إصلاح القضاء.. بوابة مكافحة الإفساد الممنهج!

عبدالعزيز البغدادي
الفساد مفردة مصاحبة للحياة وفي الحوار القرآني بين الله والملائكة إشارة واضحة إلى هذه الحقيقة ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) إلى آخر الحوار في الآية الكريمة (30) وما بعدها من سورة البقرة ، ولا ينبغي أن يفهم في هذا السياق أن الفساد قضاء وقدر يجب التسليم به، فالسياق عن حياة الإنسان وكل الكائنات وصراع الخير والشر ورسالته وسعيه للانتصار للخير في علاقته مع نفسه ومع الغير وهذا معنى الابتلاء (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).
من هنا كان على الإنسان تنظيم علاقته بغيره وبقية الكائنات لإثبات حرصه على اجتياز الامتحان بنجاح والذي يبدأ من سن التمييز وينتهي بزوال العقل لأي سبب ، ولهذا اهتدى إلى الاحتكام لرئيس العائلة فرئيس القبيلة ثم الملك أو رئيس الدولة وانتقل في مفهوم الولاية من أسلوب الخضوع للأقوى إلى أسلوب الاختيار للأعقل والأرشد إلى أن وصل إلى هذه الهيكلية الواسعة لتعدد السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وربط السلطة بالمسؤولية والانتقال من السلطة المطلقة إلى السلطة المقيدة ، ووجود نظام للفصل بين السلطات فصلاً تكاملياً في الغالب أو ما يعرف بـ(التعددية في إطار الوحدة).
وفي ممارسة السلطات لواجباتها ظهرت الكثير من المشكلات أبرزها فساد هذه السلطات التي يفترض أن وجودها يهدف للقضاء على الجريمة ومنع اعتداء الإنسان على دم أخيه وماله وعرضه لتتحول من حام إلى معتد على حقوق الإنسان بكل تفرعاتها ، ولأن السلطة القضائية هي الحاكم لإيقاع العلاقة بين الفرد والمجتمع وكافة السلطات، فقد حرصت قوانين العالم على إعطائها الاستقلالية عن بقية السلطات حفاظا على مبدأ التوازن الذي يجب أن يسود بين كل الحقوق وكل الواجبات مع تقيدها بمبدأ سيادة القانون إلا أن هذه السلطة مع الأسف تبدو الآن أكثر فساداً من بقية السلطات.
ولذلك فإن من يطالبون باستقلال القضاء ويرفضون القضاء على أسباب فساده بل ولا يعترفون بوجودها إنما يريدون المحافظة على هذه الأسباب.
وقد اتحدت مصالح القضاة المفسدين مع مصالح غيرهم في بنية سلطات الدولة وكل عناصر الإفساد في المجتمع في ظل كل هذا الهيجان للمصالح المتوحشة المتضافرة والمتحالفة والتي تحرص دائماً على الإمساك بالسلطة وهي مصدر الإفساد أو ( الإصلاح ) الفعل وليس الحزب طبعاً، أو على الأقل تبقى مرتبطة بعناصر نافذة ولأن سلطة القضاء الشريف النزيه وليس الأداة والمليء بالانتهازيين الذين يركبون كل موجة ويخوضون غمار كل بحر ، ليجتازوا المراحل ويحركوا الملفات حسب التوجيه وبلا أدنى إحساس بالمسؤولية ويحكموا بلا ضمير ولا خوف من الله أو من الناس.
ليس من مصلحة الفاسدين في كافة سلطات الدولة تحقيق أي نصر في معركة إصلاح جاد في السلطة القضائية المؤجلة، لأن إصلاحها هو البداية الجادة لإصلاح بقية السلطات، ويترتب عليه قيام القضاء بدوره المحوري المفترض في مكافحة الفساد الذي تضعف معه قدرة المسؤولين تدريجياً في قول شيء وفعل ما يخالفه.
إن من ينكر وجود فساد صارخ في مؤسسة القضاء وارتفاع نسبة القضاة الفاسدين في جسم القضاء إما أعمى أو متعام، ومن يتهاون في التعامل مع التجاوزات الصارخة التي تتضمنها بعض الأحكام المنتهكة لأبسط شروط العدالة مستهتر بكل القيم الدينية والقانونية والأخلاقية ، ومن يجعل من نادي القضاة منظمة لحماية حقوقهم ولا يعير قيامهم بواجباتهم أدنى اهتمام إنما يعمل ضد القضاء وضد القضاة الشرفاء، لأن النادي بهذا الحال يتحول إلى أشبه بمنتدى لعصابة، مما يزيد الهوة بين قضايا المجتمع وهموم القضاة، فواجب القضاء كحارس لمبدأ سيادة القانون إعادة التوازن بين حقوق المنتمين للأندية والاتحادات نحو المنتمين إليها وواجباتهم إزاء المجتمع وهذا جوهر عملها المفترض.
حجم التذمر المجتمعي من أوضاع القضاء وفساده يستوجب اليوم على كل قاضٍ شريف المطالبة بمكاشفة علنية لما يطرح حول القضاء والقضاة ليتبين ما هو الحقيقي مما يطرح وما هو إشاعة وكذب، فالإساءة العشوائية للقضاء جريمة بحق العدالة والمجتمع.
وحاجة القضاة الشرفاء لتنقية القضاء من الفاسدين قد تفوق حاجة المجتمع كما أن مجلس القضاء ونادي القضاة لا بد أن يحرصا على المواءمة بين حقوق القاضي وواجباته بما يؤدي إلى التكامل وتقويم الاعوجاج وتنظيف بيئة القضاة ممن يسيئون لهذه الفئة التي يرتكز عملها على الدين والعلم والقانون وينبغي ألا تتحول هذه البيئة إلى أداة للعدوان على المجتمع، وهذه المعادلة لا يدركها ويؤمن بها ويعمل من أجل تحقيقها مع الأسف إلا أقل القليل.
واستقلال القضاء وحريته وفق هذه المفاهيم مرهونان بمستوى التزامه بالقيم العليا وبالقوانين.
هناك قضايا وأحكام وممارسات لبعض القضاة يندى لها الجبين وهي ما تفقدهم المكانة والهيبة ، ومع ذلك غالباً ما يتم نقلهم من موقع الى آخر لأن هناك من يحميهم في أعلى السلم القضائي أو في النادي بل وبعضهم ضمن هيئته الإدارية وبعض تلك الممارسات تصل عقوبتها في القضاء الذي يحترم نفسه إلى العزل على أقل تقدير.
الجدية في مكافحة الإفساد والفساد عموماً تتجلى إذاً من خلال الجدية في إصلاح أوضاع السلطة القضائية كسلطة قضائية مستقلة خالية من الإفساد الممنهج أو على الأقل وجود أغلبية داخل هذه السلطة تتوفر فيهم معيار الكفاءة والنزاهة مع وجود رؤية واضحة لكيفية تحقيق ذلك لما له من أهمية في تصحيح أوضاع كل سلطات الدولة وتخليصها من الإفساد الممنهج.
“من دم الشهيد ترتوي شعلة الثورة
ينبض قلب العدالة”

قد يعجبك ايضا