم ضده بالسجن.