عواصم/ وكالات
يأمل الليبيون أن تشكل المعارك التي دارت في مدينة ترهونة وبني الوليد نهاية للحرب الليبية ، وأن يسود منطق العقل بعد سنوات على الحرب وأن تحل الأزمة على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب»، وعلى الرغم من هذه الأمال المشروعة إلا أن الواقع يوحي بغير ذلك لا سيما مع اعلان طرفي الصراع عن إرسال مزيد من التعزيزات العسكرية إلى القرب من سرت والجفرة.
الواقع أن المشهد الليبي أصبح أكثر تعقيدا من ذي قبل، ولم يعد خافياً أن ساحة الصراع الليبية في العام 2020 صارت متداخلة ما بين صراع داخلي مرير قائم على عوامل كالجهوية والقبلية والسياسية، وأخر خارجي له علاقة بالصراعات الكبرى بين القوى الإقليمية والدولية حيث العالم يكاد أن يتواجد في الصراع الليبي بصورة مباشرة أو غير مباشرة للحفاظ على ما يعتقد بأنها مصالح استراتيجية في ليبيا، والملاحظ أنه ما أن تسود التهدئة في المواجهات العسكرية هنا أو هناك إلا ويعقبها حسابات الربح والخسارة، ويسعى من يعتقد أن مصالحه أصبحت مهددة إلى إشعال المعارك مجددا مستفيدا من حالة الانقسام الداخلي القائم في ليبيا، ومع مرور سنوات الحرب أصبح لدينا صراع داخلي بأجندات خارجية.
فيما يخص المواجهات العسكرية، كان من الواضح أن تسارع المعارك في ليبيا خلال الأشهر القليلة الماضية وانقلاب المعادلة بطريقة غير متوقعة ولتتحول معه القوات المدافعة على العاصمة طرابلس ومحيطها إلى الهجوم المعاكس، حيث لم يكن في حسابات أشد المتفائلين بقوات حكومة الوفاق ولا أشد المتشائمين بقوات اللواء خليفة حفتر أن تتبدل مواقع السيطرة، ويصبح كامل امتداد الغرب الليبي وصولاً إلى سرت والجفرة تحت سيطرة حكومة الوفاق بقيادة رئيس الوزراء فايز السراج.
ورغم كل تلك المتغيرات التي شهدها الليبيون والعالم، إلا أنه من الصعب القول أن الحرب قاربت على النهاية خاصة وأن حالة الكر والفر في ليبيا “هي السائدة بعد تسع سنوات من ثورة 17 فبراير 2011م التي أطاحت بنظام معمر القذافي” ليست مرتبطة بالجغرافيا الليبية فقط، ولكنها مرتبطة بصراعات ذات أطراف متعددة من بينها الصراع التركي الفرنسي.
المواجهة التركية الفرنسية
شهد التنافس التركي الفرنسي في ليبيا خلال المرحلة الماضية مزيداً من التوتر بعد أن تغيرت خارطة السيطرة العسكرية في الغرب الليبي، لا سيما بعد إعلان قوات الجيش التابع لحكومة الوفاق الليبية السيطرة على أخر معاقل اللواء خليفة حفتر في الغرب الليبي “قاعدة الوطية الجوية ومدينة ترهونة الاستراتيجية وبني الوليد”، وسبق ذلك، السيطرة على كافة مناطق غرب العاصمة طرابلس في الساحل الغربي” صبراته، زلطن، صرمان، العجيلات رقدالين، الجميل” حتى الحدود التونسية، ومثلت سيطرة الوفاق على تلك المدن مجتمعة ضربة قوية لحفتر وداعميه، خاصة وأن بعض تلك المناطق كانت تمثل عمقاً وخزاناً بشرياً لقوات حفتر وكانت بمثابة شوكة في خاصرة قوات الوفاق، وشكل الدعم التركي النوعي خلال تلك المعارك نقطة فارقة خاصة وأنه تطور وانتقل من الدعم اللوجستي بالعتاد والسلاح إلى الدعم العسكري المباشر، ولتبدأ المعادلة مع التدخل التركي في التغير على الأرض ومثل وصول قوات الوفاق إلى مشارف مدينة سرت “القريبة من الهلال النفطي” وقاعدة الجفرة الجوية ذروة ذلك التغير.
ينطلق التدخل الفرنسي في الشأن الليبي من رؤية استراتيجية تشمل المنطقة عموما مفادها أن هناك مصالح سياسية واقتصادية لا يمكن المساومة بشأنها، وانطلاقاً من هذه المصالح كان التدخل الفرنسي حاضرا ومنذ اللحظات الأولى لثورة فبراير 2011م، بعد أن تصدرت المشهد في عمليات التدخل من قبل حلف شمال الاطلسي “الناتو” لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي وللاستحواذ على ما أمكن من مكاسب استراتيجية مستقبلاً.
وللحيلولة دون تمدد بعض الفواعل الدوليين ولا سيما الصين وروسيا وتركيا، كان البحث الفرنسي في مختلف مراحل الصراع الليبي في بعده الداخلي، عن طرف ليبي يمكن الرهان عليه لتحقيق المصالح الاستراتيجية الفرنسية، وفي هذا السياق يرى العديد من المراقبين للشأن الليبي أن ظهور اللواء حفتر كطرف رئيسي في الأزمة الليبية، ما كان له أن يكون دون تبني لمشروعه والوقوف خلفه ودعمه من قبل تحالف إقليمي ودولي ممثلاً في الإمارات ومصر والسعودية وفرنسا وفي فترة لاحقة روسيا.
وبناء على ما سبق، ساهم ذلك الدعم ما بعد 2014م في تحقيق الانتصارات الكبيرة لقوات اللواء خليفة حفتر في كامل الشرق الليبي بما فيه المناطق النفطية، وتوسعت مناطق السيطرة على اغلب مناطق الجنوب وصولاً إلى تطويق العاصمة طرابلس مع نهاية العام 2019، وكان من الواضح أنه مع استمرار الانتصارات العسكرية على حساب مختلف الأطراف في ليبيا بما فيها حكومة الوفاق “المعترف بها دولياً” ضاعف الحلفاء وفي مقدمتهم فرنسا رهانهم ودعمهم للواء حفتر على اعتباره البيدق الرابح على ساحة الصراع الليبي.
ولكن ذلك الوضع لم يستمر طويلاً بعد انقلاب المعادلة وتغير قواعد الصراع مع دخول الأتراك كطرف إقليمي مساند وداعم لحكومة الوفاق مع نهاية 2019، ومما لا شك فيه أن التدخل التركي ساهم في تعزيز موقف فايز السراج وحكومته سياسياً وعسكرياً، بعد أن كان الخذلان هو العنوان الرئيسي من قبل المجتمع الدولي لشرعية حكومة الوفاق الليبية.
أحدث التدخل التركي أبعاداً جديدة في تفاصيل الصراع مع حلفاء حفتر ولا سيما فرنسا ولم يعد هناك ما يمكن إخفاؤه لا سيما مع تزايد المخاوف من خروج فرنسا خالية الوفاض من الملف الليبي، وصار من الواضح أن الصدام التركي الفرنسي في ليبيا لا مفر منه “وإن كان من خلال الأطراف الليبية”، ليتجدد بذلك مسار طويل من الصراع بين الدولتين (بدايته في منتصف القرن التاسع عشر) في العديد من الملفات الشائكة منها اعتراف فرنسا أن تركيا تقف وراء ما حدث من إبادة جماعية للأرمن في العام 1915، بالإضافة إلى الاعتراض الفرنسي الصريح على انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي بحجة أنها دولة غير أوروبية، وفيما يخص الملف السوري كان الرفض الفرنسي واضحاً للعمليات العسكرية التركية في الشمال السوري على اعتبارها تهديدا للقوات الكردية الموالية للتحالف الدولي في الحرب ضد الإرهاب.
ويكفي القول أن هذا المسار الطويل من الصراع سوف يتمدد في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط عموماً، لا سيما أن هناك مؤشرات قوية على مضي الولايات المتحدة الأمريكية في سياسة الانعزال خارجياً، وتقليص تدخلاتها المباشرة في أزمات المنطقة والعالم، وبالتالي لا مفر من المواجهة التركية الفرنسية في سبيل ملء الفراغ الذي سوف تتركه واشنطن في المنطقة ومنها ليبيا.
تصادم المصالح
سنوات طويلة وفرنسا تبحث عن تحقيق جملة من المصالح الاستراتيجية في القارة الافريقية وفي شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط، وكما ذكرنا سابقاً أن الحماس الفرنسي المنقطع النظير في دعم الثوار في ليبيا في العام 2011م لم يكن أن يتحقق دون وجود نوايا سابقة مرتكزة على رؤية استراتيجية، وفي هذا السياق تتمسك فرنسا بمصالحها في التواجد العسكري الدائم في ليبيا على اعتبارها إحدى البوابات الرئيسية إلى دول الساحل والصحراء ” تشاد والنيجر ومالي” التي ترتبط بعلاقات استراتيجية مع فرنسا بحكم الماضي الاستعماري، كما لا يخفى على أحد الرغبة الفرنسية في مزيد من الاستحواذ على نصيب أكبر(استثمار- صادرات) من النفط والغاز الليبي واحتياطاته الكبيرة على حساب المنافسين من كبريات الشركات الدولية ولا سيما الإيطالية، حيث يقدر حجم احتياطيات النفط الليبي بحوالي 50 مليار برميل وما يقارب تريليون ونص متر مكعب من احتياط الغاز الطبيعي، وما يعزز من هذه التوجهات هو الرغبة في إيجاد البدائل الامنة لمصادر النفط والغاز القادمة من منطقة الخليج العربي وروسيا، يضاف إلى ما سبق أن فرنسا لا يمكن تفويت فرصة أن ليبيا قادمة لا محالة على استقرار سياسي وأمني، سوف يعقبه وضع الخطط لإعادة الإعمار والتي تقدر بمئات المليارات من الدولارات وبالتالي لا بد أن يكون للشركات الفرنسية نصيب وافر من تلك المشاريع الكبرى.
وفيما يخص تركيا، تحدثنا سابقاً أن أبعاد ذلك التدخل في الأزمة الليبية يتعدى الجغرافيا الليبية، هذه الحقيقية لا يمكن أن تلغي أن لدى أنقره مصالح سياسية واقتصادية تسعى إلى تحقيقها بصورة مباشرة في ليبيا التي تطل على البحر الأبيض المتوسط بساحل طويل وتستحكم على ثروات هائلة من النفط والغاز، ولن يكون مستغرباً في هذا السياق أن تسعى تركيا إلى ضمان تحقيق مجموعة من المصالح والأهداف منها:
*
تثبيت الاتفاقية الموقعة في 27نوفمبر 2019م بأن المنطقة الممتدة من الساحل التركي وإلى الساحل الليبي مناطق لا يمكن أن يتم تجاوزها من قبل أي مشاريع مستقبلية لنقل النفط والغاز من جنوب وشرق البحر المتوسط باتجاه أوروبا، فضلاً أن الاتفاقية ثبتَّ الحق كما تعتقد أنقرة في التنقيب عن الثروات الطبيعية في المناطق الاقتصادية أمام سواحلها بعد أن كان الوضع “ما قبل الاتفاقية” لا يسمح لها بذلك وبالتالي فإن ضمان سريان الاتفاق البحري والأمني بحاجة إلى دعم حكومة الوفاق لضمان استمرار سريان الاتفاق البحري.
– تسعى تركيا إلى الحصول على جزء من عقود التنقيب عن النفط والغاز الليبي والذي يشكل حسب بعض التقديرات أكبر الاحتياطيات في القارة الأفريقية.
– التدخل التركي في الأزمة الليبية يأتي في إطار رؤية استراتيجية تسعى لتثبيت نفوذ تركيا كأحد أهم اللاعبين الاقليميين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
– الحصول على شراكة استراتيجية مع الدولة الليبية لتنفيذ عقود تطوير البنى التحتية وإعادة الإعمار.
* – يمثل السوق الليبي بوابة رئيسية لعبور تركيا إلى الأسواق في القارة الأفريقية.
وما يشد الانتباه، وحسب بعض المصادر التركية أن تسعى أنقرة إلى إرسال رسائل تطمينية إلى أهم الفواعل الإقليميين والدوليين، تريد من خلالها التأكيد أنه لا توجد نوايا تركية في الاستفراد بالحل في الملف الليبي، وأنه لا مطامع في الاستحواذ على المصالح الأوروبية في ليبيا ولا سيما شركات النفط والغاز، ويعتقد أن مثل هكذا رسائل قد تساعد باتجاه سحب البساط من فرنسا التي تسعى جاهدة إلى إيجاد موقف أوروبي مساند لها في صراعها مع تركيا.
وتشير المعطيات في الساحة الليبية أن المصالح الفرنسية تتعرض لزلزال تركي موجع، لكن من الصعب القول أن فرنسا سوف تقف مكتوفة الأيدي وتسلم بالهزيمة، وبالمقابل لن يكون من السهل أن تمضي أنقرة في تحقيق مصالحها الاستراتيجية في ليبيا دون أن تتعرض لهزات قوية، يبقى القول، أنه لا يمكن فصل الصراع الثنائي عن بقية الصراعات للأطراف كافة، فالواضح أن وجود تفاهمات “مسبقة” من عدمها بين بعض الأطراف في الأزمة الليبية مرتبط بالمصالح، فعلى سبيل المثال: هناك تفاهمات فرنسية روسية حتى الأن يقابلها عدم توافق فرنسي أمريكي تجاه الحل للأزمة الليبية.
وفي جانب آخر، من الملاحظ أن الموقف الأوروبي ليس واحدا لا سيما مع إصرار فرنسا أن تمضي في فرض حلولها الخاصة بعيدا عن أي توافق مع دول الاتحاد الأوروبي وتحديداً ألمانيا، التي سعت خلال هذا العام إلى إيجاد أرضية مناسبة للحل في الملف الليبي، فيما الموقف الإيطالي المتردد تارة والمرتبك تارة أخرى يعزز من غموض توجهاتها وبالتالي فقدان مصالحها التاريخية في ليبيا، وفيما يخص الجانب الأمريكي، يبدو أن هناك تفاهمات محددة مع تركيا انعكست بشكل مباشر في سرعة التدخل والحسم لصالح طرف تعتقد واشنطن أن الحفاظ عليه سوف يحافظ على مصالحها الاستراتيجية ولو في حدها الأدنى.